تنسب فرقة البوليسيين إلى بولس الشمشاطي أسقف أنطاكية، الذي آمن بما جاء به المسيح – عليه السلام -، وهو الإسلام في العقيدة، واتباع التوراة في الشريعة ، يقول عنه ابن حزم :” كان بطريركًا بأنطاكية، وكان قوله التوحيد المجرد الصحيح، وأن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهم السلام، خلقه الله في بطن مريم من غير ذكر، وإنه إنسان لا إلهية فيه.
وكان يقول: لا أدري ما الكلمة، ولا روح القدس ” فأنكر بولس الشمشاطي ألوهية المسيح وقرر أنه مجرد بشر رسول، خلقه الله كما خلق آدم ، وتمسك بالإيمان الذي أعلنه الحواريون كما في قوله تعالى -: {نَحنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشهَد بِأَنَّا مُسلِمُونَ} [آل عمران: 52]. وبعد عقد ثلاثة مجامع للتباحث في أمره خلال خمس سنوات، كان آخرها مجمع في إنطاكية عام 268م، حضره بولس بنفسه، ودافع فيه عن معتقده، فقرر المجتمعون طرده وعزله من جميع مناصبه. وبالرغم من ذلك فقد بقي لمذهبه أتباع حتى القرن السابع الميلادي، وعرفوا باسم “البوليقانية” أو “البولسية” وهم محل موضوعنا ، ويقال أن الإمبراطور ليو الثالث الأيسوري كان بوليسيًا أو متقربًا منهم.
على الرغم من أن بداية البولسيين كانت في القرن الثالث الميلادي، فإن عصرهم الذهبي كان في القرن السابع الميلادي مع الفتح الإسلامي للشام عندما أحيا قنسطنطين Constantine أسقف ماناناليس Mananalis مذهب البولسيون من مرقده وكون جماعته بالقرب من مدينة سمساط على الحدود البيزنطية الإسلامية ، وعلى هذا الأساس فقد كان للتوافق الزماني والتقارب المكاني والاتصال الدائم بالمسلمين حول سمساط وأنطاكية دور واضح في تأثر البوليسين بالمسلمين في عدد من المسائل الدينية: الإيمان بعقيدة التوحيد بأن الله واحد، وأن المسيح رسول الله، ورفض التثليث الإيمان بالوحي والعبادة ، رفض عبادة الأيقونات .
ومن الراجح أن هذه الفرقة كانت نتيجة مباشرة للتأثير الإسلامي، أو على الأقل طورت أفكارها ومذهبها نتيجة لتأثرهم بالمد الإسلامي العظيم إذ كان استعلاء الإسلام ووضوح حجته قد بهر العالم أجمع، فحرص علماؤهم على أن يفسروا عقيدتهم وإيمانهم بما يشبهه الإسلام أو يقاربه ؛ فأعادوا عقيدة التوحيد إلى الديانة المسيحية بعد طول ركود، وبالشكل الذي جعل رجال الدين البيزنطيين يطلقون على البولسيين اسم «هراطقة محمد الجدد» ، بفعل تأثير الحيوية الثقافية والفكرية التي اتسمت بها البيئة الفكرية في العالم الإسلامي عامة والحدود خاصة.
ويرى كثير من المؤرخين أن السبب في هذا كان راجعًا إلى تأثير الفقهاء المسلمين، وإطلاع رجال الدين من البولسيين على النتاج الفكري الإسلامي الغزير في مجال الدين، بفضل الحوارات الثقافية التي تجلت في كثرة مجالس الفقه والفكر في ليالي السمر على الحدود.
ونتيجة للفكر التوحيدي عند البولسيين ، وتقربهم من المسلمين أن تعرضوا لاضطهاد أباطرة بيزنطة بين عامي (48 – 79هـ / 668- 698م) وذلك حين أرسلت حملات من قبل قنسطنطين الثالث وجستنيان الثاني ضد البوليسيين وراح ضحيتها سلفانوس Silvanus الذي رجم بالحجارة حتى الموت، وكذلك خليفته سيميون تيتوس Simeons Titus الذي أحرق حياً.
وقد بلغ التأثير الإسلامي ذروته في فكر البولسيين في موقفها المتشدد ضد عبادة الأيقونات المعروفة بالحركة اللاأيقونية ، فمن المعروف أن الإسلام منذ ظهوره يرفض عبادة الصور والتماثيل ، فقد أعلن القرآن الكريم والحديث الشريف رفضهما الصريح لتصوير الكائنات الحية آدمية أو حيوانية ، وكان هناك عقاب للمثال أو الرسام ، لأنه يحاول محاكاة الخالق المبدع سبحانه وتعالى فيما اختص به نفسه ، لذا فقد استنكر المسلمون هذا الأمر عند حروب الفتح الأولى بعد رؤيتهم للمسيحيين وهم يتوجهون لهذه الأيقونات بالعبادة. وقد أخذ الاستنكار والرفض يزداد قوة حتى بلغ ذروته إبان العصر الأموي.
وهكذا طمس المسلمون – وحطموا – الصور والتّماثيل والصّلبان ليس فقط في الكنائس التي أسلم أهلها أو فتحوها عنوة، بل في كل مظاهر الحياة، وبذلك استيقظت فرقة البولسيين ورفضت ذلك عملاً بما جاء في الوصية الثانية من الوصايا العشر في التوراة «لا يكن لك آلهة أخرى أمامي ولا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة» (سفر الخروج :20 :3- 5)، وقد كانت هناك علاقة بين ليو الثالث وأبنه قسطنطين الخامس وبين البوليسيين، ويقال إنهما كانا بوليسيين، وقد وصف البوليسيون بأنهم الجناح الأيسر لمحطمي الأيقونات . وقد بلغت هذه الحركة أوجَها في عهد الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الخامس الذي عقد مجمعاً خاصاً لذلك في القسطنطينية سنة 754م.
أما عن موقف رجال الدين المؤيدين لعبادة الأيقونات تجاه الإمبراطور ليو الثالث، فإضافة إلى صدور قرار الحرمان ضده أضمروا له الحقد، ويكفي ما ذكره المؤرخ البيزنطي ثيوفانيس دليلاً على هذا الحقد فهو يقول : ” إنه كان من الخير والأفضل لذكراه أن يموت على أثر إنقاذه للقسطنطينية من حصار المسلمين لها” . أما قنسطنطين الخامس فقد تعرض للنقد الشديد اللاذع، ووصف بأسوأ الصفات من المؤرخين البيزنطيين مثل : «وليد الأصطبل – الفاجر – الزاني».
وقد تعرض البولسيون لاضطهاد كبير من الكنائس الرسمية، ولعنتهم المجامع النصرانية المخالفة، ووصمتهم بالكفر والهرطقة، ومزقتهم كل ممزق – ومن هنا – صدق عليهم كغيرهم من الموحدين أنهم «بقايا» كما جاء في الحديث:«إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» (رواه مسلم).
ولعل رفض عبادة الأيقونات والتقارب في عقيدة التوحيد بين المسلمين والبوليسيين جعل أواصر العلاقة الودية تزداد قوة بينهما، فكانت بلاد الخلافة الإسلامية هي الملاذ والمأوى ومصدر الأمن ورغد العيش للبوليسيين.
المصادر
Nicetas choniates., Historia., P.M.G. paris, 1865.
Welson:Pilgrimage of Arculfus in the holy land Palestine. Pilgrimage text society., London. 1895.
, Chronographia., P.G.M tome Cix., paris. 1963.
Zonaras. J., Annalium., P.G.M., tome Cxxxlv-cxxxv. Paris 1864