لست أدري ما هي حقيقة كثير من النفوس وطبيعتها في زمننا الغريب هذا، هل هي بشرية حقيقية هكذا حالها، أم حيوانية محضة  غريزية بامتياز؟ أم شيطانية جنية ماكرة وساخرة؟.

لا أستطيع المجازفة بالحكم الجازم، ولا أغامر بذلك لأنني بدوري سأحكم على نفسي، والحاكم على نفسه، إما مشبوه وإما مجنون أو متهم ، فشهادته غير مقبولة شرعا وقانونا وعرفا ! وحتى المقر بذنب فلا يقبل إقراره حتى يراجع ثلاث مرات للتأكد من كمال أهليته !

أولا – الضحك في غير مناسبة رعونة مكتسبة

مما استثارني ، ونحن عند هذه الأوضاع الجلالية الراهنة، هو هذا البروز المنقطع النظير لصور السخرية والنكت، وافتعال الضحك المجاني الثقيل، عبر وسائل التواصل والتطاول والتميع، الذي لا يكل ولا يمل ليلا ونهارا، وكأن هؤلاء لا حس بشري مشترك لهم. كل هذا في لحظة  يعاني منها آلاف الناس بل الملايين من الآلام التي لا يطيقها كائن حيواني عادي ولا يتحملها بشر سوي أو حتى جني.

آلام الاحتضار والموت بالاختناق الذي يعد أسوأ أنواع الموت على الإطلاق، وهو الذي يوصف بموت الغبن في الفكر الإسلامي، أي حينما يغيب التنفس يغبن الشخص غبنا لا يمكن تصوره ولا التفكير فيه حتى!

مع العلم أن ما قدر لهؤلاء الشهداء بين يدي رحمة الله تعالى يمكن أن يحدث لأي واحد منا وفي أية لحظة غير منذرة ولا محذرة، لأن الموت بسبب كورونا وغيرها أقرب إلى أحدنا من شراك نعليه!

ويا له من توصيف وإعجاز في بيان حقيقة هذا الأمر كما وصفه لنا النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أعظم توصيف وأدقه وأذوقه فيما أخرجه البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال:”خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا وخط خططا في الوسط خارجا منه ، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال:هذا الإنسان وهذا أجله محيط به أوقد أحاط به،وهذا الذي خارج أمله. وهذه الخطط الصغار الأعراض.فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا “[1].

وعن أنس بن مالك قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطا فقال:هذا الأمل وهذا أجله فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب”[2].

2) فكورونا ككائن مجهري يعد واحدا من ملايين هذه الأعراض التي لا يراها منا أحد ولا يشعر بها وقد يكون فيها حتفه وهلاكه. وحينما يكون الأمر هكذا  فإن الحال الطبيعي الذي ينبغي أن يغلب على الإنسان السوي هو الخوف لا محالة، ومعه الرجاء المتوازن الذي يفتح باب الأمل ويبعد القنوط. ومن هنا فكان لا بد من وضع مقاييس سلوكية للحد من التسيب السلوكي والرعونة الوجدانية ووضع الأمور في نصابها المناسب، مع العلم بأن الأحوال القلبية وانعكاساتها صادرة من مصرف القلوب ومقدرالأمور سبحانه وتعالى كقوله: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى  وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا). ولأن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء”.

ثانيا – مرحلة الجلال وضرورة التزام الخوف الصحي

1) وحيث إن الأمر جلل بهذا الشكل فيكون الخوف ونوع الجدية هو المرشح لكي يسود أحوالنا وخاصة في هذه الأيام العصيبة. وهذا هو حال الأنبياء والأولياء والعارفين بمقام الجلال والجمال ومقتضياته السلوكية ظاهرا وباطنا.

فحقيقة الخوف كما يعرفها الغزالي: “عِبَارَةٌ عَنْ تَأَلُّمِ الْقَلْبِ وَاحْتِرَاقِهِ بِسَبَبِ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ في الاستقبال، ومن أنس بالله وملك الحق قلبه وصار ابن وقته مشاهدا لجمال الحق على الدوام لم يبق له التفات إلى المستقبل، فلم يكن له خوف ولا رجاء، بل صار حاله أعلى من الخوف والرجاء فإنهما زمانان يمنعان النفس عن الخروج إلى رعوناتها وإلى هذا أشار الواسطي حيث قال الخوف حجاب بين الله تعالى وبين العبد“.

