هناك ثلاثة مظاهر أساسية[1] متصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم ومعينة على ضبط السنةالنبوية، وهي:  

أولا: مدة بقاء النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه

قضى الرسول صلى الله عليه وسلم حياته بين الصحابة دون أن يكون بينه وبينهم حاجز، وإنما كان في هذه السنين – ثلاث وعشرين سنة – كلها مبلغا وموجها ومرشدا ومستشارا وقائدا وقاضيا وإماما، كان يخالطهم في الحضر والسفر وفي المسجد يصلى بهم، وحج معهم، ويغزو معهم، ويشتري ويبيع، ويزورهم ويزار ويتفقد أحوالهم، ويأكل معهم ويشاركهم في مصائبهم وفي أفراحهم، ويمازحهم، وتأخذه الجارية بيده فيذهب معها في سكك المدينة، ويداعب الأطفال، ويردف على الدابة، وفي تلك الأحوال وغيرها قد لقيت أقواله وأفعاله وتقريراته عناية الصحابة، وسارت بأخباره الركبان في البلدان، فصارت سننه مدونة في الصدور قبل السطور، بل أصبحت محور حياتهم اليوميّة.

لو فرضنا أن طالبا لازم شيخا عشر سنين حيث لا يفارقه في كل وقت ومكان ليلا ونهارا، لا يوجد أدنى الشك أنه سيحفظ عن ذلك الشيخ ما لا يحفظه غيره، وكيف يكون الظن بهؤلاء الصحابة طوال ثلاثة وعشرين عاما، وهم قمة في حب الرسول صلى الله عليه وسلم وفي السمع والطاعة له في كل حين؟ 

ثانيا: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه بالحفظ والعلم

لا شك في إجابة دعائه عليه الصلاة والسلام، ولقد روي عن حذيفة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا لرجل، أدركت الدعوة ولده، وولد ولده.[2]

قالت أم سليم رضي الله عنها  – أم أنس بن مالك – : يا رسول الله هذا أنيس ابنى أتيتك به يخدمك فادع الله له. فقال صلى الله عليه وسلم:” اللهم أكثر ماله وولده “. قال أنس: فوالله إن مالى لكثير، وإن ولدى وولد ولدى ليتعادون على نحو المائة اليوم.[3]

وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه: (بارك الله لك !) [4]

قال عبد الرحمن رضي الله عنه: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب تحته ذهبا أو فضة.[5]

قال أنس رضي الله عنه: لقد رأيته قسم لكل أمرأة من نسائه بعد موته مائة ألف دينار[6]

وإن دعاء النبي عليه الصلاة والسلام لبعض الصحابة بعدم نسيان العلم له أثر بالغ في حفظ سنته، وقد قال يوما لأصحابه “أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثى هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لن ينس شيئاً سمعه” فقال أبو هريرة رضي الله عنه:” فبسطت بردة علي حتى فرغ من حديثه ثم جمعتها إلى صدري فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به[7]

ودعا لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال:” اللهم فقهه في الدين”[8] فصار ابن عباس بحرا في العلم بالتفسير والسنة ما هو معلوم عند كل دان وقاص وعام وخاص. 

ثالثا: تميّز منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأسلوبه في نشر سنته القوليّة والفعليّة.

 منها ما يلي:

أ- بثّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حب العلم في نفوس الصحابة: وهذا البثّ العلميّ كان جليًّا في كثير من أحاديثه عليه الصلاة والسلام, كحديث “وحدثوا عنى.”[9] وحديث” وليبلغ الشاهد الغائب “[10] وحديث “نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فإنه رب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه “[11] وغير ذلك من الأحاديث الحاثَّة على نقل العلم عنه صلى الله عليه وسلم، والتي أثمرت ثمرة مباركة في حفظ سنته ونشرها فيما بعد.

ب- أسلوب بيان العلم بالفعل: وإنه أسهل الطرق لتعليم الحضور، كما في صلاته على المنبر حيث كبر فكبر الناس وراءه.. ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال “يا أيها الناس! إني صنعت هذا لتأتموا ولتعلموا صلاتي”[12] ومرة جاء إليه صلى الله عليه وسلم رجل فسأله عن وقت صلاة الصبح, فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد صلى الصبح حين طلع الفجر ثم صلى الصبح من الغد بعد أن أسفر، ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ وقال الرجل: هأنذا يا رسول الله، فقال: ما بين هذين وقت.[13]

بل كان عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: ” صلوا كما رأيتموني أصلي[14].. و”خذوا عني مناسككم”[15] وهذا الأسلوب من أوضح طرق الإفهام والتعليم.

