حتى وقت قريب كانت السينما العالمية تعرض صنفين من الخَادمات: السوداء التي لا تختلف عن دواب الحظيرة سوى في كونها تمشي على قدمين، والبيضاء مدبرة المنزل، وصاحبة المظهر الارستقراطي التي لا تقلّ حضورا وأناقة وهيبة عن ربة البيت. فكانت هناك إحالة واضحة على خضوع موروث عن حقبة العبودية، وآخر مدروس بعناية ليتلاءم مع قواعد الإتيكيت.

وفي السينما المصرية التي احتلت شاشاتنا لعقود طويلة، تبدو الخادمة طائشة خفيفة الظل. لا تكتفي بالطبخ والكنس بل تقتحم أسرار البيت، لتتفنن في الدس والنميمة، أو تسعى ببريد الغرام تضامنا مع سيدتها الوالهة. بينما يشكل الخادم الأسود قطعة ديكور في المشهد، وأحيانا موضوعَ مقالب وسخرية تريح بال سيده.

أما في الدراما الحديثة التي يُفترض أنها تسهم في وعي مجتمعي بالحقوق والواجبات، فدور الخادمة هو التعبير المهذب عن الولاء والخضوع المطلق، والتقبل العادي للإهانة والاستعلاء باعتبارهما دليل اصطفاء دارويني لنخبة محددة من البشر. بل تفاجئنا أعمال أجنبية باستعداد الخادم للتضحية بنفسه وإلقائها في التهلكة، تأكيدا للولاء الذي يُخلده السيد بلحظات صمت وهو ينفث دخان سيجارته!

طبعا هذا لا ينفي التناول الدرامي لمعاناة الخادمات تحديدا، وتحريك الجانب الإنساني في الغالب، والقانوني حين يتعلق الأمر بإثبات النسب في حادثة اعتداء، إلا أن الغالب على تاريخ السينما هو الإساءة لهذه الفئة المهنية التي تشكل ،في صفوف النساء والفتيات، نسبة 83 بالمئة من العمالة المنزلية، حسب تقديرات منظمة العمل الدولية.

أسهمت المعالجة الدرامية في تثبيت مواقف و تمثلات أقل إنسانية إزاء هذه الفئة. ورغم أن أعباءها تضاعفت، بالنظر إلى التحولات الجذرية التي أدخلتها العولمة على الشرائح الأسرية، فإن معاناتها لا تزال مستمرة ، في ظل أعراف وسلوكيات تعكس أزمة القيم في مجتمعاتنا، وتحتفي بالأنانية وهدر الكرامة.

حاولت بعض الكتيبات الدينية أن تعالج المسألة بالتنبيه إلى الأخطار التي تحدق بالبيوت من جهة، والتذكير بحسن المعاملة التي نصت عليها الآيات والأحاديث النبوية. غير أن المؤلف يميل عادة إلى التطبيع مع المعايير و التمثلات السائدة، والتلاؤم معها باعتبارها شرا لابد منه ! بل إن بعض التوجيهات تتخذ صورة الغطاء الشرعي لوضع غير مقبول، كاشتراط التحقق من ديانة العامل أو العاملة المنزليين، رغم أن الموضة الاجتماعية السائدة هي استقدام جنسيات محددة، بغض النظر عن الشرط المذكور.

أضف إلى ذلك أن تحديد شروط دينية وأخلاقية لقبول العامل أو العاملة يفترض مسبقا مساءلة الأسرة عن مساحة الحركة المخصصة لهما داخلها؛ هل يتعلق الأمر بأداء مهام تخفف الأعباء اليومية، أم التنازل عن أدوار الأبوة والأمومة لكائن ثالث، يُحدد هوية الصغار ومشاعرهم وتصرفاتهم ؟

تكشف القصص اليومية لمشاكل الأسر مع الخادمات عن اغتراب واضح إزاء الإطار الذي حددته السنة النبوية، وحيرة في التوفيق بين مراد الشرع وإكراهات الواقع التي تزداد صعوبة ووحشية. وهذا الاغتراب يفرض عودة إلى الأصول لتبديده، وتقويم السلوك الاجتماعي الذي أصبحت معاييره خاضعة للأهواء والميول، والتمثلات الرائجة. فهل يسعف الخطاب الوعظي السائد لتحقيق تلك الغاية؟

