كل فرد منا نحن بني آدم ،مهما كان مستواه أو شكله أو عرقه أو لغته أو لونه أو صوته.. قد يسعى لإثبات وجوده أو لنقل حضوره ضدا على مغيبه، وهذا تأكيد على أن الإنسان حضاري بطبعه. ولا يسعى بعضنا لتغييب هذا الحضور بالتستر والتواري عن الأنظار إلا إذا كان يعاني من شبهة أو نقص قد يطال كماله فينزل منزلته نحو الأسفل. وعلى العكس من ذلك فقد يكون هناك نقص معين فيه قد سبب له تهميشا وتغييبا ، ولم لا إغراقا في جب النسيان واللامبالاة، فيحتاج حينئذ إلى من يمد له يد المساعدة للخروج من غياهبه إلى أن يطفو على السطح فيشار إليه بالبنان والتفاح النفّاح، ثم يصبح مسجلا في لائحة الحضور.

وعند هذا التداخل بين بواعث ومعادلة الحضور والغياب يتداخل موضوع المدح مع الذم على نفس الطاولة ويتبادلان الأدوار في الإقصاء والاستقطاب.

أولا: المدح بين الثقة بالنفس واستدراك الكمال

فالمدح لغة “هو إحسان الثناء على المرء بما له من الصفات الحسنة. مَدَحَه كَمَنَعَه مَدحا ًومِدحَةً : أحسَنَ الثَّناءَ عليه….والمَديحُ والأُمدُوحَةُ ما يُمدَحُ به، جمعُه : مَدائِح، وأَماديح“و”المدح هو ذكر المحاسن، وهو الثناء بذكر الجميل، والمدح لا يستلزم المحبة“و”فالمدح هو إخبار مجرد، وقيل المدح هو ذكر المحاسن بمقابل وبدون مقابل، والمدح يكون بذكر الجميل الاختياري وغير الاختياري”.هذا باختصار.وأما الذم فهو”بالفتح مصدر ذم ، جمع ذموم ، الانتقاد واللوم = ضد المدح.”

ومن هذا التناقض الأخلاقي والتعبيري نتساءل: كيف يمكن للمدح أن يصير ذما وللذم أن يصير مدحا، مع أن القصد قد يكون إما إيجابا أو سلبا؟، وهنا تتدخل الكيمياء الأخلاقية لتحليل العناصر المتركبة منها المادتين.

وكمنطق علمي فلابد من البحث في أسباب المبادرة وبواعثها النفسية، قبل الاعتبارات المادية والظواهر الاجتماعية، وهذه الأسباب سيلخصها أحد فحول الفكر الأخلاقي الكبار، وهو أبو حامد الغزالي من كتاب الإحياء الثالث في أربعة أسباب:

السبب الأول هو شعور النفس بالكمال: وهذا ما يمكن وصفه ب“الأنا” حسب المصطلح الحديث، والهوية والشخصية وما إلى ذلك ، وهذه “الأنا” تطلب دائما  أن تكون هي الأعلى. أعلى على المستوى الفردي، وأعلى على المستوى الجماعي، وهذا ما يمثله الطموح السياسي الذي يسعى للحكم والتحكم وإصدار الأوامر والنواهي، وفيه منتهى التطلعات على المستوى الظاهري.

والكمال هنا قد يتفاوت بحسب القيمة التي تعطى للأشياء في المجتمع. فقد يكون الأمر متعلقا بالظواهر الجسدية الجلية،كطول القامة واستقامتها أو قصرها وانكسارها، وصفاء اللون وعذوبته أو بحته وخشونته…والمدح في مثل هذه الحالات لا يورث لذة أو متعة تذكر، لأن لها منافسات عدة كما أنها مرحلية ومتغيرة، بل ما يعتبر ممدوحا في مجتمع قد يكون مذموما في مجتمع آخر. وهذا الأمر ربما سيجرنا إلى جدلية “القبح والحسن العقليين” عند الفلاسفة والمتكلمين.

