خلال رحلته الأولى لطلب للعلم، وهو بعد في مقتبل العمر، تعرض حجة الإسلام أبو حامد الغزالي[450-505هـ/1058-1111م] لموقف طريف وثقه ابن تاج الدين السبكي في (طبقات الشافعية)، مفاده أن لصوصا اعترضوا الجماعة التي كان فيها وسلبوهم كل ما معهم. يقول الغزالي : فتبعتهم، فالتفت إلي مقدمهم وقال: ارجع ويحك وإلا هلكت، فقلت: اسألك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد علي تعليقتي، فما هي بشيء تنتفعون به، فقال: وما هي تعليقتك؟ فقلت: كتب في تلك المخلاة، هاجرت لسماعها وكتابتها، ومعرفة علمها. فضحك وقال: كيف تدعي أنك عرفت علمها وقد أخذناها منك فتجردت من معرفتها، وبقيت بلا علم؟ ثم أمر ببعض أصحابه فسلم إليه المخلاة. قال الغزالي : هذا مستنطق أنطقه الله ليرشدني به في أمري، فلما وافيت طوس، أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميع ما علقته، وصرت بحيث لو قطع علي الطريق لم أتجرد من علمي”.

نحن أمام فتى بلغ شغفه بالعلم أن اعترض سبيل اللصوص راجيا منهم استرداد كتبه، فبينوا له الخلل في منهجه ليستدركه، وتنبه الفتى إلى أن في توجيههم إشارة إلهية عليه أن يلتقطها، فاستدرك الخلل وغير المنهج. لكن أمر التعليقة ليس خاصا بالغزالي وحده، بل هو اليوم شأن كل مسلم يستشعر ما يُحاك ضد ذاكرة الأمة، وينبغي له إعادة النظر في أولوياته، و التخفيف من أنانية العيش في سبيل نصرة المشترك، أعني الدين والهوية والمخزون الحضاري .

يزخر العالم الإسلامي بنماذج عدة سعت لاسترداد “تعليقتها”، وتحويل حلم عادي وبسيط إلى مهمة حضارية. وليس في الأمر ما يفيد الاستثناء، فكل مسلم يصادف في حياته منعطفا يوازن فيه بين مواصلة الحياة كفرد عادي أو الانكباب على مشروع يحمله إلى مصاف الملهمين الكبار. والسعيد من أجاد قراءة الإشارة الإلهية ليرفع عن طواعية ذاك التحدي.

كانت ندوة للمستشرق الألماني هيلموت ريتر عن العالم الإسلامي كفيلة بدفع الطالب فؤاد سَزكين[1924-2018م] للتخلي عن حلمه في الالتحاق بكلية الهندسة، والإقبال على البحث في تاريخ العلوم الإسلامية. ودلّه أستاذه “ريتر” على أول الطريق بتتبع إسهامات علماء المسلمين في إرساء أسس الرياضيات الحديثة، أمثال الخوارزمي، وأبو الوفاء البوزجاني، والبيروني، وابن الهيثم. ولم يكن سعي سَزكين خلف “تعليقته” هينا، إذ تطلب الأمر جهدا شاقا لتعلم اللغات التي تعينه على فهم المؤلفات الأصلية، كالعربية ،والسريانية، والفارسية، والعبرية وغيرها. ثم أقبل على المخطوطات الموجودة بمكتبات بلاده ليسد النقص الذي بدا له وهو يطالع كتاب “تاريخ الأدب العربي” للمستشرق بروكلمان، ويتفرغ بعدها لتأليف عمله الضخم “تاريخ العلوم الإسلامية ” الذي استنفذ خمسة وخمسين عاما من عمره، إلى جانب إشرافه على تأسيس معهد ومتحف للعلوم العربية والإسلامية في مدينة فرانكفورت بألمانيا.

أسهمت “تعليقة” سَزكين في كشف لصوص الذاكرة، وقراصنة الاختراعات الذين حرصوا على طمس النبوغ العلمي للمسلمين، ونسبة الفضل لغير أهله. ومن طريف ما خلص إليه سَزكين بعد رحلة طويلة من التنقيب والبحث والمقارنة: مكر الأمة الإيطالية واستحواذها على جزء غير يسير من العطاء العلمي للمسلمين. يقول سَزكين :” لم يشهد تاريخ العلوم ظهور أمة تحمل من الذكاء والعقل والاجتهاد والبراعة وقليلا من المكر كالأمة الإيطالية؛ فلقد نقلوا عن المسلمين كل ما يمكن نقله حيث نقلوا العلوم وأخفوها دائما؛ فعلى سبيل المثال ألف الرياضي وعالم البصريات المسلم ابن الهيثم كتابين كبيرين ترجما إلى اللغة الإسبانية، ونجد أن ترجمة هذين الكتابين للإيطالية ظهرت قبل الترجمة الإسبانية بخمسين عاما، وهاتان الترجمتان موجودتان لدى ليوناردو دافنشي، وأنا أرى أن هذا الأخير قرأ كتب ابن الهيثم، إذ كان أحد كتبه يضم رسوما تخطيطية لبعض الآلات ، لكنه لم يصنع أية واحدة منها، ورغم ذلك بإمكاننا أن نصفه بالعبقري، غير أن جميع الأشياء الموجودة في كتابه تقريبا منقولة عن المسلمين، ولقد توصلت إلى هذه الحقيقة وأدركتها بفضل الفحوص و التدقيقات التي قمت بها في السنوات الأخيرة ” (1)

لم يكن فؤاد سَزكين سوى نموذج من بين عشرات، وربما، مئات النماذج التي بذلت جهدا كبيرا لاسترجاع “تعليقتها” من اللصوص، وحفظ مخزون الأمة وذاكرتها، وكشف جوانبه المشرقة. وما ترمي إليه العولمة اليوم لا يقل ضراوة عما تعرض له الغزالي، من حيث استنزاف الذاكرة، وتكريس الهوة الخطيرة بين الشباب المسلم وماضيه بتحميله وزر التخلف والتبعية.

إن لكل مسلم “تعليقة” لا بد أن يسترجعها، وأن ينهض بواجب الاستخلاف الذي تستمد منه هذه الأمة خيريتها وشهودها الحضاري. ولن يتحقق ذلك إلا بترسيخ ثقافة الاعتزاز، وتجاوز حالة الدونية والشعور بالنقص. وهي الرسالة التي لا يلخصها المجهود العلمي الفائق لسزكين بل حتى مواقفه، فقد أبى رحمه الله أن يتسلم جائزة “هيسن” الثقافية في ألمانيا عام2009 لأنها مُنحت له مناصفة مع رئيس اتحاد يهود ألمانيا، الذي أدلى بتصريحات مؤيدة للعدوان الصهيوني على قطاع غزة !


    1- د. عرفان يلماز : مكتشف الكنز المفقود فؤاد سزكين . ص 108