وهذا الحال أو المقام الأعلى هو مقام الرضا بالله تعالى وقضائه، شوقا وذوقا، كما أعلمنا به شيخنا سيد حمزة القادري بودشيش أكرم الله مثواه وكما عليه وبنفس الذوق والعرفان والإذن ابنه شيخنا سيدي جمال الدين حفظه الله ورعاه، حيث يتلاشى الخوف ويضمحل. وفي نفس السياق يقول ابن عطاء الله السكندري: “العارفون إذا بسطوا أخوف منهم إذا قبضوا، ولا يقف على حدود الأدب إلا قليل”، “البسط تأخذ النفس منه حظها بوجود الفرح، والقبض لا حظ للنفس فيه”.

ويقول ابن حزم الأندلسي: ” فمن سر بشجاعته التي يضعها في غير موضعها لله عز وجل فليعلم أن  النمر أجرأ منه، وأن الأسد والذئب والفيل أشجع منه، ومن سر بقوة جسمه فليعلم أن البغل والثور والفيل أقوى منه جسما، ومن سر بحمله الأثقال فليعلم أن الحمار أحمل منه، ومن سر بسرعة عدوه فليعلم أن الكلب والأرنب أسرع عدوا منه، ومن سر بحسن صوته فليعلم أن كثيرا من الطير أحسن صوتا منه، وأن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صوته، فأي فخر وأي سرور فيما تكون فيه هذه البهائم متقدمة عليه؟ لكن من قوي تمييزه واتسع علمه وحسن عمله فليغتبط بذلك فبأنه لا يتقدمه في هذه الوجوه إلا الملائكة وخيار الناس”[3].

ثم يعرج على تحليل الظواهر السيكولوجية المتناقضة بقياسها على الواقع المادي وربطا للموضوع بمسألة الضحك قائلا: “والأضداد أنداد والأشياء إذا أفرطت في غاية تضادها ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت، قدرة من الله عز وجل تضل فيها الأوهام، فهذا الثلج إذا أدمن حسه في اليد فعل فعْل النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين وهذا في العالم كثير”[4].

والمثير للتفكر في هذا النص هو هذه الظاهرة الفسيولوجية التي تحدث عند الإكثار من الضحك والتي في نفس الوقت قد تتحول إلى بكاء من خلال الدموع المنهمرة ونحن في نشوة الفرح، وهي كإشارة إلى أن الإفراط في الضحك هنا قد يؤدي إلى البكاء هناك حيث: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ). كما دلت عليه الآية الكريمة.

2) وفي هذا يقول الغزالي: “اعلم أن الخوف محمود وربما يظن أن كل ما هو خوف محمود فكل ما كان أقوى وأكثر كان أحمد وهو غلط، بل الخوف سوط الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى، والأصلح للبهيمة أن لا تخلو عن سوط وكذا الصبي ولكن ذلك لا يدل على أن المبالغة في الضرب محمودة وكذلك الخوف له قصور وله إفراط وله اعتدال والمحمود هو الاعتدال والوسط”. وهذا الاعتداليعد من أفضل نعم الله على العبادوالمتجلي في كمال العقل – كما يعبر ابن حزم – الذي له وظيفة أخلاقية قبل أن تكون علمية وتقنية واقتصادية محضة، حتى قد خصص له عنوان: “العقل والراحة” يرى بأنه هو قد تتباين قوته بحسب انطباعه بالفضائل أو خلوه منها، وأكثرها قبولا للانطباع في الإنسان: فضيلة العدل التي تتوسط كل الرذائل، بحيث يرى أن: من أفضل نعم الله  على العبد أن يطبعه على العدل وحبه وعلى الحق وإيثاره!

ومن خلال هذه المعطيات الشرعية وتفسيراتها لدى كبار المفكرين المسلمين وما يقضيه العقل والأخلاق؛ التي هي أهم مرتع لتوظيفه على الوجه المطلوب؛ يتبين لنا أن مسألة الضحك والسخرية والنكتة الباهتة لم يعد لها مكان في هذه المرحلة: “وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا”. لأن المناسبة شرط أخلاقي وسلوكي كما يقول أحمد أمين في كتاب حياتي: “الطفل إذا تشايخ كالشيخ إذا تصابى كلاهما بغيض ثقيل كمن يبكي في عرس ويضحك في مأتم”.


[1] رواه البخاري في كتاب الرقاق

[2] رواه البخاري في كتاب الرقاق

[3] ابن حزم: الأخلاق والسير ص18-19

[4] نفس المصدر ص29