من بين النصوص التي يتم استحضارها كلما أثيرت الظاهرة: حديث المعرور بن سويد الذي يقول: رأيت أبا ذر الغفاري رضي الله عنه وعليه حُلّة وعلى غلامه حُلة، فسألناه عن ذلك فقال: إني ساببتُ رجلا فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: أعيّرته بأمه؟ ثم قال: إن إخوانَكم خَولُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم. فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم.” البخاري/2545. وهذا النص حجة إذا أحسن الخطيب أو الداعية استنطاقه، لما تضمنه من مفاتيح للظاهرة، تُغني عن عشرات البنود والقوانين التي يسهل التحايل عليها.

إن عبارة ” إخوانكم خولكم” تأكيد على مبدأ الأخوة الذي يكسر منظار الدونية، ويحدد للعامل أو العاملة مهمة واضحة تحفظ له إنسانيته. فلفظ “الخَوَل” يعني الخَدم الذي يتخولون الأمور أي يصلحونها، ومنه “الخولي” الذي يتعهد البساتين ويعتني بها.

وعبارة “تحت أيديكم” كناية عن القسمة المعيشية التي تجعل بعض الناس خَدما لبعض. ولا تعني بأي حال ملكية الروح والجسد، أو التحكم المُذل لرقاب العباد. فنحن إزاء وظيفة اجتماعية ولسنا أمام تكريس متجدد لتصرفات الرق والعبودية، التي إنما جاء الإسلام لتبديدها والقضاء عليها.

أما عبارة ” فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم”، فقد يستنكرها البعض لأن فيها إخلالا بالمهام المحددة سلفا، وإضرارا بالفارق الجليدي بين السيد والخادم؛ حيث الأول أشبه بنواة صماء في المنزل، بينما الثاني إلكترون لا يكف عن الدوران. وبالتالي يصعب هنا ترديد مقالة الربيع بن خُثيم لخادمه: عليّ نصف العمل وعليك نصفه، وعليّ كنْس الحُش !

يُستحضَر هذا النص غالبا في سياق التنبيه إلى طبيعة المعاملة التي ينبغي أن تسود علاقة الأسرة بالعاملين لديها، لكن سرعان ما يتم تكييفه حفاظا على المسافة الاجتماعية بين الطرفين، ومسايرة للوضع القائم الذي تعوّد إلقاء اللوم والتبعة على الأضعف. فيتلاشى مبدأ الأخوة أمام مواصفات تعتبر العامل المنزلي سلعة خاضعة لمقاييس العرض والطلب، كما تتبدد حقوق “الخوَل” أمام ممارسات تنتهك إنسانيته، وتستنزف جهده وطاقته.

تعرضت الأسرة المسلمة بفعل العولمة إلى تغيرات أثّرت على تماسكها ومتانة بنيانها الاجتماعي. فاهتزت روابط الوالدية والدم والقرابة، كما تراجع حس المسؤولية المشتركة وارتخت قبضة القيم. أمام وضع كهذا برزت ثلاثة مستويات للتماسك الأسري، يحددها الدكتور مصطفى حجازي كالآتي:

– تماسك متصلب، حيث لايزال رب الأسرة هو السلطة المرجعية التي تحدد القواعد، وتتحكم في تواصل الأسرة مع محيطها الاجتماعي. لكنه تماسك يتراجع على نحو مضطرد بفعل التحضر السريع.

– تماسك مرن مفتوح، ينبني على شبكة من القواعد والتوجيهات المتوافق عليها بين الزوجين والأبناء. وهذا النموذج المرن يسهل عليه التكيف مع تغيرات البيئة المحيطة لكونه يجمع بين الاستقلال الشخصي وضرورة الحفاظ على التماسك الداخلي.

– تماسك متسيب مفرط الانفتاح، تهتم فيه الأسرة بوجودها الظاهر، في حين تهيمن الفردية على تصرفات أعضائها. فيصبح الفرد مرتبطا بالخارج، مع حدى أدنى من التفاعل في الداخل.

