أعتقد أن بيان حاجتنا إلى فقه “السنن الإلهية”، وإلى ترسيخ “الثقافة السُّننية”؛ أمرٌ لا يحتاج إلى تدليل أو تأكيد! فما كان حالنا على هذا النحو، إلا بسبب غياب هذا الفقه وتلك الثقافة.. وثمة جهود كثيرة لعلماء ومفكرين ودعاة بيَّنت أهمية “السنن الإلهية”، وضرورتها، ودورها في إحداث النهوض، والانعتاق من المأزق الحضاري.

 

وفي هذا الحوار، نقف مع الدكتور يونس عمر ملال، على مفهوم “السنن الإلهية”، وأهميتها، ومصادرها، وكيفية تناول القرآن الكريم والسيرة النبوية لها.. بجانب التعرف على أهم الكتابات المعاصرة التي اشتغلت على هذا المفهوم، وأبرز “السنن الإلهية” التي يحتاجها واقعنا المعاصر بإلحاح.

والدكتور يونس ملال أكاديمي جزائري، أستاذ العقيدة والفكر الإسلامي بجامعة أدرار بالجزائر وأستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.. له عدة بحوث منشورة منها: التفكير السنني عند بديع الزمان النورسي.. دراسة تأصيلية لمفهوم السنن في القرآن والفكر الإسلامي.. السنن وإشكالية الانحطاط.. الدكتور عبد الحليم عويس غيض من فيض.. وكانت أطروحته للماجستير بعنوان (السنن الإلهية في نهوض الحضارة ونكوصها في ضوء نصوص القرآن وفقه التاريخ)، وقد طبعت في كتاب.. وأطروحته للدكتوراه عن (منهج الشيخ محمد الغزالي في تعامله مع القرآن).. ويجهز للطبع حاليًا ثلاثة كتب في التفسير الموضوعي للقرآن، هي: التفسير الموضوعي بين مدارس التفسير.. أصول التفسير الموضوعي للقرآن الكريم.. التفسير الموضوعي عند الشيخ محمد الغزالي.. فإلى الحوار:

كتابات كثيرة تلحّ على “السنن الإلهية”.. نريد في البدء أن نُجلِّي هذا المفهوم، ونبين أهميته.

مفهوم “السنن الإلهية” شغل بالي منذ حوالي عشرين سنة، وكتبت فيه كتابًا مستقلاً وبعض المقالات، ولست وحدي؛ فمنذ وَعَى المسلمون تراجعهم الحضاري، وبدأ المصلحون من أمثال الأستاذ الإمام محمد عبده وتلميذه رشيد رضا يفكرون في طُرق إحياء هذه الأمة من جديد، اكتسى مفهوم “السنن الإلهية” أهمية خاصة؛ ومازال المفهوم يتعمق ويتكامل على يد الأستاذ مالك بن نبي وتلامذته كالأستاذ الطيب برغوث.

وتلقفت مع أبناء جيلي هذا “التراث السُّنني” الثري؛ الذي يتمركز حول الإجابة عن سؤال النهضة، وحاولتُ تعميقه وتوظيفه.. وبالنسبة لي، فإن “السنن الإلهية” تعني مطلق النظام الذي أجرى الله عليه الكونَ المادي، والناسَ فرادى وجماعات.. هي وَضْعٌ أوجده الخالق سبحانه، يحكمنا ولا نحكمه. وسبيلنا لتحقيق ما نريد هو أن نفقه هذا النظام، ونصوغه في قواعد عامة ليسهل التعامل معه.

السنن الإلهية” هي أحكام الله وأوامره ونواهيه وعادته في معاملة خلقه، ومجمل بيانه للطريقِ المستقيم، وحالِ من سار عليه من السعادة أو من خالفه من الشقاء. يستوي في ذلك أحكام الله وعادته التي أجراها على الكون المادي، وتلك التي أجراها على البشر أفرادًا وجماعات وأممًا.