ج- أسلوب الحوار: ضبط العلم عن طريق الحوار والأسئلة والجواب كنقش على الحجر، من حيث يستبعد النسيان فيما حفظ من العلم عن هذا الوجه الحواري، وكثيرا ما يستخدم النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب الحوار مع الصحابة في ميدان التعليم، يوجه إليهم سؤالاً ليختبر رأيهم وينتظر منهم الإجابة، وإذا لم يصيبوا جواب الصحيح بيّن لهم الصواب، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:” «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله قال: «هي النخلة»[16] 

وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار».[17] إن معرفة جواب شيء بعد محاولة تحصيله وعجزه لا ريب أنه وسيلة لترسيخ العلم في الأذهان.

د- أسلوب ضرب الأمثال: وهذا من أساليب تقريب معاني الأشياء في الأفهام وتصويرها بشكل غير كدر، وغرسها في القلوب حتى يصعب محوها في الذاكرة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يحدّث صحابته ويعلّمهم بضرب الأمثلة كالذي جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: «لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا وبه مهلكة، ومعه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه، فإذا راحلته عنده»[18]

هـ – أسلوب ربط بعض المعلومات بالمحسوسات والأحداث: كما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا في بعض المناسبات، وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة يعني البدر فقال:«إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب}[19]

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة: « هات القط لي حصيات » فلقطت له حصيات هي حصى الخذف فجعل يقبضهن بيده، ويقول:« نعم بمثل هؤلاء فارموا »[20] ثم قال:« أيها الناس إياكم والغلو في دينكم، فإنما أهلك من كان قبلكم بالغلو في الدين.»[21] فانتهاز نحو هذه الفرص ييسر إيصال العلم وإيقاعه في محله الأليق ويبقى أثره فيه. 

و- أسلوبه عليه الصلاة والسلام في التحديث: وغير خاف على أنه أوتي الرسول عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم وفواتحه مع غاية الفصاحة وغاية الوضوح، وكيف لا وهو أفصح من نطق بالضاد، فكان يتكلم بكلمات يسيرة حاملة معاني واسعة، ولم يكن يسرد الحديث، وكان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلا يفهمه كل من سمعه».[22]

وقالت أيضا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه»[23]، ويقول أنس رضي الله عنه: «كان إذا سلّم، سلّم ثلاثاً، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً.»[24] فهذا الأسلوب النبوي “أسلوب تكرار المعلومة” فيه مراعاة تفاوت قدرات المتعلمين من حيث الإدراك والضبط، حتى تقع المعلومة في قلوب الجميع بطريقة صحيحة دون خاطئة وتتم فهمها على أكمل وجه ممكن.


[1] – للمزيد ينصح باستماع محاضرة الدكتور الشريف حاتم بعنوان:” تاريخ نشوء مصنفات السنة”

 [2] رواه أحمد في المسند 38/311 وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (4193).

[3] رواه مسلم (2481).

[4] رواه البخاري (6368).

[5] رواه أحمد في المسند وصححه محققوه. 21/346

[6] مصنف عبد الرزاق. 6/177

[7] رواه مسلم (2493).

[8] رواه البخاري (143).

[9] رواه مسلم (3004).

[10] رواه البخاري (1832).

[11] رواه أحمد في المسند وصححه محققوه.35/467.

[12] رواه البخاري (917).

[13] رواه مالك في الموطأ (3).

[14] رواه البخاري (631).

[15] ينظر صحيح مسلم – كتاب الحج – باب استحباب رمى جمرة العقبة يوم النحر راكبا. 4/79

[16] رواه البخاري (2209).

[17] رواه مسلم (2581)

[18] رواه البخاري (6308)

[19] رواه البخاري (7434)

[20] مُصنف ابن أبي شيبة 3/597

[21] رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1283).

[22] مُصنف ابن أبي شيبة 9/15

[23] رواه البخاري (3567).

[24] رواه البخاري (6244).