ورد في صحيح مسلم عن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، قالا: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام، عن النبي قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما».[1]

هذا الحديث يعالج قضية مهمة ويتناول مسألة كثيرا ما تقع وهي إقدام بعض الناس على إبرام عقد البيع دون ترو أو تفكير، يدفعم إلى ذلك فضول الحديث ونحوه، فيندمان أو يندم أحدهما على ما بدر منه بشراء شيء لا يريده أوبيع شيء من ماله لا يرغب في بيعه ونحو ذلك من السباب التي تفضي إلى الندم والإحساس بالغبن.

فجعل الشارع الحكيم لهما أمداً يتمكن فيه، كل منهما من فسخ العقد، ولو لم يشترطا خيارا في العقد، وهذا الأمد هو مدة مجلس العقد.” البيعان بالخيار مالم يتفرقا

فما دام العاقدان بمجلس العقد المعتاد، فلكل منهما الخيار في إمضاء العقد أو فسخه؛ فإذا افترقا بأبدانهما، افتراقا يتعارف الناس عليه، فقد تم العقد، ولا يجوز لواحد منهما الفسخ، إلا بطريق الإقالة؛ وهذا هو ما يسميه الفقهاء بخيار المجلس وإن لم يكن محل اتفاق منهم.

لكن الجمهور ومنهم الشافعية والحنابلة وبعض المالكية ذهبوا إلى اعتباره، فلا يلزم العقد عندهم إلا بالتفرق عن المجلس أو التخاير واختيار إمضاء العقد.

وذهب الحنفية والمالكية إلى عدم اعتبار خيار المجلس، وهو قول الثوري والليث وبعض أهل العلم.

وهنا قد يستعظم أحدهم كيف خالف هؤلاء منطوق هذا الحديث الصحيح؟ وربما يكون هذا المستعظم للأمر من الفريق القائل بعدم اعتبار خيار المجلس  كعبد الحميد الصائغ رحمه الله. وهو  من أصحاب مالك فقد أقسم بالمشي إلى بيت الله على رجليه إن هو أفتى بمذهب مالك في هذه المسألة.

ولكن لنعذر أهل العلم ولنعلم أنهم جميعا كما قال القائل:

وكُــلُّهُم مِن رسـولِ اللهِ مُلتَمِـسٌ غَرْفَا مِنَ البحرِ أو رَشفَاً مِنَ الدِّيَـمِ

أدلة كل من الفريقين:

استدل القائلون باعتبار خيار المجلس بحديث ابن عمر أن رسول الله قال: المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار. وهو حديث صحيح متفق عليه.

وفي رواية: “ما لم يتفرقا أو يكون البيع خياراً”. وفي رواية: “أو يخير أحدهما الآخر”.

ووجه الاستدلال من الحديث إثبات الخيار من الشارع للمتبايعين، ولا يسميان متبايعين إلا بعد تمام البيع وانعقاده. أما قبل ذلك فهما متساومان لا متبايعان.

كما استدل هؤلاء بقول ابن عمر: كانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا. رواه البخاري معلقاً ووصله البيهقي والإسماعيلي، وقول الصحابي من السنة كذا له حكم الحديث المرفوع.

وقالوا ثبوت هذا الخيار ومشروعيته مما تقتضيه الحاجة وتدعو إليه، دفعا للغبن وتداركا لما فات من ترو من الطرفين أو أحدهما فإن أمضياه مع ثبوت هذا الحق فقد وقع حينئذ عن تمام الرضا وإلا فيمكن للنادم تدارك ما فاته بالأخذ بهذا الخيار.

وأما الفريق القائل بعدم ثبوت خيار المجلس بعد تمام العقد. وحصول الإيجاب والقبول من الطرفين فمما استدل به أن التفرق المذكور في الحديث هو التفرق في الأقوال لا الأبدان وقد استعمل في الشرع التفرق بهذا المعنى كثيرا وبهذا نعلم أنهم لم يردوا الحديث بل عملوا بمنطوقه وفق ما فهموا،

واستدلوا أيضا برواية: “فلا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله”، حيث تدل على أن صاحبه لا يملك الفسخ إلا من جهة الاستقالة.

واستدلوا بقياس البيع ونحوه من المعاملات المالية في هذا على النكاح، والخلع، والكتابة، وكلها تتم بدون خيار المجلس فكذلك البيع.

وقالوا إن خيار المجلس خيار بمجهول، فإن مدة المجلس مجهولة، فأشبه ما لو شرطا خياراً مجهولاً، وهذه جهالة فاحشة ممنوعة في الشرع.