 كل نمط إذن يُحدد موقع الخادمة داخله، ودورها والآثار المترتبة عنه. فالقيام بالأعباء المنزلية اليومية يختلف تماما عن النهوض بأعباء الأمومة والتربية، والأبوة في بعض الأحيان، وبالتالي يجوز أن نحاسب العاملة المنزلية على التهاون والكسل، لكن هل يجوز محاسبتها على فشل الأمومة المستأجرَة؟

هناك فرق بين الحاجة الفعلية للعاملة المنزلية وبين خلق الحاجة التي يستدعيها المظهر الاجتماعي ودواعي الترف. ومعظم العمال المنزليين يستشعرون هذا الفرق، وتتفاوت تصرفاتهم وأفعالهم ،من حيث الضرر والخطورة، بحسب الأدوار التي اُسنِدت إليهم. لذا فإن تحميلهم المسؤولية كاملة ظلم غير مبرر، مادامت الأسرة قد تنازلت عن أدوار تقتضيها النظرة السليمة للحياة، أو بَنت تعاقدها معهم على بنود جائرة.

من أمثلة التقييم الجائر الذي يلقي بالتبعة على العامل المنزلي وحده، ما ورد في كتيب بعنوان(سيدة البيت الجديد) حين يجيب المؤلف عن سؤال: كيف يمكن حل مشكل الخادمات؟ بالقول: « ينبغي أن نعي بأن معظم مشاكل الخادمات مع الأسر التي تقيم معهم، نابع من تراكم مشاكلها الذاتية، وسعيها لتنفيس تلك المتاعب وطردها عبر تصرفات غير منضبطة وغير متزنة. فالخادمة تعبر وتترجم عن مشاكلها ومعاناتها بما تفرزه عادة من ردود فعل غير ناضجة وغير مدروسة، بسبب البعد والحرمان المؤقت عن الأهل و الوطن، وبسبب اجترار همومها ومشاكلها العائلية والذاتية، والسعي لطرد شيء منها عبر تفكيرها المتأثر بمتاعبها.»ص79.

يجب على الخادمة إذن، بحسب المؤلف، أن تخرج من جلدها كإنسان كي ترتدي ثوب العاملة المنزلية، وأن تتجرد من أحاسيس الغربة والبعد عن الأهل لتحظى بالتقدير الإيجابي. أما الأسرة التي ترهق كاهلها بأعباء فوق طاقتها، أو تُجردها من إنسانيتها لأتفه الأسباب فلا جناح عليها !

وتمتد النظرة الدونية إلى قائمة الشروط والمحاذير التي توحي بأن العامل المنزلي شر لابد منه، وأن الأسر “المسكينة” التي لا تملك خيارا آخر، عليها أن تمتحن إيمانه وعقيدته، وترصد حركاته وسكناته، وتتابع أداءه وتصرفاته. ثم يجري الحديث عن عشرات الحالات التي تأثر خلالها سلوك الطفل الديني وتصوراته بخادمات غير مسلمات، وأن الحل يكمن في التتبع والمراقبة. بمعنى أن تستبدل الأسرة عبئا بآخر، وبدل أن تضطلع بمهامها الحيوية في رعاية الصحة النفسية للصغار، والاهتمام بحصانتهم الأخلاقية، عليها أن تراقب الخادمة!

تتحدد الحاجة إلى العامل المنزلي إما بكونها استجابة لضغوط الحياة (عمل الزوجة، رعاية المسنين والمرضى…) وإما باعتبارها استكمالا لوضع اجتماعي معين. وإذا كانت الحاجة الأولى قهرية، يُمكن تلمس الأعذار لها وبالتالي إرشادها وتصويبها، فإن الثانية تستدعي توعية بخطورة “البيت الفندق” كما يسميه الدكتور حجازي، حيث تتفكك عرى الأسرة ويتصدع بنيانها، وتتحول إلى منظومة شكلية، لن يفلح الخَدَم فيها أن يُصلحوا ما أفسد الدهر!