لكن الكمال الذي يورث لذة لدى الممدوح حين مدحه هو حينما يتعلق الأمر بمسألة غير محصورة ويدخلها الشك في النفس من طرف الممدوح، مثل ما يتعلق بمستواه العلمي أو ورعه ونزاهته ودقة صنعته وخبرته، فإن الإنسان ربما يكون شاكا في كمال حسنه وفي كمال علمه وكمال ورعه ويكون مشتاقا إلى زوال هذا الشك بأن يصير مستيقنا لكونه عديم النظير في هذه الأمور إذ تطمئن نفسه إليه فإذا ذكره غيره أورث ذلك طمأنينه وثقة باستشعار ذلك الكمال فتعظم لذاته”.

وعند هذه النقطة سيتداخل موضوع المدح مع الذم بحسب طبيعة المادح، بحيث إذا كان المادح من المستوى الرفيع ومن علية القوم علما وشرفا ومكانة فإن هذا المدح سيكون كمالا للممدوح، لكن إذا كان المدح من سفلة القوم وأراذلهم، أو بالأحرى ممن ليس لهم إلمام بالمستوى أو التخصص الذي يكون عليه الممدوح فذلك سيصبح مؤلما للممدوح إن كان فعلا هو على مستوى رفيع. أما إن كان متقمصا لشخصية عالم أو مفكر، أو ولي صالح، أو طبيب مختص، وهو ليس له من ذلك سوى الادعاء والتطفل فإن المدح حينئذ قد يزيده غرورا وبطرا وتكبرا ونقصا ووهما كماليا.

  لكن المدح المفيد للكمال والجمال الأكيد فيكون مثلا” كفرح التلميذ بثناء أستاذه عليه بالكياسة والذكاء وغزارة الفضل فإنه في غاية اللذة وإن صدر ممن يجازف في الكلام أو لا يكون بصيرا بذلك الوصف ضعفت اللذة وبهذه العلة يبغض الذم أيضا ويكرهه لأنه يشعره بنقصان نفسه“حسب تعبير الغزالي.

أما السبب الثاني والثالث في المدح فهذا مربط الفرس لدينا في هذا المقال المختصر، وهما عبارة عن غريزة  الامتلاك والسيطرة عند الإنسان من خلال صيد المدح والترويج له. وهما يسيران على نحو متناقض تماما كما هو عليه الحال بين المدح والذم حينما يوضعان في غير محلهما .

فالسبب الثاني قد يكون من باب سيطرة الممدوح على قلب المادح، ولكن ليس كل مادح، بل ينبغي أن يكون صادرا من شخصية مرموقة وذات أهمية اجتماعية ومالية وحتى سياسية ،كما يحصل من مدح بعض الرعايا ووجهاء القوم في حضرة حاكمهم ،أو من بعض المريدين لشيخهم وأستاذهم أو إمامهم.فبقدر ما كان المادح له قيمة بقدر ما ازداد الممدوح فرحا واغتباطا بهذا المكسب، الذي قد تكون له انعكاسات مادية أو معنوية على المستوى الفردي أو السياسي العام.لكن حينما يكون المدح من رعاع الناس وعامتهم فذاك ليس إلا!

ومن نفس خلفية الامتلاك هذه  نقول أيضا بأن هناك مدحا ممن هو أدنى لمن هو أعلى مقاما  لغاية جعله مِلكا له في مقام المادح الصغير وليس كممدوح كبير. وهذا قد يقع بين بعض أفراد الرعية والخدام والمتزلفين نحو المناصب بالتقرب إلى السلطان. فتجد المادح يستعمل أساليبه الفنية والنثرية والشعرية والمتمسكنة حتى يحصل له التمكن من قلب الحاكم، الذي قد ينقلب في لحظة وعند الغفلة من حاكم إلى محكوم وآمر على مأمور، ويصبح الحاكم نفسه حينئذ لعبة في يد حاشيته وندمائه لهذا السبب.

