كان النظر قديما إلى الدراسات القانونية أنها رجس من عمل الشيطان، باعتبار أن القانون يعني ( الحكم بغير ما أنزل الله)، ولأن غالب القوانين في بلادنا العربية مستقاة من القوانين الغربية خاصة القانون الفرنسي، وكانت البداية في مصر زمن الخديوي إسماعيل الذي كان مولعا بالغرب والانفتاح عليه.

وقد كان الخديوي إسماعيل قد طلب من مشايخ الأزهر تقنين الفقه الإسلامي، لما نما إليه من اختلاف القضاة في الفصل في القضايا ببين الناس في الأقطار المصرية، على أن هذه الفكرة لم تلق قبولا كبيرا بين طوائف من علماء الأزهر، بدعوى الحفاظ على التراث الإسلامي..

وقد انتهز الخديوي إسماعيل تردد علماء الأزهر في مشروع تقنين الفقه الإسلامي، فولى شطره تجاه الغرب خاصة فرنسا، واستورد القانون الفرنسي، إلا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، فقد كانت وفق المذاهب الفقهية، خاصة المذهب الحنفي الذي كان سائدا في كثير من الدول الإسلامية.

ومن بعد إدخال القانون الفرنسي في مصر، حذت كثير من الدول العربية حذو مصر، خاصة أن كثيرا من واضعي القوانين والدساتير في العالم العربي كانوا من مصر.

على أن هذه النظرة قد تغيرت، خاصة مع مرحلة ( تجديد أصول الفقه) مع مدرسة القضاء الشرعي ومدرسة الحقوق العليا بمصر، وقد قادها من أعادوا صياغة أصول الفقه بصياغة معاصرة، أمثال الشيخ على الخفيف، والشيخ على حسب الله، والشيخ عبد الوهاب خلاف وأضرابهم.

كما ظهرت مدرسة تحاول التوفيق بين الفقه و القانون، كأمثال الدكتور عبد الرزاق السنهوري، والمستشار عبد القادر عودة، وغيرهما.. ومع حركة الاستشراق الذي قادها الغرب لمعرفة أحوال المجتمعات العربية ودراسة أدبياته، نال الفقه نصيبا من الدراسة والبحث، وأدرك علماء الغرب مكانة الفقه الإسلامي في الحياة القانونية والتشريعية، واستفادوا منها، بل كان يعقد في باريس ما يسمى بـ ( أسبوع الفقه)، وكان من أهم هذه الأسابيع الأسبوع الفقهي عام 1951م، والذي نادى بعمل موسوعة تقرب التراث الفقهي حتى يستفيد منه القانونيون على مستوى العالم، والذي انبثق منه فكرة أول موسوعة فقهية، وقد تبنت كلية الشريعة بدمشق هذه الفكرة، وقامت بالأعمال التحضيرية وتكشيف لكتاب المحلى للإمام ابن حزم، وتجهيز قائمة بالمصطلحات الفقهية، ثم لما كان زمن الاتحاد بين مصر وسوريا انتقلت فكرة الموسوعة إلى مصر والتي لم تخرج إلا عددا قليلا منها، ثم انتقلت الفكرة إلى الكويت، والتي نتج عنها الموسوعة الفقهية الكويتية في خمسة وأربعين مجلدا، على المذاهب الفقهية الأربعة.

 

تاريخ التقنين عبر العصور

المحاولة الأولى مع الإمام مالك: تعود فكرة التقنين زمن الإمام مالك – رحمه الله-، فقد أشار الخليفة أبو جعفر المنصور على الإمام مالك أن يلزم الناس بالموطأ، فلا يتعداه أحد، لكنه أبى.

والحق أن هذا لا يعد تقنينا للفقه الإسلامي، وإنما هو إلزام الناس بمذهب واحد، وليس من الصواب اعتباره من التقنين.

ثم من محاولات التقنين ما قام به جماعة من علماء الهند في ( الفتاوى الهندية)، حيث حاولوا صياغة الكتاب صياغة قريبة من التقنين.

ولكن المحاولة التي تعد من باب التقنين اصطلاحا، هي ( مجلة الأحكام العدلية)، وقد احتوت على جملة من الأحكام بصياغة قانونية في عدد من الأبواب الفقهية، مثل: البيوع والدعاوى والقضاء، وقد صدرت عام 1869م، واحتوت على 1851 مادة قانونية، أغلبها من الفقه الحنفي، باعتباره المذهب الرسمي للخلافة العثمانية. 

مشروعات قدري باشا

ومن أهم محاولات تقنين الشريعة ما قام به قدري باشا من مشاريع للتقنين، من أهمها:

1- مرشد الحيران إلى معرفة حقوق الإنسان في المعاملات الشرعية.. وهو على مذهب أبي حنيفة النعمان، وقد تضمن (1045 مادة).

2- الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية على مذهب أبي حنيفة النعمان، وقد شرحه محمد زيد الأبياني في ثلاثة مجلدات.

3- قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف، وقد تضمن (646 مادة)، طبع بوزارة المعارف المصرية في المطبعة الأهلية عام (1893م).

ومن مشاريع تقنين الفقه أيضا:

مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام احمد بن حنبل، لأحمد بن عبد الله القاري، المتوفى (1309هـ)، وتضمن: (2382 مادة).

وكذلك ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب مالك، لمحمد محمد عامر.

ومن أواخر وأهم مشاريع التقنين ما قام به مجمع البحوث الإسلامية في مصر، حيث قدم مشروعا لتقنين الفقه الإسلامي على المذاهب الأربعة ( الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي)، خاص بتقنين المعاملات، جاء في ستة عشر جزءا صغيرا، لكل مذهب أربعة أجزاء، وقد ذيلت كل مادة قانونية ببعض التوضيحات.

الفقه في كليات الحقوق

العادة أن تدرس كليات الحقوق والقانون  كل سنة من سنواتها الأربعة مادة ( الشريعة الإسلامية)، ففي السنة الأولى تدرس مادة ( تاريخ التشريع)، تدرس فيها تاريخ الفقه وتاريخ المذاهب وأصول الاجتهاد في المذاهب الفقهية ومصطلحات المذاهب وطبقات الفقهاء في كل مذهب. وفي السنة الثانية تدرس مادة ( الأحوال الشخصية)، والتي يدرسون فيها أحكام الزواج والطلاق وأنواع التفريق بين الزوجين، وفي السنة الثالثة تدرس مادة ( المواريث والوصية)، وربما أضيف إليها في بعض الكليات ( أحكام الوقف)، وفي السنة الرابعة تدرس مادة ( أصول الفقه).

ويلاحظ على تدريس هذه المواد ما يلي:

أولا- الربط بين الأحوال الشخصية والمواريث وبين اختيارات القانون في البلد.

ثانيا- أن تدريس تلك المواد ينطلق من الفقه الإسلامي ابتداء، ويشار إلى اختيار القانون من المذاهب الفقهية.

ثالثا- أن غالب الاختيارات لا ضابط لها، فالغالب قائم على التلفيق بين المذاهب.

رابعا- أن غالب هذه المواد لا تتناسب مع مخرجات كليات الحقوق والقانون، فما يدرس في كلية الشريعة هو – في الغالب- ما يدرس في كليات الحقوق والقانون.

خامسا- اقتصار الدراسة على الأحوال الشخصية بشقيها ( النكاح والطلاق ثم المواريث)، وكذلك المدخل إلى الفقه الإسلامي وأصول الفقه، وكأن تقنين الفقه يجب أن ينحصر في الأحوال الشخصية، مما يولد في ذهن الطالب أنه لا علاقة للفقه بالقانون الإداري أو الجنائي أو التجاري، أو القانون الدولي أو غيره.

اقتراحات مشاريع

 

أولا- تعديل مناهج المواد الشرعية في كليات الحقوق:

ويكون بناء المنهج على النحو التالي:

  • ذكر المادة القانونية كما هي.
  • إيراد شرحها القانوني من خلال المذكرة الإيضاحية.
  • إيراد مذاهب الفقهاء.
  • بيان اختيار القانون من المذاهب الفقهية.
  • مدى بناء الاختيار على الأصول.
  • التطبيقات القانونية.

ثانيا- دمج الفقه بالمواد القانونية:

ونقصد به أن تدرس المواد القانونية مشفوعة ومقرونة بالرؤية الفقهية لها، وذلك حسب كل علم من العلوم القانونية الفرعية.

ويكون على النحو التالي:

  • القانون الجزائي.
  • القانون الإداري.
  • القانون الدولي.
  • القانون الدستوري
  • القانون المالي.
  • التشريع الجنائي الإسلامي.
  • قانون المرافعات الإسلامي.
  • قانون العمل
  • القانون المدني
  • القانون البحري
  • حقوق الإنسان.

وهذه كلها تصلح مسارات للدراسات العليا.

على أنه ما ينبغي أن تدرس منفصلة بل يجب أن تكون الدراسة مقارنة بين القانون والفقه في كل هذه العلوم الفرعية، حتى تتم الاستفادة المتبادلة، من التشريع الإسلامي من جهة، ومن التطبيقات المعاصرة من الناحية القانونية من جهة أخرى، حتى نحقق مرجعية الفقه الإسلامي والشريعة في حياة الناس.

دراسة مشاريع القوانين

وتكون بدراسة كل القوانين في الدول العربية، تأصيلا بين الفقه والقانون، وتعديل تلك القوانين من خلال اقتراح ( مشروع قانون)، حتى يكون مرجعا لمن أراد التعديل، وذلك من خلال المجالس النيابية.