ربما يكون المتبادر من عنوان هذا المقال الإفادة المالية للفقيه، بمعنى : هل يجوز له أن يتقاضى أجرًا ماليا مقابل تعليمه الفقه للآخرين، تدريسا، أو تأليفا، أو إفتاء أو قضاء، فأبادر بنفي هذا المعنى، وأنه ليس هو المقصود من هذا المقال.

فالمقصود بالإفادة هنا : الإفادة غير المالية، من مثل محاباة الفقيه نفسه بأسهل الأقوال في المسألة التي تعرض له، وهو ما يبحث في كتب الأصول والفقه تحت عنوان: حكم تتبع الرخص؟

ومثل، التوسع في دراسة المسألة حينما تمس شخص الفقيه، توسعا بغية الوصول إلى مخرج شرعي، أو رخصة فقهية، أو العثور على خلاف فقهي في مسألة يشاع عنها الإجماع، ونحو ذلك ؟

تتبع الرخص

إذن، فالحديث هنا عن تتبع الفقيه للرخصة لنفسه، أو لأهله، أو لأحد أصدقائه، وليس عن تتبع العامي، فهذا له موضع آخر.

مما يقابلنا في هذا الصدد، ما جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية عن حكم هذه المسألة : ” وقد اعتبر العلماء هذا العمل فسقا لا يحل. وحكى ابن حزم الإجماع عليه.([1])

وقال الزركشي :” المفتي على مذهب إمام إذا أفتى بكون الشيء واجبا أو مباحا أو حراما ليس له أن يقلد ويفتي بخلافه، لأنه حينئذ محض تشهًّ”([2])

وأطلق الإمام أحمد: لو أن رجلا عمل بكل رخصة :بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقا.

وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها، وبالعامي المقدم عليها من غير تقليد، لإخلاله بغرضه وهو التقليد. فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق، لأنه قلد من يسوغ اجتهاده. وفي ” فتاوى النووي ” الجزم بأنه لا يجوز تتبع الرخص.

وفي الموسوعة أيضا : ” “صرح الشافعية بأنه يكره للمفتي تتبع الحيل طلبا للترخيص على من يروم نفعه، أو التغليظ على من يروم ضره، فمن فعل هذا فلا وثوق به”.([3])

ولا شك أن هذا الفعل من الأفعال التي تصد الناس عن الدين، وتبغض الناس في علماء الدين؛ ولذلك يحكي الناس على سبيل السخرية والاستهزاء أن شيخا فقيها استفتي في حكم حائط ولغ فيه كلب؟ فأجاب الفقيه : لا بد من هدمه وإعادة بنائه، فقال السائل : إنه الحائط الذي بيني وبينك ! فقال الفقيه : إذن قليل من الماء يطهره. وهو مثل يحكيه الناس سخرية من هذا الصنف من الفقهاء!

ولا غرو أن اختار الشيخ القرضاوي تحريم هذا المسلك فقال : ” … والذي يتضح لي في هذه القضية التي كثر فيها الجدل والخلاف: أنه لا يجوز لمقلد أن يتتبع رخص المذاهب، فيأخذ من كل مذهب ما هو أيسر وأخف على نفسه، وأوفق بهواه، من غير تقليد لإمام معتبر إن كان من العوام، ولا نظر إلى قوة الدليل أو ضعفه إن كان من أهل العلم. فإن هذا اتباع للهوى، وحظوظ النفس، وليس اتباعا لأمر الشرع. ومن كان ذلك ديدنه انتهى به الأمر إلى الاستهانة بالدين كله. ولهذا قال السلف: من تتبع رخص المذاهب فسق. أي على هذا الوجه.”

عبد الرحمن بن القاسم، من أصحاب الإمام مالك الكبار، وهو حامل لواء مذهبه، ومن أعلم الناس به؛ ولذا فهو مالكي المذهب لا يخرج عن مذهب مالك في أي مسألة صغرت أو كبرت.

ثم حدث أن ولده  حنث في يمين حلف فيها بالمشي إلى بيت الله الحرام، أي أنه يجب عليه في الحنث على مذهب مالك أن يمشي من مصر إلى الحجاز حاجا على رجليه دون ركوب.

فاستفتى أباه، فقال له أبوه عبد الرحمن بن القاسم : أفتيك فيها بمذهب الليث، أي عليك كفارة يمين فقط، وإن عدت أفتيتك بمذهب مالك.

