إن تدبر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الخاصة بصوم رمضان، أمر جلل لما لهذا الشهر الكريم من أهمية وقداسة. وإذا نحن مشينا في مسار تدبر القرآن والحديث في صيام رمضان، فقد نكتشف فقها جديدا غير المتداول و المُتداوَر عادة ،مما قد يدفعنا بخطوات محتشمة نحو الاجتهاد فيما لا يقبل الاجتهاد أو إعادة صياغة المفهوم حتى لا يطاله الملل والانسداد.
ففي القرآن الكريم سأقتصر على الآية الكريمة المفيدة للإلزام وفرض الصيام وهي قول الله تعالى :”يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”
ومن الأحاديث النبوية أنتخب حديثين عليهما مدار الموضوع وتمحوره:
أولا : خرج مسلم في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ قال الله عز وجل :”كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة فإذا كان يوم صيام أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه عز وجل فرح بصومه”.
ثانيا : خرج النسائي عن أبي أمامة قال: أتيت رسول الله فقلت: مرني بأمر آخذه عنك.قال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له”.
ومن خلال الآية والحديثين قد يمكننا استنباط لغة التوحيد في تدبر القرآن والحديث في صيام رمضان، والإطلاع على اللب التوحيدي للصيام في رمضان وذلك على مستويين معرفيين ورئيسيين في التأسيس الروحي والمعنوي للصيام وهما:
أ – التوحيد اللغوي وتخطي قاعدة الاشتراك اللفظي بالجمع والتكامل:
ب- التوحيد العقدي وتحقيق معنى “ليس كمثله شيء”والغنى المطلق
وسأقتصر في هذا المقال الذي يبحث في لغة التوحيد في تدبر القرآن والحديث في صيام رمضان، على العنصر اللغوي باعتباره نقطة البداية وأبجدية المعنى
فالصوم لغة هو الإمساك والرفعة في آن واحد. وأصل الصوم: الإِمساك.قال الله تعالى: “إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْمًا”.قيل: يعني الصيام.وقيل: يعني الصمت، والصوم: الصمت.يقال: صامت الريحُ صومًا: إِذا ركدت.وصامَ الماءُ: إِذا دام.
ويقال :صام النهار إذا ارتفع .قال امرؤ القيس في قصيدة “سما لك شوق بعدما كان أقصر”:
وَلَم يُنسِني ما قَد لَقيتُ ظَعائِن *** وَخَملاً لَها كَالقَرِّ يَوماً مُخَدَّرا
كَأَثلٍ مِنَ الأَعراضِ مِن دونِ بَيشَةٍ *** وَدونَ الغُمَيرِ عامِداتٍ لِغَضوَرا
فَدَع ذا وَسَل لا هُمَّ عَنكَ بِجِسرَةٍ *** ذُمولٍ إِذا صامَ النَهارُ وَهَجَّرا
والصوم: القيام؛ والصائم: القائم، قال:
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غير صائمةٍ *** تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
وقال الأجدع بن مالك :
ويومٍ في مجالسنا قعودًا *** لدى أكنافنا خيلٌ صيامُ
والصوم بهذين المعنيين المختلفين يكون عند التوظيف قد أسس لمبدأ ارتفاع النقيض وجمع بين الشيء وضده في كتلة متكاملة كما هو شأن الكتل في الجمع بين السح والحجم حيث يوصف الجسم بأن :الطويل العريض العميق، وكما يقول مي زيادة –حسب رأيه -:” من عجائب الطبيعة وضعها النقيض بجوار النقيض ..ما أقامت ارتفاعا إلا أوسعت تخومه تجويفا”.
فليست الطبيعة هي من وَضعت ولكن أودِعت ،إذ خالقها هو الذي شكلها وركبها على هذه التي الذي قد تبدو متناقضة منطقيا، ولكن هيهات هيهات ! ففي الحقيقة هذا عين التناسق والكمال،إذ “لولا اعوجاج القوس لما صلح للرمي” و”نقصان الكون عين كماله “كما يقول أبو حامد الغزالي.
فهنا لا تسري أحكام ومبدأ الثالث المرفوع الفلسفي والذي معناه” إذا صدقت إحدى القضيتين المتناقضتين، كذبت الثانية والعكس بالعكس، ولا ثالث بينهما”…وذلك لأن الصيام في حد ذاته ارتفاع بالأصالة فلا ينبغي رفع المرفوع وإلا قمنا بتحصيل حاصل.
هذا البعد لم يتفطن له غالبية الأصوليين من الفقهاء عند حديثهم عن الاشتراك اللفظي وإمكانيات توظيفه وحكمهم عليه بصفة عامة ،لأنهم رأوا ،على العموم، أنه لا يمكن أن يوظف إلا بأحد شقيه وهو معنى دون آخر،و في نظرهم إذا وظف المعنيان فسيكون الأمر بمثابة تناقض في الحكم ،وهذا لا يؤسس مبدأ أو قاعدة ومعرفة صحيحة بحسب اللزوم وظروفها ،ولازم المذهب مذهب كما يقال.