وفي تقديري، فإن العقل المسلم كما علمنا القرآن هو عقل سُنَني بامتياز؛ لأنه يؤمن بالله وفي نفس الوقت يؤمن بترتب النتائج على الأسباب، واطرادها. والثقافة الإسلامية الأصيلة هي ثقافة سُننية تقوم على الإيمان والعمل الصالح، وعلى الحساب الدقيق والموازين الذكية، وليست عقلية الأماني بلا عمل.

والانحراف عن “السُّننية” إلى “اللاسننية” لا يعبّر عن حقيقة الفكر الإسلامي الأصيل؛ سواء ظهر في صورة احتضار الطُّرقيين المعوِّلين على الخرافات، أو انتظار السلبيين الذين لا همَّ لهم إلا التبشير بآخر الزمان، أو انبهار المستلبين الذين عميت بصائرهم جراء بريق الحضارة المادية، أو افتخار الماضويين الذين يرهنون الحاضر من أجل التاريخ.

“الثقافة السننية” كما أفهمها هي ثقافة ضد الخرافة والجهل واليأس والتواكل والكسل، وتعليق الإخفاقات على مشجب الأقدار أو الخصوم.. والقرآن الكريم الكريم يلفت انتباهنا بالقول: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: 165).

إذن، ما المصادر التي نستقي منها “السنن الإلهية”؟

أول هذه المصادر هو القرآن الكريم، ومصدريته للسنن الإلهية على مستويات ثلاث؛ الأول: يمكن أن نطلق عليه المصدرية التوكيدية، فقد وضع القرآن الكريم العقل المسلم في جو علمي وصحي حين أكد على وجود السنن والقوانين الناظمة للحياة، وفاعليتها في مجالي العالم المادي والحياة الإنسانية على السواء؛ من مثل قوله تعالى في حق الفاتح العظيم ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} (الكهف: 84). وقوله سبحانه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (الفرقان: 2). ففي هذه الآيات وأشباهها يؤكد القرآن على السببية العامة في الكون، وهو مدخل مهم لبناء العلم ومحاربة الخرافة.

المستوى الثاني: هو إعطاء القرآن الكريم نماذج توضيحية تبين كيف أن الأمور لا تأتي إلا من أسبابها، وهو ما يمكن تسميته بالمصدرية التوضيحية؛ في مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (النحل: 65). ومثل قوله سبحانه: {يهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} (المائدة: 16). فأنت ترى أن الله سبحانه ذكر سببًًا لحياة الأرض هو الماء، وسببًا لحياة الناس هو الوحي، ولكل حياة أسبابها، ولا تقع النتائج بالأماني والرغبات: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (النساء: 123). وهكذا فالقرآن وضح أسباب هلاك الأمم وأسباب نجاتها.. وغير ذلك كثير في كتاب الله.

المستوى الثالث: هو ما يمكن أن نسميه المصدرية الغائية، وتعني أن القرآن الكريم وضح المقصد الأعلى من إيجاد هذا النظام الذي يتناغم مع الصراط المستقيم ومقتضياته، ومع الفطرة الإنسانية ونصرة الحق عمومًا؛ بحيث إذا جار الإنسان- بما يحصل من المعرفة والنشاط- على صراط الله المستقيم، تنتقم منه سنن الله. ويكفي الإشارة في هذه العجالة إلى قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فلَا يَضِلُّ ولَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 123، 124).

يضاف إلى ذلك، أن القرآن الكريم فتح العقل المسلم على النظر في الكون والسير فيه للتعلم؛ فلم يضع نفسه بديلاً عن العقل البشري، ولا عن الخبرة الإنسانية؛ لذا يبقى العقل والتجربة والواقع والتاريخ مصادرَ أيضًا للسنن الإلهية.. وهذه المصادر تتكامل وتتناغم مع المصدرية القرآنية.

