في نظر الثقافة الشائعة، تصنف مسألة التحدث إلى النفس بأنها ضرب من الجنون، ويصنف الشخص الذي يتحدث إلى نفسه من فئة “غريبي الأطوار”، وعززت الأفلام السينمائية هذه الفكرة حيث رسمت صورة سلبية لهذه الشخصيات وهي “تُتمتم” وحدها. عندما يمر أحدهم بجانب من يحاور نفسه أو عندما يرى صديق صديقه وهو غارق مع أفكاره قد ينتابه شعور بالأسى على حاله.
قد تكتشف بعض الاضطرابات النفسية من خلال أعراض الحديث إلى النفس مثل مرض الفصام لكن هذه العادة شائعة أيضا لدى الأصحاء.
تفسر بالوما ماري -بيفا، الأستاذة المحاضرة في علم النفس بجامعة بانجور أن “التحدث إلى النفس بصوت عال يمكن أن يكون أحد امتدادات الحوار الداخلي لدى الانسان، وسببه الخلايا المسؤولة عن الأوامر الحركية في الدماغ”.
كما لاحظ عالم النفس السويسري جان بياجيه أن الأطفال الصغار (من 1 إلى 3 سنوات) يبدؤون في السيطرة على تصرفاتهم بمجرد تطور لغتهم، فإذا اقترب الطفل من جسم ساخن سيصرخ ويقول :”ساخن” ثم يبتعد عنه. هذا النوع من السلوك يمكن أن يستمر حتى مرحلة البلوغ”.
توظيف عادة حديث النفس عندما يكون في سياقه المناسب يساعد على تقوية النسق الذهني.
الحديث إلى النفس يعزز الأداء المعرفي
أفادت دراسة بحثية بأن الحوار الذاتي مع النفس يساعد على تحسين أداء الدماغ. الدراسة المنشورة في ( Acta Psychologica) طلبت من المشاركين قراءة تعليمات معينة ثم الإستجابة للمهام المطلوبة، وتم تقسيمهم إلى فريقين: فريق قرأ التعليمات بصمت، وآخر بصوت مرتفع.
عاين الباحثون مدى تركيز وجودة الأداء لدى الفريقين، وأظهرت النتائج أن القراءة بصوت عال تساعد على استمرارية التركيز وتُحسن من الأداء الإدراكي.
وكتبت الباحثة ماري-بيفا أحد معدي الدراسة في ملاحظاتها : “الكلام بصوت مرتفع – في غير حالة السرحان – هي بمثابة إشارة عملية للأداء العالي على المستوى الإدراكي، فبدلا من وصفه بـ “مريض عقليا” فإنه يعمل على تعزيز مهاراته الفكرية ورفع درجة كفاءتها. الصورة النمطية المنتشرة عن علماء ” مجانين” يتحدثون إلى أنفسهم لا قيمة لها في محيطهم حيث تعكس واقع العبقرية التي يتسمون بها، واستعمالهم لكل الوسائل المتاحة من أجل زيادة قدراتهم الذهنية”.
ودعمت هذه النتيجة بحوث إضافية، حيث كشفت دراسة أخرى عن مشاركين استكملوا مهمة إيجاد أشياء بشكل أسرع أثناء تحدثهم مع أنفسهم ، مما يشير إلى تحسن أداء المعالجة البصرية في أذهانهم ، كما لاحظ آخرون استخدام الأطفال لنفس الأسلوب عند محاولتهم إتقان بعض المهام المعقدة، مثل ربط الحذاء.
التشجيع الذاتي محفز للنجاح
عامل الثقة بالنفس و احترام الذات يملك مفعولا قويا لتحقيق النجاح خاصة إذا أتى هذا التشجيع من الشخص نفسه.
نشرت دراسة في علم نفس الرياضة والتمارين الرياضية لـ 72 لاعب تنس شاركوا في خمس جولات من اللعب: جولة واحدة في تقييم اللعب من الخط الأساسي ، وثلاث دورات تدريبية و جولة لعب نهائية. قام الباحثون بتقسيم اللاعبين إلى مجموعتين ، وعلى الرغم من قيام كلا الفريقين بنفس البرنامج التدريبي إلا أن الباحثين طلبوا من أحد المجموعتين إضافة عامل حديث النفس.
