في المقال السابق قدمنا تعريفًا موجزًا لرؤية المفكر الكبير الأستاذ محمد فريد وجدي، رحمه الله، عن الأصول الحضارية التي جعلت للإسلام غلبة على ما سبقه من مدنيَّات وحضارات.

وختمنا بالسؤال: إذا كانت هذه هي أصول الإسلام؛ التي هي- كما يقول وجدي- من خصوصيات الإسلام، والتي بها غالَبَ الإسلامُ جميعَ العقائد التي كانت منتشرة على عهده، فغلبها؛ وحلَّ من النفوس والعقول محلَّها.. فلماذا انحط المسلمون وفيهم هذه الأصول؟! وماذا جرى لتلك الأصول حتى لم تعد تفعل فعلها: من الرقي بأصحابها، والبلوغ بهم إلى درجات عليا في سلَّم الحضارة؟!

وهنا نشير إلى أن مفكرنا الكبير قد أجاب، في شيء من الوضوح والإيجاز معًا، بالقول: الجواب ليس بالأمر الصعب؛ ذلك أنهم انحرفوا عنها، وتنكروا طريقها؛ بل دابروها كل المدابرة، وعادوها جد العداء، وعملوا على خلافها جهد طاقتهم؛ كأن حظهم من الدين استحال إلى مناقضتها، والعمل بما يعاكسها..!!

ثم شرع فريد وجدي صاحب (المدنية والإسلام)- وهو الكتاب الذي أورد فيه هذه الخلاصات والمقارنات المهمة جدًّا- في بيان ما جرى لهذه الأصول الحضارية للإسلام، وكيف تنكب المسلمون عن تلك الأصول المميزة والمتمايزة، بحيث فقدت فاعليتها في حياتهم، ولم يعودوا بها سادة ولا أصحاب حضارة ورقي كما كانوا من قبل!

فيقول عما جرى للأصل الأول، وهو التخليص بين الإنسان وخالقه: هل بقي المسلمون على هذا الأصل؟ لا؛ إنهم اتخذوا قبور صالحيهم قبلة يتوجهون إليها، وبنوا عليها القباب واتخذوا فوقها المقاصير.. نعم، إن المسلمين لم يصلوا من هذه الوجهة إلى مثل ما وصل إليه سابقوهم من أهل الملل الأولى، ولكنهم حادوا عن أصلهم الأول بما لا يتفق مع روحه الخالصة النقية، وزادوا انحرافهم ضوضاء بما يتخذونه من الاحتفالات حول تلك القبور فيما يسمونه بالموالد.

ويوضح أن المسلمين بهذا الانحراف انحرفت قلوبهم عن حكمة ذلك الأصل، ولم تعد تستفيد من آثارها عليها، وظهر المسلمون من هذه الوجهة بمظهر الأمم المتبربرة الذين جاء الإسلام بالنعي عليهم والأخذ على أيديهم.

وفيما يتصل بما صار إليه الأصل الثاني، وهو المساواة العامة، فيشير فريد وجدي إلى أن المسلمين قد صدفوا عنه أيضًا؛ فقسموا الناس قسمين: قسم سموهم “رجال الدين”، وقطعوهم عن الأعمال الدنيوية، وقصروهم على خدمة المساجد.. وقسم آخر سموه “أهل الدنيا”.

ويضيف، في مقارنة مهمة كاشفة: صار هذا التقسيم أضر على المسلمين مما كان منه في الأمم السالفة؛ لأن تلك الأمم كانت فيها وظائف رؤساء الدين منصوصًا عليها في ذات الدين، فلما نشأت السلطة الدنيوية وقويت شوكة الشكوك وتنازعت السلطتان قيادة الأمم؛ حصَّلت تلك الأمم من ذلك النزاع تجاربَ نفعتها في تحديد السلطة الدنيوية وردها إلى ما يوافق مصلحتها فيما بعد. ولكن نشأ هذا التقسيم في المسلمين ضد طبيعة الدين بمحض إرادة الحاكمين؛ فلم يكن لطائفة رجال الدين دائرة اختصاص يدافعون عن حدودها، وكانوا طول عهدهم ألعوبة في يد القادة الدنيويين؛ فلم تشعر الأمة من وجودهم إلا برؤية ذواتهم، ولم تتدافع الطائفتان لتتعلم بتدافعهما موضع مصلحتها منهما.