وتعريف الاشتراك اللفظي قد يختلف بين اللغويين والأصوليين في تفاصيل ويتفق في المجمل قد يمكن عرض نماذج منه: المشترك اصطلاحًا:
للمشترك اللفظي حدود شتى، أهمها: قول الزبيدي في مقدمة “تاج العروس“: إنه “اللفظُ الواحد الدالُّ على معنَيَيْن مختلفين فأكثر، دلالة على السَّواءِ عند أهلِ تلك اللغة”.
وقولُ زكريا بن محمد الأنصاري: “ما وُضع لمعنيين فأكثر، كالقرء للطُّهْر والحيض”؛ قال السرخسي: “وأما المشترك، فكلُّ لفظ يشترك فيه معانٍ، أو أسامٍ، لا على سبيل الانتظام؛ بل على احتمال أن يكون كل واحد هو المرادَ به على الانفراد، وإذا تعيَّن الواحد مرادًا به، انتفى الآخر؛ مثل اسم (العين)؛ فإنه للناظر، ولعين الماء، وللشمس، وللميزان، وللنقد من المال، وللشيء المعين، لا على أن جميع ذلك مراد بمطلق اللفظ، ولكن على احتمال كون كل واحد مرادًا بانفراده عند الإطلاق؛ وهذا لأن الاسم يتناول كل واحد من هذه الأشياء، باعتبار معنًى غيرِ المعنى الآخر، وقد بيَّنا أن لفظ الواحد لا ينتظم المعاني المختلفة” .
أما الشوكاني، فحدَّه بقوله: “اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين، أو أكثر، وضعًا أولاً، من حيث هما كذلك.
فخرج بالوضع ما يدل على الشيء بالحقيقة وعلى غيره بالمجاز، وخرج بقيد الحيثية المتواطئُ؛ فإنه يتناول الماهياتِ المختلفةَ، لكن لا مِن حيث هي كذلك؛ بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد”.
مفهوم المشترك اللفظي عند الأصوليين واللغويين: ولعل تعريف أهل الأصول للمشترك هو أدق ما يُحد به، ويسمون بالمبادئ اللغوية مثل المشترك، والمتضاد، والمترادف، ومعاني الحروف، فالمشترك عندهم: “اللفظ الواحد الدال على معنيين فأكثر على السواء عند أهل تلك اللغة”؛ (صبحي الصالح).وذكروا أن الاشتراك في الأفعالِ كما في (راح: بمعنى ذهب ورجع)، والحروفِ مثل (مِن الجارَّةُ: تكون للابتداء، وللتبعيض، والواو: للعطف والحال)، والأسماءِ مثلوا له بعين الماء ، وعين المال، وعين السحاب.
فإذا كان لفظ القرء يحتمل معنى الحيض ومعنى الطهر فهو إما أن يوظف بالمفهوم الأول دون الثاني أو العكس.أما أن يوظف المعنيان معا وفي نفس المحل والنازلة فهذا يمثل تناقضا واضطرابا في الأحكام لا يقبلها الشرع والعقل معا.وقد حق لهم أن يتخذوا هذا الموقف لضبط الأحكام ،ولكن لم يكن لهم أن يعمموا صفة الاشتراك اللفظي وسريانه على كل المجالات وخاصة في قضايا غيبية وروحية بامتياز.وإلا ألغي مفهوم الحسي والمعنوي والظاهر والباطن حيث لا تناقض يمكن رصده في المجال لأنه غيب وجودا وفعلا وحركة .
لكن التناقض ليس بالضرورة أن يكون كليا في الاشتراك اللفظي ،بحيث يرصد الاختلاف ولكن ليس لحد التضاد المطلق،اللهم إلا في الاتجاه المعاكس كمن يولي وجهه نحو المشرق والآخر إلى المغرب،أو نحو الأعلى والثاني باتجاه الأسفل،وهذا يمثل تناقضا زمنيا ومكانيا وحركيا ،فيكون المشترك تام الاختلاف ومتضاد الجوهر والعرض،لا يلتقي طرفاه إلا عند الذيل أو ظهرا لظهر.وهو ما يمثله مصطلح الصوم كامل الاشتراك ومطلقه.
وعلى هذه القاعدة المتخطية للمفهوم التقليدي السائد استطاع الصوم أن يصبح المتصدر لتحدي التخوفات من الوقوع في التناقض بسبب توظيف الاشتراك اللفظي بكل احتمالاته في آن واحد.إذ معناه الأول كما رأينا هو الإمساك ويعني الامتناع والاختفاء والإحجام أو الركود والسكون ،وبذلك يكون مؤسسا لمبدأ السلب.أما المعنى الثاني فهو الرفعة والارتقاء،وهذا قد يتطلع إلى البروز والتألق ،مما يعني أنه يكون على نقيض من المعنى الأول المفيد للاختفاء والتغور باطنا،وهو بهذا يؤسس مبدأ الإيجاب والفاعلية.
