مازالت قضايا المرأة تشغل كثيرًا من اهتمامات العقل المسلم المعاصر، خاصة إذا أدركنا ما تمثله المرأة في واقعنا من مكانة، وما يختزنه دورها من طاقات وإمكانات. غير أنه، وللأسف، لم يرقَ كثير من هذه الاهتمامات إلى المستوى المأمول؛ حيث الإسلام قد أعلى مكانة المرأة وأنصفها، وحيث الواقع يفرض كثيرًا من ضرورة الانتباه لدورها.. وغابت المرأة- أو غُيِّبت- عن مساحات كثيرة. في هذا الحوار الذي خصت به “إسلام أون لاين”، نتعرف مع د. كريمة بولخراص، على أسباب غياب المرأة عن مساحات “علمية”- كعلم التفسير- و”ميدانية” في حياتنا الراهنة. بحثًا عن كيفية استعادة هذا الدور وتفعليه، وما يتطلبه من مسارات بحثية وعملية.

 

“كريمة بولخراص” أكاديمية جزائرية بجامعة وهران، حاصلة على دكتوراة في الكتاب والسنة عام 2014م، وعلى شهادة التأهيل الجامعي عام 2015م، وهي عضو بالمجلس العلمي واللجنة العلمية لقسم العلوم الإسلامية، وشاركت في ملتقيات دولية ووطنية.

لها كتابان تحت الطبع: “نظرية المقام تأصيلاً وتنزيلاً”، و”مقامات الخطاب في القرآن الكريم.. الترغيب والترهيب أنموذجًا”. إضافة إلى أبحاث ومقالات عدة؛ منها: “الخطاب القرآني بين الطبيعة التشريعية العامة والخصوصية التنفيذية”، “آليات تقويم السلوك في القرآن الكريم: الترغيب والترهيب أنموذجًا”، “تعديل قانون الأسرة الجزائري بين مقاصد المشرع ومقاصد الشارع”، “أحاديث من قال فيه ابن حجر صدوق يهم عند العلماء.. أحمد شاكر أنموذجًا”، “أثر العولمة على الثوابت والمعتقدات الدينية”، “الإضافات المنهجية لمالك بن نبي في التفسير.

وفيما يلي نص الحوار:

كيف ترين جهود المرأة في تفسير القرآن الكريم، تاريخيًّا؟

لا يمكن تقييم جهود المرأة في التفسير إلا من خلال ما نقلته المدونات عن هذه الجهود، وهي قليلة جدًّا؛ سواء من حيث تدوين النساء اللواتي اشتغلن بالدرس القرآني بشكل عام أو بالتفسير على وجه الخصوص؛ فنحن لا نكاد نجد في كتب التراجم أو التاريخ أو حتى المدونات التي عملت على إحصاء أعلام التفسير والمشتغلين في الدراسات القرآنية، إلاّ أسماء تعد على الأصابع، وهو أمر لا يمكن حصره فقط في الدراسات القرآنية بل يمكن تعميمه على مستوى الكثير من الدراسات الشرعية، وإن كان غياب المرأة في جانب التفسير أوضح.

ولم هذا الأمر؟

هناك عوامل وأسباب عدة أدت لهذه الندرة، منها الظروف الاجتماعية وتوجهات واهتمامات المرأة في كلّ مرحلة، ولعلّ أهمها طبيعة التكوين التي كانت سائدة. نحن إذا ما اطلعنا على ظروف تكوين أي عالم تدون اسمه في المدونات التفسيرية، ظهر لنا صعوبة تحققها عند المرأة في تلك المراحل.

فقد كانت طبيعة التكوين تتطلب السفر للبحث عن المعلومة وتنويع مصادر المعرفة، التي لم تكن متوفرة في مكان واحد أو لم تكن كافية لعقلية عالم.. هذا فضلاً عن عدم وجود مؤسسات تهتم بتكوين المرأة في موطنها، بما جعل التكوين عند المرأة منحصرًا في الأسرة إن كانت عالمة.

