كثير من المؤتمرات التي تعقد في بلاد المسلمين – خاصة فيما يتعلق بمجال البحث الشرعي، وكذلك بحوث العلوم الإنسانية والاجتماعية- أضحت تظاهرة للكلام، تخرج بتوصيات باهتة لا مجال لها للتطبيق أو التغيير، تنفق فيها كثير من أموال المسلمين بلا داع ولا فائدة تحمد، أو تحولت تلك المؤتمرات إلى نوع من التجارة وسبيلا للربح والكسب بالاشتراك، من خلال إغراء الباحثين بتحكيم بحوثهم في المؤتمرات والندوات.

فالأموال التي تنفق في الفنادق والطعام فيها ونفقات التنقل والسفر أضحت عبئا ثقيلا، في الوقت الذي تحتاج فيه كثير من المشروعات العلمية إلى عشر ما ينفق على تلك المؤتمرات التي تكتب فيها بحوث – حسنت أم ساءت- ليقف الأستاذ مدة عشر دقائق أو ربع ساعة على أقصى تقدير- ليلقي كلمته بوجه سريع، دون مناقشة أو تمحيص للأفكار..

بل إن النفقات في تلك المؤتمرات على ما هو غير علمي تفوق النفقات التي تصرف على الجانب العلمي، فتشكيل اللجان الإدارية والمتابعة والإعلام والمالية وغيرها، ربما تفوق الجانب العلمي، حتى اضمحلت كثير من المؤتمرات التي يراد لها أن تعقد.

صناعة الباحثين

كما أن غالب هذه المؤتمرات يدعى إليها العلماء المشاهير دون جيل الشباب، فيكون هناك نوع من الإرهاق للعلماء من جهة، حتى إن بعضهم يعتذر عن المشاركات للانشغال، أو أن يرسل بحوثا قديمة ربما لا يتم بعضها لصلب موضوع النقاش بصلة..

بل الواجب إفساح المجال للباحثين الشباب، حتى يتدربوا على كتابة البحوث في المؤتمرات والندوات، وحتى يشاركوا شيوخهم وأساتذتهم وينهلوا من معين علمهم وأدبهم وطريقة كتابتهم، إلا فيما يتعلق بالقضايا التي تحتاج إلى نضج كبير، كما هو الحال في ندوات ومؤتمرات المجامع الفقهية، أو غيرها.

التقييم والأولوية

إننا بحاجة إلى دراسة للمؤتمرات والندوات في العالمين: العربي والإسلامي؛ لنقيم هذه الندوات والمؤتمرات، ومراجعة أهدافها ومقاصدها، وهل حققت من تلك الأهداف شيئا؟ وهل نحن بحاجة إلى تلك المؤتمرات من الأساس؟ وهل هناك أشكال أخرى يمكن أن تحقق المقصود دون هذا البذخ والسرف الذي نقع فيه، وتضيع فيه أموال المسلمين، في الوقت الذي يعاني فيه ملايين من المسلمين من الجوع والفقر والحاجة إلى التعليم الأساسي والجامعي..

ولقائل أن يقول: أليس من الأولى أن يقال هذا لمن ينفقون الأموال الطائلة فيما قد يكون حراما أو غير نافع، وأنه من الأولى أن لا يتحدث عن تلك المؤتمرات والندوات؟

أقول: أما إنفاق الأموال في الحرام فلا شك في حرمته، وليس هذا محل خلاف، لكن ينبغي على العلماء أن يكونوا قدوة لغيرهم، وأن علماء الأمة لا يخطون لأنفسهم منهجا بناء على غيرهم، أو على الوضع القائم في المجتمعات، بل هم من يخطون المنهج لغيرهم، ويرشدونه إليهم، وقد أرشد الله رسوله صلى الله عليه وسلم الاهتداء والاقتداء بغيره من الأنبياء قبله، كما قال سبحانه: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام/90]، فالعلماء هم القدوة لغيرهم..

الأمر الآخر: أن يكون هذا السرف باسم الدين والشريعة والعلم، لأن هذا يجرئ غيرهم على الإسراف والتبذير..

منهج مقترح لعقد المؤتمرات والندوات

ولا يعني هذا الدعوة إلى إلغاء الندوات المؤتمرات، ولكنها دعوة لتقييمها وترشيدها، وإعادة النظر إلى أهدافها ومقاصدها..

ومن النصائح والإرشادات في هذا المجال:

أولا– وضع معايير لعقد المؤتمرات والندوات، من حيث اختيار الموضوعات المطروحة، والأهداف الجزئية لعقد المؤتمر أو الندوة، وجدوى الانعقاد، وما يترتب عليه من إيجاد حلول لمشكلات في واقع المسلمين.

ثانيا– ومن الأولى أن تشكل لجنة علمية لتبحث وضع النقاط التي تناقش في المؤتمرات والندوات، وذلك من خلال:

هل تم طرح الموضوع من قبل؟

ما الإشكالات التي لم تتم معالجتها؟

ما الإشكالات التي عولجت لكنها بحاجة إلى معالجة جديدة؟

ثالثا– تحديد موضوع الندوة أو المؤتمر، بحيث يلبي حاجة ملحة في المجتمعات.

رابعا– توزيع محاور المؤتمر على مجموعات، كل مجموعة يرأسها أحد العلماء الكبار، ومعه بعض الباحثين، بحيث تخرج البحوث بشكل جماعي وليس بشكل فردي، ثم يتدرب الباحثون بإشراف العالم، فيكتسبون منه مهارات البحث العلمي والخبرة في التحليل والنقد وغيرها من المهارات.

خامسا– انعقاد المؤتمر، ودعوة أهل الخبرة والاختصاص في يوم أو يومين، مع إرسال البحوث الجماعية إليهم قبلها بمدة كافية، وإرسالها مكتوبة قبل الانعقاد.

سادسا– التركيز في المناقشة على النقاط الجوهرية، وتجنب المناقشة والملاحظات حول اللغة والصياغة والأسلوب، وكذلك التعريفات ونحوها مما يحول بين مناقشة ما هو أهم، وتكتب تلك الملاحظات المتعلقة باللغة وغيرها إلى اللجنة المنظمة للاستفادة منها.

سابعا– التركيز في النقاش على المنهجيات والإشكالات، والخروج بنتائج عملية، يمكن تطبيقها أو الاستفادة منها.

ثامنا– الخروج من المؤتمر أو الندوة بمشاريع يمكن تطبيقها على أرض الواقع، وتحل مشكلات قائمة في المجتمعات.

تاسعا– عمل ورش عمل وجلسات عصف ذهني، وتقديم أوراق عمل تعالج الإشكالات المطروحة.

إننا اليوم بحاجة إلى التأليف الجماعي، والعناية بتخريج جيل من الباحثين الشباب وتدريبهم وتأهليهم كي يرثوا المنهج والعلم من السادة العلماء، وأن تكون مؤتمراتنا نافعة للمجتمع، مرتبطة بواقع الحياة والناس، بحيث يمكن لها أن تقدم رؤية تنموية في العديد من المجالات.