الشيخ العربي التبسي هو أحد أعمدة الإصلاح في الجزائر، وأمين عام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، احتل الصدارة العلمية بعد وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس ، ونفي الشيخ البشير الإبراهيمي.
هو داعية إسلامي وفقيه وداعم للثورة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي الذي لم يتمكن منه إلا عن طريق الغدر والخطف والتخلص منه بطريقة لم يعرف التاريخ أبشع منها، ليلتحق بقافلة الشهداء.
من يقرأ تاريخ الجزائر بتمعن يكتشف بأنها أرض للشهداء بامتياز، حيث ارتوت بدمائهم الطاهرة في سبيل التحرر والتمسك بالهوية العربية والإسلامية، فلم يسلم من قبضة الاستعمار الذي دام 132 سنة، لا جندي ولامدني ولا عجوز أو الطفل أو امرأة ضعيفة، أو شيخ مسن، كما لم يسلم منه الدعاة ومعلمو القرآن. وقصة استشهاد الشيخ العربي التبسي قصة حزينة وموحشة ورواية إعدامه رواية تقشعر لها الأبدان، لما فيها من وحشية وحيوانية وحقد ضد كل ما يمت للإسلام والمسلمين بصلة.
المولد والنشأة والدراسة
ولد العربي بن بلقاسم بن مبارك بن فرحات التبسي عام 1895 بقرية “السطح” في مدينة “تبسة” التي اقترن اسمه باسمها، من فلاحية فقيرة تعمل في الزراعة، حيث كان والده إلى جانب عمله في الفلاحة، يتولى تحفيظ القرآن لأبناء القرية في مسجد البلدة، وقد عاش يتيما إذ توفي والده وهو في الثامنة من العمر.
بدأ العربي التبسي حفظ القرآن على يد والده في مسقط رأسه وقد توفي والده حوالي سنة 1320هـ (1903م) ، وفي سنة 1324هـ (1907 م) رحل إلى زاوية ناجي الرحمانية بـ” الخنقة ” جنوب شرق خنشلة فأتم بها حفظ القرآن خلال ثلاث سنوات، ثم رحل إلى زاوية مصطفى بن عزوز بـنفطة جنوب غرب تونس في سنة 1327هـ (1910م) ، وفيها أتقن رسم القرآن وتجويده ، وأخذ مبادئ النحو والصرف والفقه والتوحيد ، وفي سنة 1331هـ (1914م) التحق بجامع الزيتونة بتونس العاصمة حيث نال شهادة الأهلية واستعد لنيل شهادة التطويع ولم يتقدم إلى للامتحان، و رحل إلى القاهرة حوالي سنة 1339هـ (1920م) ومكث فيها يطلب العلم في حلقات جامع الأزهر ومكتباتها الغنية إلى سنة (1927م)، ثم رجع في السنة نفسها إلى تونس وحصل على شهادة التطويع (العالمية ).
مسؤولياته وتجربته الدعوية
في عام 1947 تولى العربي إدارة معهد ابن باديس في قسنطينة، وفي عام 1956 انتقل إلى العاصمة الجزائر لإدارة شؤون جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
وبعد رحلته الطويلة لطلب العلم في تونس ومصر عاد التبسي إلى الجزائر عام 1927 واتخذ من مسجد صغير ببلدة تبسة مركزا لنشاطه الدعوي والتعليمي.
وبعد وفاة علامة الجزائر الأول الشيخ عبد الحميد بن باديس ونفي البشير الإبراهيمي اتجهت الأنظار إلى الشيخ العربي التبسي بصفته المؤهل لملء الفراغ العلمي والدعوي، وقد توافد إليه طلاب العلم من كل مكان.
في 1927م بدأ نشاطه الدعوي في مدينة تبسة التي أصبح ينسب إليها، في مسجد صغير يدعى مسجد ابن سعيد فبدأ الناس يلتفون حوله ويزدادون يوما بعد يوم حتى ضاق بهم المسجد ، فانتقل بعدها إلى الجامع الكبير الذي تشرف عليه الإدارة الحكومية، لكن سرعان ما جاءه التوقيف عن النشاط من الإدارة الاستعمارية.
