حاولت أن أحصي كم تخسر مجتمعاتنا حينما يغيب فيها أدب الحوار فلم أستطع، ويكفيني هنا أن أذكر لكم مثالا واحدا فقط والباقي عليكم.
تعيش أمتنا أزمات حادّة، وهي بحاجة ملحّة إلى أن تستكشف طريق خلاصها، وهذا لا يمكن إلا باجتماع المعلومات واجتماع الآراء، ثم يكون عندنا قدرة على التحليل والاستنتاج، ثم ننتقل إلى مرحلة العمل على إقناع الجمهور، لأنه لا أحد عندنا يملك سلطة على الجمهور، وكل هذه الخطوات لا تتم من دون الثقة والشفافية وضبط مسارات الحوار وفحص المعلومات ..الخ وحينما لم نتمكن من ذلك صار كل واحد منا يحكم بحسب معلوماته وانطباعاته هو وهي، ليست بالضرورة متطابقة مع معلومات الآخرين، و (الحكم على الشيء فرع عن تصوّره)، من هنا صرنا نسير في طرق متعاكسة لا يمكن أن تلتقي، وكثر الخصام وسوء الظن وحملات التسقيط والتشهير بين هؤلاء أقصد المهتمين بالشأن العام، وهذه هي النتيجة المنطقية والطبيعية لغياب الحوار.
الجمهور يتابع ويراقب حتى ملّ من هذه الطروحات كلها، ولم يعد يبحث عن رأي أو حل، ومن ثم انتشرت ظاهرة (الثقافة المريحة) التي (لا توجع الرأس) ولا (تعكّر المزاج) حتى الخطاب الديني ابتعد عن مقولة (الإسلام هو الحل) إلى المواعظ والرقائق والقصص والطرائف ونحو ذلك.
في لقاء سابق جمعني مع مجموعة من أصحاب دور النشر – على هامش معرض الكتاب – سألتهم: ما أكثر الكتب التي ترون عليها إقبالا من الشباب والفتيات؟ فقالوا: أولا: القصص والروايات، ثم: كتب الطبخ والثقافة الصحية والريجيم، ثم كتب تفسير الأحلام!! يا الله ..ولكن قبل أن ألوم الشباب دعوني ألوم قادة الرأي فينا الذين لم يتمكنوا -رغم كل هذه المحن- أن ينشئوا فضاء مريحا ومشجعا لتبادل المعلومات، وعاش كل واحد منهم عالمه الخاص يبحث عن المصفقين له، ويشفي غليله من المخالفين له ثم لتغرق السفينة بما فيها ..