مفردة “السُّنَن” وردت في القرآن الكريم في عدة مواضع.. كيف أصَّل القرآن للفَهْم السُّنَني؟

نعم، القرآن الكريم عبَّر عن السنن في مواضع كثيرة بألفاظ متنوعة؛ فتارة يعبر عنها بكلمات الله، ومرة بالميزان والتقدير، وأخرى بالآيات وهكذا. واللافت أنه لم يعبر بالسنة والسنن إلا في موضوع الحضارة والعمران البشري والتاريخ والاجتماع.. وخطر لي أن تأكيد القرآن بلفظ السنة في هذا الموضوع بالذات هو تأكيد على الإنسان الذي يتمتع بالحرية ويشعر بأنه بخلاف المادة لا يخضع لأي قانون أنه مخطئ؛ فهو يخضع للنواميس كما تخضع الأجسام للجاذبية.

السيرة النبوية“.. كيف جاءت تطبيقًا عمليًّا لمفاهيم “السُّنَن”؟

رسولنا عليه الصلاة والسلام هو الإمام المعلم، وهو القدوة الحسنة في الفهم والتطبيق؛ والسيرة النبوية علمتنا أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يُربِّ أصحابه على القعود وهم يظنون أن الأقدار تنشط لهم حيث يكسلون، أو تعرف لهم حيث يجهلون، أو تعمل لهم حيث يفرطون.. لم يعتقدوا يومًا أن الله سينصرهم دون أن يكونوا أهلاً للنصر أو يؤدوا شروطه أو يدفعوا كلفته وثمنه.

السيرة النبوية، سواء في الدعوة أو الهجرة أو الجهاد أو تأسيس الدولة أو المعاهدات أو غيرها، تَبين عن عقل استراتيجي كبير يضاف إليه إيمان عميق ويقين لا حدود له بنصر الله.. بل إن دروس السيرة تُبين أيضًا النكسات المترتبة عن التقصير أحيانًا في دنيا السنن والإعداد؛ مثل درسَيْ أحد وحنين.

هل يمكن القول بأن “السُّنن الإلهية” تنقل العقل المسلم من المعرفة المجردة إلى تلك المعرفة المرتبطة بالسياق الاجتماعي، وبالحركة التاريخية، وبعبرة الماضي، وبالمآلات؟

بكل تأكيد؛ فالمعرفة السننية في جانب منها هي معرفة نابعة من دراسة التاريخ واستخلاص العبر منه وصياغتها في شكل قوانين قابلة للتعميم في مجال العمران البشري؛ كما فعل العلامة ابن خلدون في مقدمته، والأستاذ مالك بن نبي في دورته الحضارية.

هدف التفكير السنني أن يقودنا إلى بناء المعرفة في العلوم الكونية والإنسانية، على أساس ملاحظة الواقع والتاريخ والتجارب الإنسانية المختلفة.. ولا معنى للسنة أو القانون مالم تكن قابلة للتعميم، ومكسبة لقوة توقع المآلات.

من خلال مآلات واقعنا المعاصر وإشكالياته، يبدو أن الالتفات لـ”السنن الإلهية” صار أكثر من ضرورة.. هل تتفقون مع ذلك؟

نعم؛ نحتاج عقلية تثق بالبحث العلمي بقدر ما تؤمن بالله.. مشكلتنا في عقول صيغت بعيدًا عن الفهم الصحيح لدينها؛ فكانت عقولاً ذكية لكنها سيئة الظن بالله، باردة الصلة به؛ فلم تنفع أمتها بشيء.. وفي عقول أخرى تربت في محاضن إيمانية لكنها موبوءة لا تدرس أسرار الكون والنفس والاجتماع؛ فهي لا تتمتع بالكفاءة العلمية الكافية لبناء حضارة الأمة، أو الدفاع عنها ضد خصوم لهم من المعرفة والمكر والدهاء الشيء الكثير..!

ما علاقة “السنن الإلهية” بالنهوض الحضاري؟

النهوض الحضاري يحتاج إلى أمرين، معرفة واسعة ونشاط دؤوب؛ أي أنه مرتبط بالعلم وبالفاعلية. والأمم في التاريخ تعاقبت صعودًا ونزولاً؛ ومن خبرتي لدراسة السنن الإلهية في نكوص الحضارة خلصت إلى أن الحضارات تسقط لسببين لا ثالث لهما؛ إما لفساد في الفكرة وإما لفساد في الإرادة؛ وهكذا يمكن تفسير سقوط الاتحاد السوفياتي مثلاً بفساد الشيوعية كفكرة، في وقت بُذلت تضحيات هائلة في سبيل تطبيقها.. في حين أن تراجع الحضارة الإسلامية كان لفساد في الإرادة؛ أي في الإنسان.. في الفاعلية.. وليس في الفكرة..

