إنه ابنك أو ابنتك، أي فلذة كبدك. ولا شيء يعدل حبهما أو يفوقه إلا محبة الله ورسوله، طبعا لمن رُزق بصيرة يقرأ بها سطور الدنيا على حقيقتها. غير أن من الحب ما قتل؛ وشكوى الآباء اليوم من عقوق أبنائهم والعنف الذي صار يطبع سلوكهم تزداد وتيرتها وتجلياتها المؤلمة. هل هي الظروف حقا؟ أم الزمان الذي ندعي فساده، ولو نطق لهجانا على حد تعبير الإمام الشافعي رحمه الله!
إن سلوكيات الأبناء ما هي إلا مخرجات لأسلوب التنشئة الذي اعتمده الأبوان. وقد حذر النبي ﷺ من هذه المغبة حين يستقبل الوالدان فطرة نقية، فيُهودانها، أو يُنصرانها، أو يُمجسانها. وإن شئت مزيدا من الوضوح، فإننا استبدلنا بالصرامة و الحزم الشديدين، حرصا زائدا، وتدخلا في أدق تفاصيل الأبناء، بل صرنا نضع الخطط لمستقبلهم واهتماماتهم وميولهم، كأنهم لا يملكون حق الاختيار وتحديد المسار. فعلام الشكوى حين يكون أسلوب التنشئة هو سبب البلوى؟
حرصك الزائد على أبنائك، وضغوطك المستمرة لأن ينفذوا خططا وضعتها دون استشارتهم، أمران يهددان صحتهم النفسية. فأسلوب التنشئة الذي تعتمده الأسرة يكون له أثر على النمو الإدراكي للطفل وقدرته على النجاح والابتكار، فإما أن يُحفز ملكاته وإما أن يعيق إمكاناته، ويحول يقظته العقلية إلى خمول وانسحاب أو تمرد.
ما السبيل إذن إلى إمساك العصا من الوسط، وإشاعة جو معتدل يتحرر فيه الطفل من مخاوفه ومخاوفك، ويتعود على الإمساك بزمام أمره؟ إن السبيل إلى ذلك يكمن في تجديد عهده بصحيفته، وتدريبه على تحمل مسؤولية أفعاله. فيؤدي الآباء واجب التربية و التهذيب، وتلقين المكارم والمبادئ. ويتحمل الأبناء تبعات التجربة العملية لكل ما تشربوه في حضن الأسرة. فإن كان خيرا فخير، وإن كان غير ذلك فهو من عند أنفسهم.
ذات يوم أردف النبي ﷺ على دابته غلاما في العاشرة، وألقى على مسامعه وصية جليلة. كان الغلام هو ابن عباس رضي الله عنهما، والوصية قواعد كلية في أمور الدين، تتضمن رعاية حقوق الله تعالى ومراقبته، وحسن التوكل عليه وتفويض الأمر له. ولو قاربنا الحدث من زاوية تربوية، لقلنا أن النبي ﷺ كان يضع الغلام أمام مسؤولياته الدينية، والدنيوية بطبيعة الحال، ويحدد له الكلمات التي يسره أن يلقى أثرها في صحيفته. كان الأمر تأكيدا على أن المسؤولية الحقيقة تنبع من الداخل ولا يمكن فرضها من الخارج.
كيف ذلك؟
لو استعرضنا جانبا من تعاليم التربية الحديثة التي أخضعت العلاقة مع الأبناء لنظريات علم النفس و الاجتماع، ولقائمة طويلة من الروائز والاختبارات السريرية، لفوجئنا بتطابق مثير للانتباه. ففي مؤلفه (التربية المثالية للأبناء) يخلص عالم النفس السريري الدكتور هايم جينو إلى أن الأعمال الروتينية التي يفرضها الآباء على أبنائهم في البيت، والتدخل المستمر لقولبة شخصيتهم، قد يساعد في إدارة البيت لكنه لا يحقق الشعور المطلوب بالمسؤولية. فهذه الأخيرة تنبع من الداخل، أي من الدين والقيم العليا كاحترام الحياة، والاهتمام بالخير العام الإنساني. إن الطفل الذي يُحدد له ما يجب القيام به، ويُحرم من التفضيل بين عدة خيارات وتنمية معاييره الخاصة، قد يصير في النهاية مهذبا وينجز الأعمال المطلوبة، لكنه سيعجز عن اتخاذ قرارات مسؤولة.
حين يحرص الوالدان على البناء العبادي لشخصية الطفل، وتعويده منذ سن مبكرة على أداء الصلاة والاستئناس بالمسجد، فإن ذلك يعزز قوته الإيمانية، ويربط أفعاله بآثارها على صحيفته. وحس المسؤولية هذا يشكل من جهة أخرى ضابطا للقلق النفسي، ويقوي فيه الإرادة الجازمة وثبات القلب. فيكون واثقا من نفسه ومن قدراته، مهما تغيرت المواقف و الأحداث. وتستوقفنا في هذا الصدد حكاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لمّا مر بصبية يلعبون وفيهم عبد الله بن الزبير، فلما رأوه هربوا منه إلا عبد الله، وحين سأله عمر: لم لم تهرب مع أصحابك؟ قال: يا أمير المؤمنين؛ لم يكن الطريق ضيقا فأوسع لك، ولم أرتكب جرما فأخافك! إنها فطنة ورباطة جأش تثير الإعجاب، لكن أليس لنا أن نتساءل عن الجو الأسري الذي نشأ فيه أمثال ابن الزبير؟ وعن القواعد التي هيأته ليكون عنوانا للثبات منذ نعومة أظافره؟
ولا يكتمل مشوار الصحيفة إلا حين يرشد الأبوان صغيرهما إلى النموذج الذي يتعلق به، ويسعى جاهدا للاقتداء بأفعاله وأقواله؛ خاصة وأن مقدمات المراهقة تشهد، بحسب الدارسين لخصائصها، ميل الغلام إلى مثالية زائدة، وبحث عن قيم ومعايير جديدة ينفرد بتمثلها، والاستماتة في الدفاع عنها، ورفض أي نقد يُوجه لها.
رغم أن التربية الحديثة تعج بعشرات التقنيات والاستراتيجيات، إلا أن تخطي المشاكل التي تعترض الأسرة المسلمة يكمن في المبادئ الجامعة، أي في القيم ومحددات الانتماء و التماسك الثاوية في أعماقها. والحديث عن “الصحيفة” التي يؤتاها المرء بيمينه أو شماله في الآخرة، مرتبط بتلك القيم وذاك الانتماء. إذ ليس الأمر مجرد تنبيه إلى وظيفتها في ضبط حسنات المرء وسيئاته، وإنما التأكيد على سمو هدفها في تدريب النشء على رقابة هي أرحم بهم من الأم والأب، وتربية جيل نطمح أن يخفف شيئا من أثقال الحاضر!