كثيرا ما يتعرض الراغبون في الحج لعمليات نصب واحتيال ممن يوهمونهم أنهم قادرون على ترتيب إجراءات تسفيرهم إلى بلاد الحرمين، ثم يحدث أن يتم ترحيل هؤلاء الحجاج إلى بلادهم مرة أخرى بعد أن يكونوا قد تلبسوا بالإحرام لاكتشاف نقص الإجراءات المطلوبة، فيعودوا وقد حلوا من إحرامهم دون أن يصيبوا حجا أو عمرة! فكيف يتحلل الحجاج الذين يتم ترحيلهم قبل أداء الحج؟
الإحرام بالحج والعمرة لا يقبل الإلغاء
ونحب أن نبين في هذا المقال، التبعات الشرعية الواجبة على هؤلاء الوفود الذين تم ترحيلهم؛ ذلك أن أمر الإحرام بالحج والعمرة لا ينتهي فقهًا بفسخ النية؛ فالإحرام بالحج أو العمرة هو العبادة الوحيدة التي تحتاج إلى إجراءات خاصة لفسخها والخروج منها.
فمن كان في صلاة أو صوم ونوى الانسحاب منهما والخروج من الصيام إلى الفطر ومن الصلاة إلى غير الصلاة فإن ذلك الخروج يتم بمجرد النية [1]، أما الحج فليس كذلك، جاء في الموسوعة الفقهية :
“ورفض الإحرام لغو باتفاق العلماء ، ولا يبطل به الإحرام ، ولا يخرج به عن أحكامه “[2].
بداية الإحرام
للإحرام ميقات مكاني، لا يجوز مجاوزته بغير إحرام لمن مر به ممن يريد أن يؤدي مناسك الحج أو العمرة. وبما أن هذه الوفود يتم ترحيلها غالبا بعد مجاوزة الإحرام المكاني، فمعنى ذلك أنهم قد أحرموا.
وهنا تكمن المشكلة، فيمن تم ترحيله بعدما تلبس بنية الإحرام، وأما من تم ترحيله قبل التلبس بنية الإحرام، فليس عليه أية تبعات متعلقة بالحج؛ لأنه لم يكن نوى الحج ولا العمرة بعدُ.
المحصر
فمن ردّته السلطات من هؤلاء بعد إحرامه، فإنه سيتحلل من إحرامه، وهو ما يعرف في الفقه بتحلل المحصر ، وهو من مُنع من أداء مناسك الحج بعد التلبس بالإحرام ، لكن تبقى عليه تبعات:
1- الهدي : ذهب جمهور العلماء إلى وجوب ذبح الهدي على المحصر ، لكي يتحلل من إحرامه ، وأنه لو بعث به واشتراه ، لا يحل ما لم يذبح . وهو مذهب الحنفية [3]والشافعية [4]والحنابلة [5]وقول أشهب من المالكية .
وذهب المالكية إلى أن المحصر يتحلل بالنية فقط ، ولا يجب عليه ذبح الهدي ، بل هو سنة ، وليس شرطا [6]
يقول الشوكاني في مناقشة ما ذهب إليه الإمام مالك:
وإلى وجوب الهدي ذهب الجمهور وهو ظاهر الأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعل ذلك في الحديبية، ويدل عليه قوله تعالى { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } وذكر الشافعي أنه لا خلاف في ذلك في تفسير الآية.
وخالف في ذلك مالك فقال: إنه لا يجب الهدي على المحصر وعول على قياس الإحصار على الخروج من الصوم للعذر .
والتمسك بمثل هذا القياس في مقابل ما يخالفه من القرآن والسنة من الغرائب التي يتعجب من وقوع مثلها من أكابر العلماء .انتهى.
ولذلك مال القرطبي – وهو مالكي المذهب- إلى وجوب الهدي فقال : واحتج الجمهور بأن رسول الله ﷺ لم يحل يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتى نحر الهدى، فدل ذلك على أن من شرط إحلال المحصر ذبح هدى إن كان عنده، وإن كان فقيرا فمتى وجده وقدر عليه لا يحل إلا به، وهو مقتضى قوله: ” فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى “.انتهى.