أظهرت نتائج التقييم النهائي أن المجموعة التي استخدمت عامل الحديث الذاتي ارتفاع معدل الثقة وانخفاض مستوى القلق.
الفوائد العائدة من هذا الأسلوب لا تقتصر فقط على لاعبي التنس بل على تحسين الأداء لدى الرياضيين بشكل عام. إذا نظرنا إلى التحليل الإحصائي الخاص بفعالية استراتيجة حديث النفس وأثره على الإنجازات الرياضية سنجد أن 32 دراسة رياضية وجدت 62 عامل تأثير إيجابي، يظل هذا التأثير قائما إذا استمر الانسان في تحفيز ذاته وتشجيعها.
وأوضحت هذه النقطة د. جوليا هاربر اختصاصية العلاج النفسي المهني لقناة ان بي سي الأمريكية : “إذا تحدثنا إلى أنفسنا بطريقة سلبية، فالدراسات تشير إلى أننا ندفع ذواتنا أكثر باتجاه النتائج السلبية. في المقابل عندما يكون الحوار الداخلي محايدا على شكل تساؤل مثل ماذا يجب علي َ أن نفعل؟ أو إيجابي مثل ” يمكنني إنجاز هذا الامر ” سوف نرى نتائج أكثر فعالية على أرض الواقع”.
من ناحية أخرى، أفادت دراسة واحدة على الأقل على أن مشاركين من الفئة “المحبطة” خرجوا بمشاعر أسوأ عندما خاضوا تجربة حديث النفس حتى مع الحوارات الإيجابية.
تحدث إلى ذاتك
أولا بتغيير ذاتك من الحالة السيئة إلى الجيدة ثم النظر إليها بقدر من التواضع. كثير من الناس يتعاملون مع المشاعر السلبية باستراتيجية الحديث إلى شخص مهم بالنسبة إليه ويتوقعون نتائج شبه خارقة ! كأن تتحدث إلى أحد والديك على سبيل المثال. الدراسات العلمية تدعم فكرة إجراء حديث داخلي مع الوالدين ، بحسب دراسة نشرت في مجلة التقارير العلمية بأن التحدث مع النفس عبر طرف ثالث من أكثر الطرق فعالية للتهدئة.
ومن أجل إثبات هذه الفرضية قام الباحثون بإجراء تجربتين، في الأولى قامت بتوصيل المشاركين بجهاز تخطيط الدماغ ثم أظهروا لهم صورا متنوعة تترواح بين حالة الحياد والقلق.
طلبوا من مجموعة واحدة الاستجابة للصور من خلال التحدث إلى النفس فقط ، ومجموعة أخرى طلبوا منها التحدث مع طرف ثالث ووجد العلماء أن مجموعة التحدث عبر طرف ثالث انخفضت مستويات أنشطتها الدماغية العاطفية بشكل أسرع.
التجربة الثانية كانت لمشاركين دخلوا حالة تأمل لتجارب مؤلمة أثناء القيام بعملية مسح بالرنين المغناطيسي. وتبين أن من قام بعمل الحوار الداخلي والتأمل عبر طرف ثالث أظهر نشاطا أقل للدماغ في المناطق المرتبطة بالتجارب المؤلمة ، مما يشير إلى حصول تنسيق أفضل للنظام الإنفعالي.
يقول المؤلف وأستاذ علم النفس في جامعة ولاية ميشيغان جيسون موسر : ” من الضروري الإعتقاد أن الإشارة إلى النفس عبر شخص ثالث يقود الناس للتفكير في أنفسهم بصورة تشبه كثيرا آلية التفكير بالآخرين ويمكن إثبات ذلك بالصور الدماغية ، وهذا الأمر يساعد الناس على اكتساب مسافة نفسية قليلة عن تجاربهم ، والتي غالبا ما تكون مفيدة في النظام الإنفعالي.