يطرح المشتغلون بالعلوم الاجتماعية مفهوم الاستقامة في مقابل مفهومي الموضوعية والذاتية اللذين يطرحهما الفكر الغربي. ويتسع مفهوم الاستقامة ليمتد ما بين تأصيل فكري يتعلّق بالمنهج الأصولي في الدراسات الفكرية، وجانب تطبيقي يتعلّق بشمولية تلك الأبحاث.

وبداية، تعني أصولية المنهج في الدراسة المعرفية قيام هذا المنهج على ربط العقل بالوحي، قرآنًا وسنةً، أي انبناءه على الأصول التي تقوم عليها الشريعة. ولا يعني ذلك ارتباط هذا المنهج بالعلوم الشرعية فقط بل يمتد إلى ما يطلق عليه إسلامية المعرفة ويقصد بها الجمع بين قراءة الوحي – القرآن والسنة – وقراءة الواقع كمرجعية للعلوم الاجتماعية.

وقد فرّق علماء المسلمين في تصنيفهم للعلوم بين العلوم العقلية والعلوم النقلية تارة، وبين العلوم الشرعية وعلوم العجم تارة أخرى، وبين العلوم النظرية الفلسفية المحضة والعلوم العملية المرتبطة بالفعل الإنساني تارة ثالثة. وعادة ما يكون المنهج الذي يستند إليه التدبر في كل من العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية يرتكز من ناحية على فقه للموازنات بين المصالح بعضها وبعض، والمفاسد والمصالح إذا تعارضت، كما يرتكز من ناحية أخرى على فقه للأولويات ينبني على فهم للواقع وإدراك لمقاصد الشرع، معتمدًا في ذلك على قواعد علم أصول الفقه، مما يسهل ربط العلوم الاجتماعية بالعلوم الشرعية، ويضمن تكامل العقل والوحي في المنهاجية العلمية، ويحقق لها الأصولية والتكامل بين العلوم الإسلامية.

ويلاحظ في هذا السياق أن الأصولية لا تنفي الاستفادة من العلوم والخبرات الاجتماعية الغربية في بعض جوانبها، حيث إن الخبرات غير الإسلامية تربطها بالرؤية الإسلامية المساحة المشتركة من السنن التي تحكم الإنسان أيًا كان سياقه الحضاري أو عقيدته، واكتشاف غير المسلمين لسنن اجتماعية وتاريخية يفرض على العقل المسلم متابعتها وتدبرها، وهو ما يُدخل تجربة مثل: النسوية فكرًا وحركة أو تطورًا تاريخيًا، وتطور العلاقة بين الأسرة والدولة في المجتمعات الصناعية في مجال الاهتمام والدراسة، وإن بقيت الأصول والسنن التشريعية هي الضابط في تقويم هذه الخبرات والاستفادة منها.

وإذا كانت الأصولية تعني ربط العقل بالوحي، والتفاعل مع الواقع من خلال الاجتهاد، فإن علاقة المنهج الإسلامي بالواقع لا تقف عند حدود الاستجابة لتطوره بل تتجاوزها إلى التأثير في هذا الواقع وتقويمه، والوقوف منه موقف المسئولية انطلاقًا من “الاستخلاف” و”الأمانة” وهي بذلك تختلف عن المنهجية الغربية القائمة على أسس مادية وضعية.

و”الاستقامة” تعبير عن الوسطية الإسلامية، وهي كمفهوم ترتبط في الاستخدام القرآني بمفاهيم العدل والإيمان والأمانة والشهادة، كما أنها ترتبط في اللغة بمفهوم “القيم” حيث يشتركان في الجذر اللغوي، وهو ما يشير إلى علاقة راسخة بينهما. ويميز “الاستقامة” عن “الموضوعية” التي تدَّعي استقلال العلم عن الأخلاق والقيم، حيث إن مفهوم الاستقامة حين يتضمن هذا الارتباط فإنه يشير إلى أخلاقية العلم، وضرورة أن تحكم عملية البحث مجموعة من القيم الأساسية، كما يعبر عن أخلاقية المفاهيم الإسلامية من ناحية أخرى ومرجعيتها، وضبطها للواقع.