وطبعًا يستحيل في ظل هذه الظروف ظهور مفسِّرة للقرآن الكريم، مع طبيعة القرآن الكريم وما يتطلبه من شروط لتفسيره.

فلما تغيرت هذه الظروف، وفُتح الباب أمام المرأة للتعلم والبحث، ظهرت لنا أسماء لنساء فسرن القرآن الكريم؛ إما تفسيرًا كاملاً أو جزئيًّا؛ نحو عائشة بنت الشاطئ، وزينب الغزالي، وحنان اللحام وغيرهن.

هل أدى هذا الغياب للمرأة إلى وجود قراءة منحازة للرجل في التفاسير، أم أن الأمر لا يرتبط بجنس المفسِّر رجلاً كان أم امرأة؟

لا شك أن جنس المفسِّر يشكِّل مظهرًا من مظاهر تفاعل المتلقي مع النص، وهي مسألة ظهرت مع المتلقي الأول للرسالة؛ من خلال أسئلة واستشكالات تبين تأثير جنس المتلقي، سواء من ناحية فهم مقاصد صاحب الرسالة من تشريعه، أم من حيث فهم مضمون النص.

فقد سألت السيدة أم سلمة رضي الله عنها عن سبب اكتفاء القرآن الكريم بذكر الرجال في الهجرة وعدم ذكر النساء، فجاء النص بما يزيل أي إشكال، كما جاء ليحدد طبيعة العلاقة بين النساء والرجال؛ فلكلٍّ مهمته ولكل نصيبه وليس لأحد أن يتطلع لما وهبه الله للآخر، وهذا السؤال وإن كان القصد منه محاولة اطمئنان على مصير عمل المرأة وجهودها، ولكنه يُظهر في المقامِ نفسِه الزاويةَ التي نظرت منها المرأة للنصوص لكونها امرأة.

وهي الحال نفسها التي تعاملت فيها السيدة عائشة رضي الله عنها مع رواية قطع الصلاة- في الحديث المعروف- فقد تساءل عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن سبب ذكر الكلب الأسود دون غيره من الكلاب.. وهو السؤال نفسه الذي سأله أبو ذر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم.. ولم يلتفت أحدهما لقضية ذكر المرأة مع الحمار والكلب الأسود، ولكن السيدة عائشة– لأنها امرأة- انتبهت لهذا الاقتران فقالت: “شبَّهتمونا بالحمر والكلاب.

إن هذه الوقائع التي حدثت في مجتمع الرسالة تنبهنا إلى زاوية أخرى يمكنها أن تجلي لنا معاني مختلفة عن المعاني التي ينتبه لها الرجل؛ لكونها خارج أولوياته، أو لم تلمس طبيعته؛ وهو ما جعل التفسير يأخذ إلى حد ما الصبغة الذكورية.. مما يفرض دورًا مهمًّا للمرأة في فهم النص الشرعي والشريعة بشكل عام، وخاصة في القضايا التي تتصل بها.. كما يجعل من ولوجها هذا الباب أمرًا ملحًا.

لاشك أن القرآن الكريم قدَّم رؤية منصفة للمرأة، فيما انحرفت عنها السلوكيات الإسلامية بعد ذلك، حتى رأينا عشرات الآراء الشاذة فيما يتصل بالمرأة وقضاياها.. ما أهم ملامح هذا الرؤية المنصفة؟

تشكل صورة المرأة في القرآن الكريم أنموذجًا متميزًا لقيم إنسانية عالية، رغم أن القرآن لم يحمل طابع المحاباة أو تطييب خواطر النساء، فقد صور المرأة بمختلف الحالات التي يمكن للمرأة أن تمر بها، ومختلف الأدوار التي يمكنها تأديتها، سواء على الصعيد الاجتماعي، أو الديني.