  ثانيا: الوسائط في الثناء والاستقطاب غير المباشر

أما السبب الثالث فهو مرتبط بهذا المعنى ولكن بالقنص عبر الوسائط ، وهنا يمكن إدراج الوسائل الإعلامية في الإشهار والتشهير والاستطلاع والتزمير، تماما كما كان يفعل الشعراء مع الخلفاء قديما، بحيث كانوا يضربون عصفورين بحجر واحد. الأول كسب قلب الحاكم حيث العطايا والهدايا والحظوة . والثاني الترويج لحكم الحاكم وملك قلوب العامة بتحريك العواطف وذكر المناقب والمنجزات التي قد تكون صحيحة أو وهمية،المهم هو أن الخطاب يكون قد وصل إلى القلوب والمشاعر .

فكما يرى الغزالي:” أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه لاسيما إذا كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ويعتد بثنائه وهذا مختص بثناء يقع على الملأ فلا جرم كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى قوله كان المدح ألذ والذم أشد على النفس”.

وهذا المعنى يكاد يشبه ما يصطلح عليه في عصرنا ب”البروباغاندا” الإعلامية وغيرها. والتي تمارس على أعلى مستوى، وفي مختلف المجالات، وخاصة السياسية والدعوية والطائفية. فيأتي الشخص من ذوي المكانة العالية علميا وإداريا وغيره مشحونا بحزمة من المدائح عند التجمعات، وإن كان هو بدوره غير مقتنع علميا أو سلوكيا بممدوحه،  فيستَغل أو يوظَّف في مثل هذه التجمعات تحت شعار “إياك أعني واسمعي يا جارة“. وما أكثر ما تصيدت به الجماهير من هذا الباب وغلب عليها العقل الجماعي وسيقت سوق البعير وهي لا تدري! فتجدها تتمسح وتتمدح وتصيح وتذرف الدموع تفاعلا من خلال هذه المدائح، فتكون في النهاية المصيدة الصائدة.

وهذا الأمر والتفاعل بالمدح قد يحتمل نتيجتين متناقضتين أيضا. فإما أن يكون المادح والممدوح من الصادقين والصالحين فعلا فيكسب المستمع وده وفضله وينتفع به، وإما أن يكون الممدوح ذئبا عاويا يفتك بالقطيع فيرديها الموارد،فيكون المادح من حيث لا يريد أو يدري مساهما في هذا المطب الصائد.

وعند السبب الرابع قد يلعب الوسيط نفس الدور ولكن مع وجود مانع أخلاقي لدى الممدوح ألا وهو الحياء والحشمة ،وعدم الجرأة على إبراز مواهبه أمام الجمهور .فيكون المادح حينئذ ممن يبرز هذه الخلال نيابة عنه، ولكن بشرط أن يكون المادح ممن تعتبر مكانته في المجتمع وإلا انقلب المدح ذما والرفعة سفلا.

وخلاصة القول فإن الشريعة الإسلامية قد وردت فيها إشارة إلى هذه المعاني والمخرجات النفسية والاجتماعية لما يمكن للدعاية والثناء أو الذم أن تفعله في نفس المستمع والمادح والممدوح معا .فكان النهي من جهة وكان التوظيف من جهة أخرى وكان التخصيص بالكمال حيث المدح المطلق .

يقول النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : “إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ.

وفي نفس الوقت كان يستبشر ويجيز لحسان بن ثابت أن يمدحه:

وَأحسَنُ مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني ** وَأَجمَلُ مِنكَ لَم تَلِدِ النِساء
خُلِقتَ مُبَرَّءً مِن كُلِّ عَيبٍ ** كَأَنَّكَ قَد خُلِقتَ كَما تَشاءُ

وفي باب الكمال ومدح الذات والصفات والأفعال الإلهية يقول النبي صلى الله عليه وسلم:. ما مِن أحَدٍ أغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِن أجْلِ ذلكَ حَرَّمَ الفَواحِشَ، وما أحَدٌ أحَبَّ إلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللَّهِ”.

فعلى الفاهم والحاذق أن يفهم متى يمدح ومتى يذم .و لا نحصي ثناء عليك يا الله فأنت كما أثنيت على نفسه.