وإذا كان المنهج الغربي يقوم على رصد الواقع، ولا يُدخل القيم في التحليل فإن الاستقامة تعني تقويم الواقع وفق الرؤية والمثالية الإسلامية وهو ما يربط الاستقامة من خلال البعد القيمي بنفع الناس، فالعلم ليس حرفة أو ممارسة عقلية نظرية؛ بل وظيفة اجتماعية هدفها الإصلاح، وفهم السلوك الإنساني في العلم الاجتماعي الإسلامي يتأتّى بالانخراط الفعلي في الواقعية، ومعايشة الناس والتعامل معهم، والوقوف على مشاكلهم، والمساهمة الواقعية في مناشطهم المتنوعة على أوسع نطاق وعلى مستوى كل الطبقات والفئات، فهذا الانخراط الفعلي في الواقع الإنساني ضروري ولا غنى عنه لمن يريد فهمه، وهو يتكامل في منهج البحث مع الفهم العميق للأسباب والعوامل المحددة للواقع الاجتماعي والسنن التي تحكمه؛ أي الجانب النظري الذي يقدم نموذجًا تفسيريًّا للظواهر، ويضبط رؤية الباحث ويصبغها بالعدل واجتناب الهوى.

وتجدر في هذا السياق الإشارة إلى أن الدراسة التي تعتمد الاستقامة كمنهاجية لها لا تسرف في استخدام المؤشرات في دراسة الواقع، إذ أن المؤشرات في سياقها الإمبريقي، ومنهجها المادي تحتاج لإعادة نظر في ضوء الرؤية الإسلامية التي تنظر للإنسان باعتباره وحدة كلية لا ينفصل فيها الجانب المادي عن الجانب المعنوي، واهتمام الدراسات الوضعية بالإنسان قياسًا على المادة والتعامل معه بقوانين المادة إنما هو أمر يناقض المفهوم الأساسي لكرامة الإنسان وحقيقة الأمانة والاستخلاف، كذلك تتحفّظ الرؤية الإسلامية على فلسفة المؤشرات من حيث الوزن الرقمي الذي قد يعكس الحقيقة لكنه لا يقيسها بالحق.

وبعض الدراسة المعرفية الإسلامية تحاول صياغة الإطار المعرفي، وهي مرحلة تسبق مرحلة صياغة المؤشرات، إذ أن كون المؤشرات في صياغتها الغربية محل نقد لا ينفي إمكانية استخدامها كأداة من أدوات التحليل؛ شريطة أن تتم صياغتها في ضوء الخصوصية الحضارية، وهو ما يفترض وجود إطار معرفي واضح وسياق نظري تحليلي للقضية محل هذه الدراسة بداية لتحقيقه حتى يمكن في المستقبل بناء مؤشرات أكثر دلالة وأكثر تفسيرية من تلك المستخدمة في الدراسات الاجتماعية والمعرفية في العالم العربي والإسلامي.

إذا كان في مقابل الموضوعية في الفكر الغربي الذاتية فإنه يثور في إطار البحث في مسألة الاستقامة ما يقابلها وهو ما يُشار إليه عادة بالتحيُّز. ويرتبط التحيُّز في الغالب بالميل والهوى، بيد أن هناك من يرون أن من التحيُّز ما هو مذموم وما هو ممدوح. ويقصد بالممدوح: هو ما وافق العدل والحق؛ ويعني أن يصدق الباحث فيما يصل إليه من نتائج ولا يؤولها بما لا تحتمل. والمذموم: هو ما مال عن ذلك إلى الهوى. يظهر التحيُّز ليس فقط في اختيار الباحث للموضوع ومنهاجية الاقتراب منه؛ بل ربما أيضًا في المفاهيم، فالتعريف الغربي للعلم والمعرفة يختلف عن تعريف الإسلام. و بناءً على ذلك لا يمكن أن يقال إن هذا مذموم أو ممدوح؛ وإنما في الحقيقة يقال إن كل سياق حضاري ينحاز إلى مرجعية تحدد مفاهيمه وطرائق وصوله إلى الحقيقة.
ويصبح على الباحث أن يوضح انحيازاته الكلية كي يستقيم فهم القارئ لعملية كيف أدرك الظواهر وأحاول تفسيرها؟ وفي بعض الأحيان يكون التحيُّز إلى ما يراه الباحث هو الحق والعدل هو عين الاستقامة.