فقد ظهرت المرأة في هذه الحالات- إذا ما استثنينا بعض النماذج المحدودة- مثالاً للصبر، والثبات، والتضحية، كما ظهرت مثالاً للحكمة والتأثير، وهي في ذلك كله امرأة مستقلة في اختياراتها وفي مبادئها، وليست مجرد تابع لوسط أو زوج.. فقد عارضت امرأة فرعون زوجها رغم جبروته وقوته، كما عارضت ملكة سبأ رأي مستشاريها بكل موضوعية وحكمة رغم تعودها اعتبار رأيهم في القرارات المصيرية.. كما أن دور المرأة على مستوى الرسالات لم يقتصر على مجرد الإيمان والتلقي السلبي لمتطلباتها، بل كان أثرها فاعلاً في حياة الرسل وفي دعم جهودهم الرسالية.

إن الصورة التي قدمها القرآن الكريم للمرأة، رغم نزوله في وسط مهمِّش للنساء، يجعل الباحث في قضايا المرأة ينطلق من جملة من المحددات:

– أولها الإمكانات العقلية والنفسية التي تمتلكها المرأة والتي تجعلها لا تختلف عن الرجل من حيث تحمل الرسالة وتحمل تبعاتها؛ فقد وضعت في أصعب الظروف وثبتت بحكمة.

– أن المرأة كما الرجل خُلِقا في الحياة لأداء رسالة، كلٌّ كُلِّف بحسب طبيعته وبحسب المجال الذي يثمر فيه.

– كما أنها لا تختلف عن الرجل فيما يمكن أن يصيبهما من انحرافات، وليس الانحراف خاصية نسائية بل العكس؛ فأكثر النماذج جرمًا في القرآن الكريم كانت من الرجال.. وهذا طبعًا مختلف عن ما نجده في الكثير من المدونات الإسلامية التي تظهر وكأن الشر خاصية نسائية.

– ولعل أهم ما يمكن ملاحظته في الذكر الحكيم هو طبيعة العلاقة التي تجمع بين الرجل والمرأة، والتي لا نرى فيها أي ملمح تخويفي أو عدائي بين الطرفين.

إذن، كيف حدث الانحراف عن تلك الرؤية؟

نستطيع القول إن الانحراف في الفكر الإسلامي شمل جملة من القضايا الكبرى من بينها قضية المرأة، فقد وقع خلل على مستويات عدة لعل المشترك بينها الخروج من دائرة الكليات وعدم تفهم منهج الرسالة ومقاصدها الكبرى، والاكتفاء بالإغراق في الجزئيات.. وهو ما جعل قضايا المرأة تُتناول بهذا المنهج الذي ظهر وبقوة في إبراز جملة من النصوص التي أُخرجت من سياقها وأُبعدت عن مقاصد ورودها، لتصبح هي الحكم والفيصل في التعامل مع المرأة وبيان طبيعتها.

أصبح حديث نقصان عقل المرأة دليل نقصان عقلها وكذا نقصانها.. وتولية المرأة مقاليد الحكم دليلاً على عدم فلاح أي قوم مكنوا المرأة من مقاليد الحكم.. وغيرها من النصوص التي لم يتعرف سياقاتها، ولم يميز فيها بين ما قيل في مقام الوعظ والإرشاد وبين ما قيل في مقام التشريع العام.

وما السبيل لاستعادة الرؤية القرآنية لتفعيل دور المرأة المعاصرة؟

لا يمكن استعادة الرؤية القرآنية للمرأة إلا من زاويتين:

الأولى: العودة لقراءة النصوص القرآنية بعيدًا عن ما لحقها من توظيف فكري نابع في الكثير من الأحيان عن تأثير البيئة والأعراف؛ سواء العربية السابقة للتنزيل، أو المجتمعات الأخرى التي دخلت الإسلام بما تحمله معها من تصورات تجاه المرأة.. ومعلوم أن الصورة السلبية لم تكن خاصية عربية. لذا يجب قراءة القرآن في ضوء مقاصده ومنهجه في الإصلاح والبيان. والأكيد أن للمرأة دورًا مهمًّا في هذا القسم.

الثانية: ضرورة استحضار السياقات والمقامات التي وردت فيها النصوص الجزئية؛ لمعرفة طبيعتها والمقاصد التي قصدها صاحب النص.. بما يزيل أي إشكالات أو تناقضات قد تظهر للفكر المعاصر، والتي قد يتذرع بها البعض لاتهام التشريع أو القول بعدم صلاحيته للواقع.