وكانت طريقة الشيخ أن يختار نصا قرآنيا أو نبويا يناسب موضوعه، فيفسره تفسيرا بارعا يخلب ألباب السامعين ، فيريهم حكمة الشرع ومعانيه السامية، ثم يتدرج إلى بيان الأمراض الاجتماعية فيشرحها ويبين أسبابها وعواقبها في الدنيا والآخرة ، ومن ذلك نقضه لبدع الطرقيين الضالين وتنبيهه على إفسادها للعقيدة الإسلامية وسلبها لعقول الناس، فيظهر بطلانها ويكشف حقيقة أدعياء الدجالين.
ولما لاحظ الفرنسيون نشاط الشيخ والتفاف الناس حوله، أخذوا في مضايقته ومضايقة أنصاره حتى في ذلك المسجد الصغير الخارج عن إدارتها، ولما تفاقم الأمر نصحه الشيخ ابن باديس بالانتقال إلى مدينة “سيق” في الغرب الجزائري التي أبدى سكانها استعدادا لقبول إمام من أئمة الإصلاح ، فانتقل إليها بداية سنة 1930م، ففرح أهلها بقدومه وأقبلوا على دروسه واستفادوا من علمه وخلقه وتوجيهاته فمكث فيهم إلى آخر سنة 1931م ، وفي هذه المدة تمكن من بث الدعوة الإصلاحية في هذه المدينة و في أنحاء كثيرة من الغرب الجزائري.
كان تأسيس جمعية للعلماء والدعاة العاملين على ساحة الدعوة تجمع الجهود لتصب في اتجاه واحد، وتوقظ الأمة وتنشر فيها الوعي والعلم وتجدد لها أمر دينها أمنية من أماني الشيخ العربي التبسي ، وقد كان ممن هيأ الأجواء لتأسيسها بمجموعة من المقالات نشرت له في صحيفة “الشهاب” ومن أكثرها صراحة المقال الذي نشره سنة 1926م بعنوان “أزفت ساعة الجماعة وتحرم عصر الفرد” والذي قال فيه: “فإن هذا العصر عطل الفرد ونبذ حكمه، وأمات مفعوله، وتجاهل وجوده، فأينما أملت سمعك أو أرسلت نظرك في الشرق أو الغرب، لم تجد إلا أمة فحزبا فهيأة منها وإليها كل شيء، فهي التي تذب عن الهيأة الاجتماعية، وتحرس الأمة في نوائب الدهر وعادية الأيام”.
وقال في مقال آخر: ” بكائي على الإسلام ومبادئه ونحيبي على وحدة الدين الذي أضاعه بنوه، الذي أمر بالجماعة وحث عليها، بل وجعل المنشق عنها في فرقة من الدين وعزلة عن الإسلام وعداء لأهله . والذي فلق الحب وبرأ النسمة لو أن امرأ مسلما مات أسفا وحزنا على حالة هذه الأمة لكان له عند الله العذر. أيطيب لنا عيش مع هذه الحالة؟”. وتحقق ذلك الأمل في 5 ماي 1931م بتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
وفي سنة 1935م تم تعيينه كاتبا عاما للجمعية خلفا للعمودي كما كان رئيس لجنة الفتوى فيها. وفي سنة 1940م انتخب الشيخ التبسي نائبا لرئيس الجمعية الجديد الإبراهيمي الذي كان منفيا في “آفلو”، وابتدأ التدريس في الجامع الأخضر في السنة نفسها.
وبعد افتتاح معهد عبد الحميد بن باديس عام 1947م انتقل إلى قسنطينة بعد أن أسندت إليه مهمة إدارته وقد بقي على رأسه إلى يوم غلقه سنة 1956م. وفي سنة 1952م رحل الإبراهيمي إلى المشرق فتولى رئاسة الجمعية نيابة عنه إلى أن توقف نشاطها. و بعد غلق معهد ابن باديس انتقل إلى العاصمة لإدارة شؤون الجمعية فيها وما بقي من مدارسها ومساجدها، واستأنف دروس التفسير للعامة في مسجد “حي بلكور” الذي كان يكتظ بالمستمعين على الرغم من ظروف الحرب، وبقي في العاصمة إلى أن اختطف.
