كثيرا ما يخطر بالبال سؤال حول العظماء والقادة والمسؤولين، كيف يكون حالهم في بيوتهم مع زوجاتهم وأبنائهم؟ هل يخلعون الألقاب وأبهة المسؤولية وتبعاتها خارج البيت؟ ويكونون في بيوتهم أزواجا وآباء بما يعنيه ذلك؟  أو يدخل أحدهم بيته بوظيفته ولقبه؟.

ومن هنا كان هذا التساؤل حاضرا أيضا في أذهان كثير من التابعين، فطفقوا يسألون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن حاله في بيته فهو الأسوة والقدوة.

وقد أخرج البخاري في صحيحه عن الأسود قَالَ: ” سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ “. وفي رواية عند أحمد “كَانَ يَخِيطُ ثَوْبَهُ ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ ”

لقد سئلت عائشة رضي الله عنها كثيرا من عدد من التابعين عن هذا السؤال: “ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته إذا كان عندك؟”

ونساء النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرن أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة. ولذا فقد تلقّت عائشة رضي الله عنها هذا السؤال بحفاوة واهتمام، وفتحت نافذة على بيت النبوة؛ لنرى منها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة الخاصة في بيته مع أهله، ووصفته بوصف وجيز بليغ. فقالت كما في الجامع الصحيح للسنن والمسانيد: ” كَانَ بَشَرًا مِنْ الْبَشَرِ، يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَرْقَعُ ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ، وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ، خَرَجَ إِلَى الصَلَاةِ ”

وعنها أيضا أنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته ألين الناس، وأكرم الناس، كان رجلاً من رجالكم إلاّ أنه كان ضحّاكًا بسّامًا”.

باقة زكية من الصفات النبوية، أودعتها عائشة رضي الله عنها في هذه الجمل الوجيزة بهذا البيان البليغ، وكل صفة من هذه الصفات التي اختارت عائشة بعناية تحمل بعدا تربويا عظيما.

فقولها رضي الله عنها: “ما كان إلا بشرا من البشر” لا تريد منه قطعا أن تقرر بشريته صلى الله عليه وسلم وأنه ليس ملكا، فهذا أمر معلوم لدى الجميع. وإنما أرادت بذلك تقرير بشريّته في التعامل الأسري، أرادت أن تخبر من يسأل عن حال النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وعن كيفية معاملته لزوجاته، أنه ما كان يدخل بيته على أنه قائد الأمة، أو الرسول الذي يوحى إليه، ولكنه يدخل بيته على أنه الزوج المتواضع، فيعيش أهله معه بساطة الحياة الأسرية وعفويتها دون تكلف، فلا ترى فيه زوجته إلا الزوج الحنون الرحيم، مع أنه  سيد ولد آدم وإمام البشرية، والعظيم الذي لا تمتلئ الأعين من النظر إليه مهابة وإجلالاً، كما قال عمرو بن العاص: مَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ ، لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ.

وكم ينسى أو يتناسى أصحاب الجلالة والفخامة والسمو هذا المعنى النبوي العظيم، إذ يصطحبون معهم هذا المقامات، والألقاب إلى بيوتهم، فيدخل أحدهم بيته لا على أنه الزوج والأب، بل على أنه سعادة الوزير، أو المدير، أو الدكتور وهلم جرا، وكان الأجدر بمثل هذه الألقاب أن تخلع عند عتبة الباب،  حتى يعود المرء إلى مكتبه، وأما في البيت فليكن زوجا وأبا فحسب. يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه : دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا  هُوَ عَلَى أَرْبَع وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى ظَهْرِهِ ، وَهُوَ يَحْبُو بِهِمَا فِي الْبَيْتِ وَهُوَ يَقُولُ : ” نِعْمَ الْجَمَلُ جَمَلُكُمَا ، وَنِعْمَ الْعِدْلانِ أَنْتُمَا” كما في المعجم الكبير للطبراني.

هذا التواضع وهذه البساطة مع الأهل وفي البيت لا تنقص من قدر المرء ولا تحط من منزلته ومكانته العلمية أو العملية كما قد يخيل للبعض، بل تزيده رفعة، وتكسوه هيبة وإجلالا ومحبة.

تقول عائشة رضي الله عنها وهي تصف حال النبي صلى الله عليه وسلم في بيته: “كان يكون في مهنة أهله” أي يعينهم ويساعدهم في خدمة البيت وواجبات المنزل وليس ذلك لكثرة الأعباء ومشقة العمل على نسائه في بيوته،  ولكن هناك معنى أعمق، وهو المواساة والإشعار بالمشاركة التامة في الحياة الزوجية. فهذه الأعمال اليسيرة في المنـزل وتلك المشاركة ولو كانت بسيطة، تصل إلى قلب الزوجة مشفوعة بمعاني الحب والمودة والرحمة، فيكبر الزوج في عين زوجته بقدر تواضعه، ويعظم في نفسها بقدر بساطته.

فما أجمل أن تشعر الزوجة أن زوجها لا يكتفي فقط بتقدير جهدها وتعبها في تربية الأبناء وتهيئة الجو المناسب ليرتاح هو من مشقة العمل، وإنما يساعدها أيضا في أداء بعض أعمال المنزل وواجباته، ولو لم تكن هي بحاجة إلى ذلك.

وأما وصف عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه: “كان رجلا من رجالكم إلا أنه كان ضحّاكا بسّاما” فإنها تقصد بذلك الوصف أن بيت النبوة لم يكن فيه التواقر المتكلّف، والتزمّت المقيت، والأبهة المصطنعة، ولكنه حبور وتبسم وأنس وسعادة.

وأين هذا من أناس -ولا أخص الرجال دون النساء- يبذلون حسن الأخلاق، وكريم المعاشرة، ورقيق المجاملة، وبشاشة المحيا بسخاء في تعاملهم العام مع الناس، وأما حين يدخلون بيوتهم ينسون ذلك الخلق الجميل، والابتسامة الرائعة، عبوس في الوجه، وفظاظة في القول، وتبرم وتضجر، مع أن الأهل هم أولى الناس ببشر المرء وحسن خلقه.

أخرج الترمذي وابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”.