مكان ذبح الهدي؟
وقد اختلف العلماء: هل يلزم المحصر أن يبعث بالهدي إلى مكة ليذبح فيها إذا تيسر له ذلك، أم أنه يذبحه في الموضع الذي أحصر فيه؟ على وجهين مشهورين، أصحهما: أنه يذبح الهدي وينحره في الموضع الذي أحصر فيه؛ لأن رسول الله ﷺ لما أحصر عن البيت ولم يكن بينه وبين حدود الحرم إلا خطوات، وذلك في الحديبية -وهي التي تسمى اليوم بالشميسي- وكان يمكنه أن يدخل ويصلي داخل حدود الحرم، ومع ذلك لم يتكلف أن ينحر هديه داخل حدود مكة، والله تعالى يقول: { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [الفتح:25] ، فقال: (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي: عن بلوغ محله، ومحله هو البيت العتيق -أعني: حدود الحرم- فدل على أنه لا يلزم المحصر بأن يبعث هديه إلى الحرم، وإذا تيسر له بعثه فإنه يبعثه، خروجاً من خلاف العلماء رحمهم الله.[7]
ماذا لو لم يستطع الهدي؟
ذهب عدد من العلماء إلى أن المحصر العاجز عن الهدي لا يمكنه أن يحل مجانا ، ولكنه يطالب ببدل عوضا عن عجزه ، فرأى بعضهم أن عليه بدل الهدي طعاما تقوم به الشاة ويتصدق به، فإن عجز عن قيمة الطعام صام عن كل مد يوما، وهو قول أبي يوسف، لكنه قال : يصوم لكل نصف صاع يوما .
وذهب بعض الفقهاء إلى أن بدل الهدي الطعام فقط، ثم منهم من قدره بثلاث آصع لستة مساكين ، ومنهم من قدره بغير ذلك
وذهب الشافعية والحنابلة أن البدل في حق العاجز صوم عشرة أيام قياسا على المتمتع؛ ووجه الجمع بينهما الترفه والتنعم..
وفي مناقشة هذه الأقوال يقول العلامة ابن العثيمين- رحمه الله- في شرح الممتع: الظاهر من حال كثير من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنهم فقراء، ولم ينقل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمرهم بالصيام، والأصل براءة الذمة.[8]
2 – هل على المحصر حلق ؟
لأن الحلق غير معجوز عنه في حق المحصر رأى بعض العلماء أنه لا يسقط، ويبقى واجبا عند التحلل في حقه، بينما رأى آخرون أن الحلق سنة لا واجب .
قال العراقي في طرح التثريب: وأيد الموجبون للحج رأيهم بغضبه – ﷺ – من الصحابة حينما تباطؤا عن الحلق بعد أمرهم له به عام الحديبية – العام الذي أحصروا فيه عن العمرة- .
3- هل يجب على المحصرين قضاء هذه الحجة التي لم يتمكنوا منها؟
يحسم الإمام الشافعي الخلاف في ذلك في كلمات نيرة فيقول :
حيث أحصر ذبح وحل ولا قضاء عليه من قِبل أن الله تعالى لم يذكر قضاء؛ ثم قال: لأنا علمنا من تواطؤ أحاديثهم أنه كان معه في عام الحديبية رجال معروفون، ثم اعتمر عمرة القضاء فتخلف بعضهم في المدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال، ولو لزمهم القضاء لأمرهم بأن لا يتخلوا عنه. وقال: إنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وبين قريش لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة.
مساكين هؤلاء الحجيج، هلا تحسبوا فاشترطوا ؟
عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت : « دَخَلَ رسولُ اللّه -ﷺ- على ضُبباعةَ بنت الزبير وقال لها : لعلك أرَدتِ الحجَّ ؟ قالت : واللَّه ما أَجِدُني إلاَّ وَجِعَة ، فقال لها : حُجَّي واشْتَرِطي وقُولي : اللّم مَحِلِّي حَيثُ حَبَسْتَني.[9]
في هذا الحديث دليل على أن المحرم إذا اشترط في إحرامه أن محله حيث يحبس، فإن له أن يتحلل حيث محبسه بالمجان ، دون هدي أو حلق أو قضاء، وإلى ذلك ذهب طائفة من الصحابة والتابعين ومن أئمة المذاهب أحمد وإسحاق، وهو الصحيح من مذهب الشافعي.
ودل مفهوم الحديث أن من لم يشترط في إحرامه فليس له التحلل ويصير محصراً، له حكم المحصر على ما هو الصواب على أن الإحصار يكون بغير العدو.
إذن فمن تم ترحيله بعدما تلبس بالإحرام، فهذا لا يكفيه نية الخروج من الإحرام، بل عليه التبعات التي ذكرنا، وقد كان يكفيه ويغنيه أن يشترط عند إحرامه أن محله حيث حبس.
[1] – المراد هنا قابلية هذه العبادات للفسخ ، بغض النظر عن حكم الفسخ.
[2] الموسوعة الفقهية الكويتية (2/ 177)
[3] الهداية وشروحها 2 / 297 ، والبدائع 2 / 177 – 178 ، ومتن التنوير ورد المحتار 2 / 321 .
[4] – المهذب 8 / 242 ، والمجموع 8 / 246 ، وشرح المنهاج 2 / 148
[5] – المغني 3 / 357 ، 358 ، والكافي 1 / 625
[6] – مواهب الجليل 3 / 198 ، وشرح الدردير وحاشية الدسوقي 2 / 94 والزرقاني 2 / 335
[7] – انظر شرح زاد المستقنع للشنقيطي
[8] انظر الشرح الممتع (7/45)
[9] – رواه البخاري ومسلم وغيرهما ( جامع الأصول، رقم (1767)