ثناء أهل العلم عليه
قال عنه الشيخ ابن باديس : “الأستاذ العربي بن بلقاسم التبسي، هذا رجل عالم نفاع قصر أوقاته ببلدة تبسة على نشر العلم الصحيح وهدي العباد إلى الدين القويم، فقد عرف قراء الشهاب مكانته بما نشرنا له، وخصوصا مقالاته الأخيرة “بدعة الطرائق في الإسلام” ولأول مرة زار هذا الأستاذ قسنطينة فرأينا من فصاحته اللسانية ومحاجته القوية مثل ما عرفناه من قلمه، إلى أدب ولطف وحسن مجلس طابت له المنازل ورافقته السلامة حالا ومرتحلا”.
وقال عنه الشيخ البشير الإبراهيمي: “مدير بارع ومرب كامل، خرجتَه الكليتان الزيتونة والأزهر في العلم، خرجه القرآن والسيرة النبوية في الدين الصحيح والأخلاق المتينة، وأعانه ذكاؤه وألمعيته على فهم النفوس، وأعانته عفته ونزاهته على التزام الصدق والتصلب في الحق وإن اغضب جميع الناس ، وألزمته وطنيته الصادقة بالذوبان في الأمة والانقطاع لخدمتها بأنفع الأعمال ، وأعانه بيانه ويقينه على نصر الحق بالحجة الناهضة ومقارعة الحجة بالحجة ومقارعة الاستعمار في جميع مظاهره.
وقال فبه الشيخ أحمد حماني: “وقد كان عالما محققا ومدرسا ناجحا ومربيا مقتدرا وكاتبا كبيرا يمتاز بأسلوبه العلمي بالعمق والمتانة ودقة المعلومات، لكنه لم يترك آثارا كثيرة لاشتغاله – طول حياته – بالتدريس، وما تركه من آثار يبرهن على مكانته العالية في الكتابة، وكما كان كاتبا كان خطيبا مصقعا، ومحدثا لبقا ومحاورا ماهرا، يمتاز بحضور البديهة والمقدرة على الإقناع القلبي والفكري وحسن البديهة ، وله فيها أمثلة رائعة”.
مواقفه ضد المستعمر
وظف التبسي مكانته الدعوية والعلمية بين الجماهير في الحث على الجهاد فواظب على استنفار الشباب للانخراط بالثورة، ونشر مقالات في صحيفة “الشهاب” تحت عناوين قوية من قبيل “الجزائر تصيح بك أيها الجزائري أينما كنت”.
ونقل أحمد الرفاعي عن الشيخ الطاهر حراث أن الكثيرين من أصدقاء التبسي حاولوا إقناعه بالخروج من الجزائر بعد أن أصبح هدفا واضحا للمحتلين فكان جوابه “إذا كنا سنخرج كلنا خوفا من الموت فمن يبقى مع الشعب؟. ونقل عن التبسي قوله “لو كنت في صحتي وشبابي ما زدت يوما واحدا في المدينة، ولأسرعت إلى الجبل فأحمل السلاح وأقاتل مع المجاهدين”.
ومن مواقفه الجريئة ما نشر من مقالات يطالب فيها بمنع تدخل الحكومة الفرنسية في شؤون المساجد ، وذلك لتبقي المساجد لله لإقامة شعائر الدين وللتعليم العربي والإسلامي.
ومن الأفكار التي روجها الاستعمار فكرة الإسلام الجزائري، التي أرادت من خلالها تشويه دعوات الإصلاح باعتبارها دعوات وافدة وليست أصيلة ، أنكر الشيخ هذه الفكرة إنكارا شديدا ونسبها إلى مصدرها وكشف عن الشر المختفي وراءها، وكان مما كتبه في نقدها قوله : “الإسلام الجزائري في حقيقته ترتيب سياسي من تراتيب أنظمة الاستعمار في الجزائر، ومعابده نوع من الإدارة الفرنسية ، وموظفوه فوج من أفواج الجندية الاستعمارية، وأمواله قسم من أموال الدولة. ذلك هو الدين الجزائري الذي تبغيه فرنسا ولا تبغي الإسلام الحقيقي دين الله ولا تأذن له بالاستقرار في الجزائر”.
