غاية الإكرام أن تحب إنسانا فتبلغ مناك في اللحاق به وإن قصر بك عملك عن درجته، وقد وقعت هذه البشارة موقعها من قلوب المحبين المتولهين بحب النبي وحب أصحابه لما سمعوها منه فقد قال  قائلهم ـ: ” ما فرحنا بعد الإسلام بشيء فرحنا بهذا الحديث .

وكان ثوبان رضي الله عنه مولى لرسول الله وكان شديد الحب له وكان يراوده هذا الهاجس، يخاف ألا يلقى النبي بعد الموت بسبب تفاوت الدرجات، وفيه نزلت آية سورة النساء، قال القرطبي: كان ثوبان مولى رسول الله شديد الحب له قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن، فقال له النبي :

” ما غير لونك؟! “. قال: يا رسول الله.. ما بي ضر ولا وجع غير أنى إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك، لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين، وأنى إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل لا أراك أبداً، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}.

وعند الطبراني من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله: والله إنك لأحب إلى من نفسي، وإنك أحب إلي من أهلي ومالي وأحب إلي من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يرد عليه النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} الآية.

بهذه المحبة الصادقة وبهذا التعلق استحقوا هذا الإكرام،”المرء مع من أحب” فيا لها من نعمة على المحبين سابغة. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله  كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره إذ هتف بنا أعرابي بصوت جهوري فقال: يا محمد! فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ما تشاء؟ فقال: المرء يحب القوم ولا يعمل بأعمالهم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: المرء مع من أحب. وفي رواية البخاري” كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟، فقال: المرء مع من أحب”.

فألحقه عليه السلام بحسن النية من غير زيادة عمل بأصحاب الأعمال الصالحة كما يقول الخطابي رحمه الله.

وعند البخاري أيضا من حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رجلا أتى النبي- – فقال له: “متى الساعة؟ قال: ما أعددتَ لها؟، قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكنّي أحبّ الله ورسوله، فقال: أنت مع من أحببت” رواه البخاري.
يقول أنس ـ رضي الله عنه ـ بعد ما ذكر هذا الحديث: ” فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ يقول: فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ”.

وهذا فيه فضل حب الله ورسوله والصالحين ، وأهل الخير ، الأحياء والأموات… ولا يشترط في الانتفاع بمحبة الصالحين أن يعمل عملهم ؛ إذ لو عمله لكان منهم ومثلهم كما قال النووي رحمه الله.

ومما ينسب إلى ابن حجر رحمه الله قوله:

وقائل هل عمل صـــــــــــالح … أعددته يدفع عنك الكرب

فقلت حسبي خدمة المصطفى … وحبــــه فالمرء من أحب

وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :

 أحب الصالحين ولستُ منهم *** وأرجو أن أنال بهم شفاعة

وأكره من تجارته المعاصي *** وإن كنا سواء في البضاعة

فقال له الإمام أحمد رحمه الله:

 تحب الصالحين وأنت منهم *** ومنكم سوف يلقون الشفاعة

وتكره من بضاعته المعاصي *** حماك الله من تلك البضاعة

ولحاق المحبوب بمن أحب وكونه معه لا يلزم منه أن تكون منزلته وجزاؤه مثله من كل وجه قال ابن حجر في الفتح قوله: “إنك مع من أحببت أي ملحق بهم حتى تكون في زمرتهم … وإن تفاوتت الدرجات” اهـ.

ضابط المحبة التي تنفع صاحبها

ليس الأمر هنا على إطلاقها فليست كل دعوى محبة نافعة لصاحبها ” فلا ينتفع من ادعى محبة قوم، وخالفهم في أخلاقهم، وأعمالهم رغبة عنها بمحبتهم، ولا يلحقه ذلك بهم.

وكذلك – أيضاً – لو كان مشتغلاً عن متابعتهم، وموافقتهم بما هو فيه من شهوات النفس، وتُرَّهَاتِ الهوى، والعكوف على تحصيل الدنيا بأي وجه تيسرت به، بحيث غلب عليه الظلم والغش والمكر والخديعة وغير ذلك؛ فإنَّ ما يدعيه من محبتهم لا ينفعه، ولا يلحقه بهم؛ لأنه مجرد تَمَنٍّ، ومحضُ ادِّعاء لا يجدي، وكيف تثبت له محبتهم وقد عكف على أوصاف من سواهم، وجاء بأعمال من عداهم ممن ليسوا منهم؟.

ومن هذا القبيل محبة الظَّلَمةِ والفَسَقةِ للصالحين، وتقربهم من المباركين بعرض أموالهم عليهم، وإرسال الهدايا إليهم، وهم مُكِبُّوْنَ على ظلمهم للناس، وإسرافهم على أنفسهم، فهؤلاء لا تنفعهم محبة الصالحين، ولا تلحقهم بهم.

واما من  كانت مخالفته لهم لا على طريق الرغبة عن أخلاقهم، ولا على سبيل الأَنَفَةِ من أحوالهم، بل كان ذلك على سبيل العجز والتقصير عن بلوغ درجاتهم، والانحطاط عن عُلُوِّ همتهم، أو على وجه غلبة الهوى عليه، وضعفه عن مصادمته ومخالفته، فوقعت منه الزلة، وألَمَّ تلك اللمة، ولو تيسر له اللحاق بهم في وصفٍ لم يتأخر عن الاتصاف به، أو في خُلقٍ لم يتوان عن التخلق به، فهذه المخالفة والتقصير لا يُقعدانه عن اللحاق بمن يحبهم، ولا يؤخره عن الكينونة معهم، وعلى ذلك تحمل الأحاديث والآثار الواردة في ذلك”. كما قال الغزي رحمه الله تعالى في حسن التنبه لما ورد في التشبه.

المحبة إذا تجارة رابحة لكنها تستلزم الموافقة والمتابعة وإلا كانت مجرد دعوى ولله در رابعة العدوية إذ قالت:

تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ … هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ

لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ … إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ.


مراجع:

تفسير القرطبي: 5/271.

فتح الباري لابن حجر: 10/555.

شرح النووي على صحيح مسلم: 16/186.

حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 4/735.

حسن التنبه لما ورد في التشبه للغزي الدمشقي:  1/31.