فإذا أخذنا بالمعنيين معا وقعنا في تناقض حسب قاعدة المشترك اللفظي المعمول به عند الأصوليين والمناطقة على حد سواء.فيكون الصيام سالبا موجبا في نفس الوقت ،وهذا قد يحتاج إلى توضيح وتفسير علمي،وذلك بالتساؤل حول هل الموجب موجب بذاته أم أنه كذلك بحسب ملازمته للسالب والعكس صحيح؟.
والإجابة على هذا السؤال قد تبدو سهلة وبدائية وذلك لأننا في عصر التكنولوجيا والإلكترونيات،ونعلم جيدا أنه لا يمكن أن تحدث الإضاءة ويستفاد من ثمرتها إلا إذا اتحد السالب مع الموجب على قاعدة واحدة.أما أن يكون الخيط الموجب مقابل نظيره ،وكذلك السالب ،فهذا قد لا يعطي ضوء ولا كهرباء. فإذن يبقى أن السالب عنصر أساسي للإيجاب الذي يبقى سلبيا في غياب السالب مهما كانت قوة إيجابيته وحرارتها.
وهذا المعنى مستلهم من الحديث النبوي الشريف السابق:”كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به”و”عليك بالصوم فإنه مثل له”.أي أنه سلبي وجودا وظاهرا عند الخلق بينما هو إيجابي ثمرة وأثرا عند الحق.
ولعل بعض الصوفية يكون قد استلهم هذا المعنى الرفيع من مفهوم الصوم في الإسلام وخاصة هذا الحديث وغيره، أذكر من بينهم ابن عطاء الله السكندري في حكمة يقول فيها:”ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لم يتم نتاجه”.بحيث يؤسس هنا لمبدأ تربوي وتعليمي وتكويني ،جد مهم وحتمي ،عند أي تحصيل وبناء سلوكي ومعرفي قبل البروز على الساحة والانجراف مع الغوغائية والدوغمائية وشتى المغررات والممرغات.
فلا نتاج فلاحي معتبر من دون أن تغور البدرة في عمق الأرض حتى تتمثل تربتها وتمتص قواها ومقوماتها ،حينذاك إذا هي برزت للعلن كانت ثابتة :” أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ” لا تقتلعها الرياح ولا تؤثر فيها المواسم والمنعطفات.
كما ورد في الحديث:”استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”،وقد ينسب إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز: ” إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت، ويهرب من الناس، فاقتربوا منه، فإنه يلقن الحكمة. فالصمت سلبي والكلام إيجابي، لكن الكلام من غير صمت مسبق قد يكون في الغالب غثا ومستهجنا وسطحيا ومتسرعا .
وهذا الأمر سينطبق حتى على الدول التي منها الصامتة والمتطورة بهدوء ،ومنها المهرجة والمكثرة من الأكاذيب والشعارات ،ومزاعم منافسة الدول الكبرى، ولكن من غير قاعدة صلبة ومخزون ثقافي وعلمي وحضاري، سرعان ما تتعرض عندها للنكسات والفضائح وكشف العورات!.
فالخمول أو الانعزال المرحلي سلبي ولكنه مؤسس ،لأنه فرصة لتجميع القوى وتحقيق سرعة الانطلاق مع تحديد الهدف ،إذ بقدر ما سحبْنا المطاط نحو الأسفل يكون الصعود وسرعته نحو الأعلى ،وبمستوى جرِّنا للزناد أو وتر القوس مع السهم نحو الوراء تكون سرعته وإصابته في العمق وفي الأمام، وهذا لا يمثل تناقضا ولكنه هو عين الكمال والارتفاع.
كما أن كل علم وعمل وتكوين لم يخضع لاعتكاف وخلوة مرحلية وتأمل باطني وفكري عميق لم يخرج إلا وهو مستهلك ومبتذل قد أشبع تناولا وتكرارا وهضما وقضما وإملالا،تماما كما يحدث عند تناول الأطعمة وازدرادها اعتيادا وإفراطا وتخمة خارج رمضان، أو حتى داخله، فلا ينتج عنها سوى الغثيان وفقدان الذوق ، ولم لا النعاس في قارعة الطريق والناس قيام؟.
وبهذا البحث في استنباط لغة التوحيد في تدبر القرآن والحديث في صيام رمضان، نكون قد ربطنا الصيام باللغة ومعطياتها وعرجنا نحو المعنى المتسامي والموحد لهمة الإنسان وقيمه وتطلعاته :”وأن إلى ربك المنتهى”.والله الموفق في الماضي والحال والاستقبال.