قال السرخسي الحنفي في المبسوط: ” فأما الحديث فرواية مالك – رحمه الله – ومن مذهبه أنه لا يثبت خيار المجلس وفتوى الراوي بخلاف الحديث دليل ضعفه ثم المراد بالحديث إن صح المتساومان فإن حقيقة اسم المتبايعين لهما حالة التشاغل بالعقد لا بعد الفراغ منه كالمقابلين والمناظرين وبه نقول: إن لكل واحد من المتساومين الخيار.

أو المراد بالتفرق التفرق بالقول دون المكان يعني أنهما جميعا بالخيار إن شاءا فسخا البيع بالإقالة ما لم يتفرق رأيهما في ذلك. وذكر أبو يوسف في الأمالي أن تأويل هذا الحديث إذا قال لغيره: بعني هذه السلعة بكذا، فيقول الآخر: بعت وبه يتأول أن هذا الكلام قبل قول المشتري اشتريت لكل واحد منهما الخيار ما لم يتفرقا عن ذلك المجلس وهذا صحيح فهما متبايعان في هذه الحالة لوجود التكلم بالبيع منهما”.[2]

وقال بعضهم حديث البيعان بالخيار جاء بألفاظ مختلفة فهو مضطرب لا يحتج به وتعقب بأن الجمع بين ما اختلف من ألفاظه ممكن بغير تكلف ولا تعسف فلا يضره الاختلاف وشرط المضطرب أن يتعذر الجمع بين مختلف ألفاظه وليس هذا الحديث من ذلك.

قال ابن عبد البر: قد أكثر المالكية والحنفية من الاحتجاج لرد هذا الحديث بما يطول ذكره وأكثره لا يحصل منه شيء، وحكى ابن السمعاني في الاصطلام عن بعض الحنفية أنه قال: البيع عقد مشروع بوصف وحكم، فوصفه اللزوم وحكمه الملك، وقد تم البيع بالعقد فوجب أن يتم بوصفه وحكمه، فأما تأخير ذلك إلى أن يفترقا فليس عليه دليل لأن السبب إذا تم يفيد حكمه ولا ينتفي إلا بعارض ومن أعاده فعليه البيان. وأجاب أن البيع سبب للإيقاع في الندم، والندم يحوج إلى النظر فأثبت الشارع خيار المجلس نظرا للمتعاقدين ليسلما من الندم، ودليله خيار الرؤية عندهم وخيار الشرط عندنا، قال ولو لزم العقد بوصفه وحكمه لما شرعت الإقالة، لكنها شرعت نظرا للمتعاقدين إلا أنها شرعت لاستدراك ندم ينفرد به أحدهما فلم تجب وخيار المجلس شرع لاستدراك ندم يشتركان فيه فوجب.[3]

وقد اختلف القائلون بثبوت خيار المجلس وأن المراد بالتفرق التفرق بالأبدان، وهو القول الراجح إن شاء الله.

هل للتفرق المذكور حد ينتهي إليه أم هو موكول إلى العرف؟ فكل ما عد في العرف تفرقا حكم به ومالا فلا وهو القول الأقرب..

وقوله في الحديث (فإن صدقا وبينا) أي صدق البائع في إخبار المشتري مثلا، وبين العيب إن كان في السلعة وصدق المشتري في قدر الثمن مثلا، وبين العيب إن كان في الثمن؛ قال الشيخ خليل بن إسحاق –رحمه الله تعالى-: ووجب تبيين ما يكره… جاء في منح الجليل شرح مختصر خليل: (ووجب) على كل بائع بمرابحة أو غيرها (تبيين ما يكره) بفتح الياء والراء أي المشتري في ذات مبيعه أو صفته لو اطلع عليه المشتري تحقيقًا أو ظنًّا أو شكًّا لَتَرك شراءه، أو قلت رغبته فيه. في الجواهر: يلزمه الإخبار عن كل ما لو علم المبتاع به لقلت رغبته في الشراء. ابن عرفة: يجب ذكر كل ما لو علم قلت غبطة المشتري. اهـ.

وفي الكفاف للعلامة محمد مولود الشنقيطي:

بيان ما يكرهه المبتاع     أو ينقص من رغبته الشيء ولو
شكا محتم ............ اهـ.

وقوله: ( فإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما) يحتمل أن يكون على ظاهره وأن شؤم التدليس والكذب وقع في ذلك العقد فمحق بركته وإن كان الصادق مأجورا والكاذب مأزورا، ويحتمل أن يكون ذلك مختصا بمن وقع منه التدليس والعيب دون الآخر؛ وفي الحديث فضل الصدق والحث عليه وذم الكذب والحث على منعه وأنه سبب لذهاب البركة وأن عمل الآخرة يحصل خيري الدنيا والآخرة.[4]


[1] ـ صحيح مسلم / الحديث رقم: (1532).

[2] – المبسوط للسرخسي 13/157.

[3] ـ فتح الباري لابن حجر (4/ 332).

[4] ـ فتح الباري لابن حجر (4/ 329).