وهكذا، إذا كان موضوع السنن هي الحضارة فهي علم يجيبك عن سؤال: لماذا تتراجع الحضارات؟ وكيف تعاود نهوضها؟ أي ما هي شروط إعادة بَعْثِها.

هل انتبه المسلمون في العصر الحديث لـ”السنن الإلهية”؟

لا، ليس تمامًا؛ فمازلت ألاحظ غياب العقلية السننية في كثير من المواطن والمواقف والحركات والتجارب للأسف، مازال الكثيرون يناطحون السنن وهي غلاَّبة؛ إما لجهل بها أو لعدم الخبرة في التعامل معها.

وحتى تتمكن العقلية السننية من أَخْذِ مكانتها في نفوس المسلمين، نحتاج إلى بذل جهود علمية وفكرية وتربوية أكثر؛ فهناك مفاهيم تحتاج إلى تصحيح وإرادة تحتاج إلى تحرير.

مَن أبرز من نبَّهوا لهذا المفهوم؟ وما أهم الكتابات المعاصرة التي اشتغلت عليه؟

أحسب أن أول من نبه إلى السنن في عصرنا الحديث هو السيد جمال الدين الأفغاني، وتبعه على ذلك محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، وكذا الأستاذ مالك بن نبي الذي استفاد استفادة كبيرة من الفكر الغربي دون أن يقع في الاستلاب واستفاد من مقدمة ابن خلدون.

وفي وقتنا المعاصر اتجه المعهد العالمي للفكر الاسلامي إلى هذا الاتجاه، بعد أن كان للشهيد راجي الفاروقي إسهامات طيبة.. واليوم في النرويج هناك مركز خاص بـ”السُّنَنية” يقوم عليه أحد تلامذة ابن نبي هو الطيب برغوث.. دون أن أنسى إسهام شيخنا الإمام محمد الغزالي رحمه الله في ذلك.

ما هي “السنن الإلهية” التي تراها أكثر إلحاحًا لواقعنا المعاصر؟

سنن الله في تربية النفس البشرية.. سنن الله في تكوين الأسر الفعالة.. سنن الله في تماسك شبكة العلاقات الاجتماعية.. سنن الله في الإدارة العلاقات الدولية.. سنن الله في الاستغناء عن الناس في الجانب الاقتصادي والعسكري.. سنن الله في إقامة العدل ودحض الاستبداد.. سنن الله في تعلم أسرار المادة في الكون.. كلها تتضمن قوانين لله في الأرض لا تغني العاطفة عنا شيئًا إن جهلناها..!

كيف ننتقل بـ”السنن الإلهية” من النظر إلى التطبيق.. أو من العقيدة إلى العمل الحضاري؟

أتصور أننا لا ننتقل بالسنن الإلهية إلى التطبيق والعمل الحضاري، بل تنتقل السنن الإلهية بنا إن أحسنا دراستها والتعامل معها.. فالسنن الإلهية هي التي تعلّمنا الانتقال مما يجب أن يكون، إلى كيف يكون أو يتحقق؟

بمعنى أننا على ضوء المعرفة السننية يمكن أن نضع البرامج والاستراتيجيات لتحقيق الأهداف الكبرى عمليًّا وبطريقة علمية؛ تأخذ بعين الاعتبار الحاجات الآنية والمستقبلية والامكانات المتاحة، والخطوات المرحلية والجهود المبذولة والعوائق الممكنة وهكذا..

هذا هو التفكير السنني الذي لا يقف عند حدود ما يجب أن نفعل، بل يفكر في ماذا نستطيع أن نفعل، وكيف يمكن أن نفعل في سياق كل التوازنات المحيطة بنا مع الحفاظ على الهدف الأسمى دائمًا.