يقول ابن المنير في الاعتذار عن فعل ابن القاسم : ومحمل ذلك عندي أنه نقل له مذهب الليث لا أنه أفتاه به، وحمله عليه علمه بمشقة المشي على الحالف أو خشية ارتكاب مفسدة أخرى، فخلصه من ذلك ثم هدده بما يقتضي تحرزه من العادة.

ويعقب الزركشي: وربما كان ابن القاسم يرى التخيير فله أن يفتي بكل منهما إذا رآه مصلحة، وأما بالتشهي فلا.([4])

ومعنى كلام ابن المنير أن سبب إفتاء ابن القاسم ولده بمذهب الليث؛ ليس شفقة عليه من مذهب مالك الشاق في المسألة، ولكن لعلمه أن ولده لن يستطيع المشي، فخشي أن لا يلتزم المشي، فيضعف التدين في نفسه، فأفتاه بما يسهل عليه، كما كان يفعل الشيخ المراغي شيخ الأزهر رحمه الله، حيث كان يقول للعلماء : أفتوا الحالفين بالطلاق إذا حنثوا بمذهب ابن تيمية من وجوب الكفارة دون وقوع الطلاق؛ لأننا إذا أفتيناهم بوقوع الطلاق، ربما لم يلتزموا بذلك، وعاشوا مع أزواجهم في الحرام، وحينئذ يضعف التدين في نفوسهم، ويقولون : ليس بعد معيشتنا مع أزواجنا في الحرام  من ذنب، ويستسهلون المعاصي ، ويتجرءون على اقتحامها.

وأيًّا ما  كان السبب الذي دعا ابن القاسم إلى ما فعل ما فعل، فإن العلماء متفقون على أن اختيار الأسهل للنفس وللأهل بدون دليل يقويه ، لا يجوز في الدين، وفوق ذلك، فإن هذا الموقف حدث فريد في حياة حافلة بالأحداث، يقول الزركشي : ” وكانت هذه الوقائع تتفق نوادر، وأما الآن فقد ساءت القصود والظنون وكثر الفجور وتغير إلى فنون”([5])

التوسع في الدراسة للمنفعة الشخصية

معروف أن قول الزوج لزوجته : ” أنت طالق إذا طهرت من حيضك” معروف أن هذا تعليق للطلاق على وقت ما، وهو وقت طهرها، وأن هذا التعليق لا يحتاج إلى نية حتى على مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، والشائع لدى العلماء والباحثين والكتب الفقهية: أن هذه الزوجة مصيرها الطلاق إما حالا على رأي بعض الفقهاء، وإما عند الطهر على رأي البعض الآخر.

بهذا كان يفتي صاحبنا الفقيه، فلما تعرض هو شخصيا لهذه الواقعة، وأحب أن ينقذ زواجه من الطلاق، أخذ يفكر : هل يمكن للمعلق أن يتراجع عن التعليق قبل وقوع المعلق عليه؟ يعني : هل يجوز للزوج في هذه الحالة أن يتراجع عن طلاق زوجته قبل أن تطهر؟

هذه المسألة ليست مشهورة على ألسنة المفتين، كما أنها ليست مطروقة في الكتب الفقهية، ولا يسهل الوصول إليها، وبالتالي قإن تحريرها فقهيا ليس أمرا هينا على المشتغلين بالفقه.

والشاهد أن صاحبنا، أراد أن يتتبع هذه الثغرة؛ لعله يجد فيها منقذا ومخرجا للطلاق، وبالفعل وجد ذلك عند شيخ الإسلام ابن تيمية فيما رواه عنه ابن مفلح في الفروع.

يقول صاحبنا : أخذت مني هذه الدراسة المتأنية أياما طوالًا، ولطالما سُئلت عن مثل هذه المسألة ، فكنت أجيب فيها بالقول المشهور المتداول.

فهل استفادة صاحبنا هذا من فقهه استفادة مذمومة، أم استفادة مقبولة؟

لم أجد من تعرض لدراسة هذه المسألة، وهي تحتاج إلى بحث ودراسة، فلو أننا ألزمنا كل فقيه أن يعكف على مثل هذه الدراسة المتأنية قبل  كل فتوى لتعطلت أحوال الناس، ولو أننا منعناه من ذلك لنفسه، فبأي دليل نمنعه؟


([1])الموسوعة الفقهية الكويتية (22/ 164)، وانظر : مراتب الإجماع لابن حزم،  ص 175.

([2])البحر المحيط في أصول الفقه (8/ 380).

([3])الموسوعة الفقهية الكويتية (36/ 255)

([4])البحر المحيط في أصول الفقه (8/ 381)

([5])البحر المحيط في أصول الفقه (8/ 381)