وأما الأصل الثالث، وهو تقرير مبدأ الشورى في الحكومة، فقد انحرفت عنه الأمة من زمان بعيد، أي من عهد معاوية بن أبي سفيان- كما يرصد فريد وجدي- حين ناهض الخليفةَ الرابع، ولم يعبأ بإجماع أهل الحل والعقد في إسناد الخلافة إليه؛ فأدرع [أي توسل واحتمى] بالقوة القاهرة لتحقيق أمانيه، وأوجب على الناس طاعته بقوة السلاح، وعهد بالأمر لابنه يزيد… فضاع أصل الشورى، واستحال الأمر من بعد ذلك إلى الاعتماد على القوة… واستمر المسلمون في حركتهم القهقرية حتى ورث الغرب أكثر أصولهم، فما شعروا إلا وهم محاطون بالأمم الاستعمارية من كل مكان.

ويضيف: أما من جهة الأصل الرابع، وهو تعليق السعادة والشقاوة في الحياة الأخرى على الأعمال والصفات الذاتية لا على الشفاعات والقرابات؛ فقد كابد عين الانحراف الذي كابده ما تقدمه من الأصول؛ ذلك أن دهماء المسلمين بما تأسروا به (أي سُلبوا وتقيدوا) من مطالعة الكتب التي وضعها جهلة المؤلفين من أهل البطالة والتعطل، وقر في نفوسهم أن المكانات الأخروية تنال بمجرد قراءة بعض الدعية والهمهمة ببعض الألفاظ؛ وقد نقل أولئك المؤلفون من الأحاديث الموضوعة والآثار المكذوبة ما يكفي لتضليل العقول عن الحقائق الروحانية المقررة؛ فصرفتهم عن حقائق الدين، وموهت عليهم الأباطيل.

وعن الانحراف الذي أصاب الأصل الخامس، وهو الاعتراف بحقوق العقل والعلم، فيتأسف فريد وجدي من أن قيمة العقل انحطت، واستعدت الأذهان لقبول كل ما يقال ولو كان فيه هدم الأصول الشريعة، ثم زادوا في هذه الطريقة غلوًّا فحرموا الاعتراض على ما يُروى من تلك المناقضات للعقل، وأوعدوا من يتجارى على تكذيبها بالحرمان من الرحمة الإلهية.. فلم يبق للآيات الداعية إلى تعقل الأمور وتدبرها بعين النقد أثر في النفوس، وتبع ذلك ما يستلزمه من انحطاط مداركهم، ووقوفهم موقف العاجز أمام الحقائق الساطعة.

ويتابع في الأصل السادس: لقد انحرف المسلمون عن المؤاخاة بين الدين والمدنية؛ فإن الحروب التي وقعت بين أمراء المسلمين في القرن الثاني وما يليه، صرفت الأذهان عن نعم الحياة الرضية، ولفتتها إلى ما أعد لها في الحياة الأخروية، فراجت الكتب الزارية على الدنيا، الناعية على أهلها ولوعهم بها، وأكثر المؤلفون من إيراد الحكايات عن الزهاد والمتصوفة؛ فأشربت نفوس المسلمين الاستكانة والذلة، وتوجهت إلى إيثار الزهد والإقلال، وتطرفوا فعدوا مظاهرا المدنية من فاتنات النفوس وقاطعتها عن كمالها..

أما الأصل السابع، وهو تنبيه الإنسان إلى أن للوجود الإنساني سننًا لا تتبدل، فقد انقلب في نظر المسلمين إلى ضده؛ لأنهم- كما يقول فريد وجدي- لما اعتمدوا في حياتهم على الأوهام والأماني وعولوا في تصرفاتهم على الخرافات والأضاليل الموضوعة؛ ذهلوا عن النظر للواقع المحسوس، وشغلهم الطيران في جواء الخيالات عن التدبر في الحقائق الراهنة؛ فلم يتحروا الأسباب، ولم يلتمسوا وجوه النجاة؛ وكأنهم وقر في نفوسهم أن تبدل حالهم إلى حال أحسن يجيء بمحض الدعاء، أو بحادثة غير منتظرة!

ويتابع، فيما يخص الأصل الثامن، وهو لفت الإنسان إلى نظام الطبيعة، لتغذية روحه وعقله ونظامه الاجتماعي: لقد حاد عنه المسلمون، فقَصَروا العلم على العلوم الكلامية، وصار كل اهتمامهم في المجهودات العقلية موجهًا إلى تفهم كلام الأقدمين! ويا ليتهم توسعوا في هذا الباب فجمعوا كتب آبائهم في الطبيعيات والرياضيات والطب والفلك، بل اقتصروا على علوم الكلام وتفرغوا لها فصاروا غرباء حتى عن تحقيقات أسلافهم في الكون؛ فلم ينبغ فيهم واحد كابن سينا أو ابن رشد أو الفارابي، وانحطت مدركاتهم عن الكون حتى لم يعد فيهم من يبحث عن قوى أجسادهم وطبيعة أرضهم..!