وكان الشيخ قد اعتقل عدة مرات وسجن إثر حوادث 8 مايو 1945م، وبقي مدة تحت الإقامة الجبرية حتى أفرج عنه في ربيع 1946م، ولم يثن ذلك من عزيمته ولا أنقص من عمله، وقد كان مثالا يقتدي به إخوانه ويتصبرون به.
اختطافه واستشهاده بطريقة بشعة
وقد علم المستعمرون أن الشيخ العربي التبسي يتمتع بشعبية كبيرة وأنه مؤيد للجهاد وأحد محركي القواعد الخلفية له، فأرسلوا إليه عن طريق إدارتهم في الجزائر عدة مبعوثين للتفاوض معه بشأن الجهاد ومصيره ولدراسة إمكانية وقف إطلاق النار، فاستعملوا معه أساليب مختلفة من ضمنها أسلوب الترغيب والترهيب، وكان جواب الشيخ دائما إن كنتم تريدون التفاوض فالمفاوض الوحيد هو “جبهة التحرير”، ذلك أنه شعر بأن مقصودهم هو تفكيك الصفوف، وربح الوقت والحد من حدة المواجهة العسكرية ليس إلا، وبعد رفضه المستمر للتفاوض باسم الأمة، رأى المستعمرون أنه من الضروري التخلص منه، ولم يستحسنوا اعتقاله أو قتله علنا لأن ذلك سوف يزيد من حماس الأمة للجهاد ومن حقدها على المستعمر، فوجهوا إليه تهديدات عن طريق رسائل من مجاهيل تأمره بأن يخرج من البلاد، وبعد أن أصر الشيخ على البقاء ، وعندما يئس المستعمرون منه قاموا باختطافه بطريقة جبانة، وصفها بلاغ نشرته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في صحيفة “البصائر” بمناسبة حادث الاختطاف : “في مساء يوم الخميس 4 رمضان 1376هـ – 4 أفريل 1957م، وعلى الساعة الحادية عشر ليلا اقتحم جماعة من الجند الفرنسي التابعين لفرق المظلات –المتحكمين اليوم في الجزائر – سكنى فضيلة الأستاذ الجليل العربي التبسي ، الرئيس الثاني لجمعية العلماء، والمباشر لتسيير شؤونها، وأكبر الشخصيات الدينية الإسلامية بالجزائر، بعد أن حطموا نوافذ الأقسام المدرسية الموجودة تحت الشقة التي يسكن بها بحي طريق التوت…وكانوا يرتدون اللباس العسكري الرسمي للجيش الفرنسي … وقد وجدوا فضيلة الشيخ في فراش المرض الملازم له، فلم يراعوا حرمته الدينية، ولا سنه العالية، ولا مرضه الشديد ، فاختطقوه من فراش المرض بكل وحشية وفظاظة…وأخرجوه حاسر الرأس حافي القدمين…ولكن المفاجأة كانت تامة عندما سئل عنه في اليوم الموالي بعده في الإدارات الحكومية المدنية والعسكرية والشرطية والعدلية، فتبرأت كل إدارة من وجوده عندها أو مسؤوليتها عن اعتقاله أو من العلم بمكانه”.
وتتحدث العديد من الروايات والمصادرعن ظروف قيام الاستعمار الفرنسي بتصفية الشيخ التبسي بعد اختطافه، حيث تكفل بتعذيبه عدة جنود والشيخ بين أيديهم صامت صابر محتسب لا يتكلم، وبعد عدة أيام من التعذيب، نفذ صبر قائدهم “لاقايارد” – قائد فرقة القبعات الحمر- فأمرهم بوضعه في قدر كبيرة مليئة بزيت السيارات العسكرية والاسفلت الأسود وأوقدت النيران من تحتها إلى درجة الغليان، والشيخ يردد بصمت وهدوء شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى أغمي عليه…ثم نزل شيئا فشيئا إلى أن دخل القدر بكامله فاحترق وتبخر وتلاشى. ويُذكر في تاريخ الجزائر إلى اليوم على أنه “الشهيد الذي لا قبر له”.