كيف ترين دور المرأة في واقعنا الراهن؟

لا أحد يستطيع أن يهمل أو يهمش دور المرأة في واقعنا، خاصة في ظل التجاذبات الأيديولوجية والسياسية التي توظف فيها المرأة بشكل كبير.. مما يفرض عليها تحمل مسؤولياتها اتجاه قضاياها وقضايا الواقع عمومًا.

لقد حان الوقت أن تخرج المرأة من دائرة التوظيف والاستعمال، حتى تتمكن من إنتاج فكر نابع من ذاتها مُراعٍ لطبيعتها واحتياجاتها.. بما يجعلها مدركة لمقتضيات الواقع ومتطلباته؛ وفي الوقت نفسه، قادرة على التمييز بين الثوابت والقيم المتجذرة في الإنسان وبين ما يمكنه التغيير والتجديد.

بم تفسرين دوران العقل المسلم- فيما يخص المرأة- في مجموعة قضايا، وعدم تجاوز ذلك إلى الواقع الحقيقي الذي تعانيه، أو إلى الدور المأمول منها؟

الحرية والمساواة من القضايا التي يحتفي بها الإنسان المعاصر، ويعتبرها مظهرًا مهمًّا لما حققته الإنسانية اليوم من إنجازات.. وهذا ما يدفع الفكر إلى محاولة القضاء على أي مظهر من مظاهر التمييز أو التقييد من الحرية، وهو ما يجعل البحث في قضايا المرأة في الشريعة بحثًا خصبًا خاصة مع وجود نصوص تظهر التفرقة بين أحكام المرأة وأحكام الرجل؛ نحو التفرقة في الميراث، والحد من حرية المرأة، والحقوق السياسية، وغيرها من الأحكام الخاصة بالنساء.

ولكن أسوأ ما يمكن ملاحظته على هذا التوجه، الاكتفاء- في النظر لقضايا التمييز أو الحد من الحرية- بالجزء الواقع في دائرة التفرقة، دون نظرة كلية لطبيعة أي حكم ولا التعرف على محدداته أو مقاصده.

إننا إن أردنا التعرف على أحكام فرِّق فيها بين المرأة والرجل، علينا تفهم فلسفة التشريع، والنظر للنصوص نظرة كلية يستحضر فيها مسؤوليات كل طرف، وما الذي يمكن للمساواة تحقيقه في ظل عدم تفهم المنظومة التشريعية بعمومها.. هذا ما أحدث خللاً معرفيًّا عند الكثير من الباحثين.

ما أبرز قضايا المرأة التي تحتاج إلى معالجة تجديدية؟ وما دور “التفسير” في ذلك؟

يمكن القول: إن تصحيح صورة المرأة، من حيث قدراتها ومسؤولياتها، ومنظومة الحقوق والواجبات، قضايا ملحة تستوجب إعادة قراءتها وفق ما جاء به القرآن الكريم تنصيصًا ومنهجًا.. وهو ما يتكفل به علم التفسير.

وهل ذلك يطرح حاجتنا الأعم إلى تفسير برؤية جديدة تراعي الإشكالات والمستجدات المعاصرة؟ وما أهم الضوابط المانعة من انحراف القراءات التجديدية للقرآن الكريم؟

إنّ من علامات خلود القرآن الكريم وصلاحيته لكلّ زمان ومكان، إمكانية معالجته للقضايا التي يثيرها كلّ عصر، لا بالتنصيص على كلّ قضية وبيان تفاصيلها، ولكن من خلال الأصول الكلية والقواعد العامة ومنظومة المقاصد والقيم التي أرساها هذا الكتاب العزيز.. وهو ما يتطلب من كلّ باحث يريد تفعيل القرآن في الواقع وتجديد فهمه وفق ما يفرضه الواقع من متغيرات؛ أن يكون مستوعبًا لهذه المنظومة، مدركًا لخصوصياتها وأبعادها، مُعمِلاً لها في كلّ مسألة يراد تجديدها؛ حتى لا ينزلق المفسر بالرسالة عن مقاصدها.