وأما الأصل التاسع، وهو الاعتراف بحقوق ميول الإنسان وعواطفه؛ فقد خبطوا فيها على غير بصيرة تبعًا لانحرافهم في الأصول السابقة! وهل يميز بين الميول الحقة والوهمية، وبين العواطف الحسنة والرديئة إلا العالمون بأسرار العلوم النفسية، وأنّى لهم ذلك وتلك العلوم فرع من العلوم الطبيعية وهي قابلة للترقي إلى غير حد.

ويضيف: الأصل العاشر، وهو العمل على توحيد العالم في دائرة المعاملات- أي أن دائرة المعاملات، بما تعنيه من حفظ الحقوق وصيانة الحرمات، تشمل الناس جميعًا، ويستفيدون منها على حد سواء-فقد أصابه ما أصاب سواه؛ إما من عدم الباحثين في هذا الأمر، أو لعدم إمكان تنفيذه بما دخل فيه المسلمون من الجمود؛ فإنهم لذهولهم عن جميع أصولهم المحيية صار أمرهم ليس في أيديهم، وأصبحت شئونهم الخاصة والعامة تبعًا لشئون سواهم. فسواء بحثوا في مثل هذا الشأن أو لم يبحثوا فيه، فليس لهم حول على عمل تمليه عليهم الفِكَر الناضجة والآراء الأصيلة.

وأما الأصل الحادي عشر، وهو الاعتراف بناموس الترقي، فيقول فريد وجدي عما أصابه من انحراف: المسلمون اليوم يميلون للرجعى إلى دور من أدوارهم الماضية.. ولم يعملوا في هذا السبيل عملا يؤدي إليه؛ كأننا نزعم أن ذلك يتم بمجرد تَمنِّيه!

ويضيف: الأصل الثاني عشر، وهو تقرير أن الدين شُرع لفائدة الإنسان ومصلحته لا لتسخيره وإذلاله، لم يعد أحد يبحث فيه؛ فترى ألوفًا المعلمين يعلمون الدين في المساجد والمعاهد العلمية مكتفين منه بكيفية الوضوء والصلاة والحج والزكاة، ولم يتعرض واحد منهم لبيان الحكمة المقصودة من هذه العبادات؛ حتى وقر في نفوس العامة والخاصة أنها تطلب لذاتها لا أنها وسائل لغيرها..

ويختم بما جرى للأصل الثالث عشر، وهو إطلاق حرية البحث لأولي البصر بالدين؛ قائلاً: لقد استحال إلى عكسه، فوقر في النفوس اليوم أن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن الأمة يكفيها أن تكون عالة على أسلافها في جميع الكليات والجزئيات، ليس في الأمور العبادية فقط بل وفي جميع المسائل الشرعية مما يختص بالمعاملات؛ ولم يكفهم هذا التضييق حتى قرروا أنه لا يجوز لإنسان أن يخلط بين المذاهب فيقلد إمامين في وقت واحد!

هذه كانت رؤية المفكر الكبير الأستاذ محمد فريد وجدي، رحمه الله، صاحب (المدنية والإسلام)، و(دائرة معارف القرن العشرين).. لما امتاز به الإسلام من أصول حضارية، ولما جرى من انتكاس لهذه الأصول في واقع المسلمين..

وهذه الرؤية- في سؤالها الأول الذي يستخلص الأصول الحضارية للإسلام- تطرح فهمًا متميزًا يرسم صورة كلية للإسلام، مما يعطي تصورًا دقيقًا عن “نموذجه المعرفي”، لاسيما فيما يتصل بالجانب الحضاري.

كما أن هذه الرؤية- في سؤالها الثاني الذي يرصد ما جرى لهذه الأصول- تعد درسًا بليغًا في “النقد الذاتي”؛ الذي يجب أن يكون عليه المفكر أو العالم أو صاحب الرأي.. فلا بديل عن مصارحة ذاتنا بما صرنا إليه، وبما يجب علينا فعله.. تلك أمانة العلم، وفريضة الوقت، وشرط استئناف النهوض من جديد!