إنَّ الله تعالى درب آدم عليه السلام قبل أن يباشر مهمة الاستخلاف في الأرض تدريباً يؤهله لمسؤولية الاستخلاف في الكون، وكان التدريب في مكان يكفل الحياة والراحة والأمن، وما كان الله ليزج بآدم في ذلك الكون الواسع دون أن يدربه أولاً على مهمته.

حيث أوضح الله تعالى له الأوامر وأجلى له النواهي، وحذره من الشيطان، ولم يكتف الخالق الرحيم بذلك بل قدم لآدم الفرصة للتوبة إن أصابته الغفلة، وأعلمنا الحق كيف أن الشيطان قد ثأر لنفسه من آدم عليه السلام. إذ عصى الشيطان فلم يسجد، وأراد أن يستأثر بآدم ليوقعه هو وأبناءه في الخطيئة، ولقد نبه الله تعالى آدم لعداوة إبليس، ومع ذلك وسوس إبليس لآدم وقاده إلى الخطأ، ويقول الحق تبارك وتعالى: ﴿فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰت فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ﴾ [البقرة:37].

ومعنى ذلك أن الله تعالى خلق التوبة، وأنه يقبلها، لذلك فلا وجود لواسطة بين الله وبين البشر، ولا وجود لإنسان بمفرده قادر على أن يحمل عن البشر خطاياهم؛ فخطأ آدم تمَّ تصويبه، أما الخطيئة التي يرتكبها أيُّ كائن من البشر فالخالق يعاقبه عليها، وما فعله آدم ليس خطيئة إنما هو خطأ، أما الخطيئة كالقتل وسفك الدماء والدس بين الناس، وإثارة الوقيعة بينهم فالعقاب عليها، إما في الدنيا وإما في الآخرة ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِي رَبّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيۡء وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَة وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ﴾ [الأنعام: 164].

ويجب ألا ينظر أبناء آدم إلى أبيهم كأول من ارتكب الخطيئة ولكنه ارتكب خطأ، فهو أمن للغفلة والسهو. إن خطأ آدم ليس من ذنوب الاستكبار على الله عز وجل كذنب إبليس، ذلك أن آدم وحواء اعترفوا بخطئهم: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمۡنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمۡ تَغۡفِرۡ لَنَا وَتَرۡحَمۡنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23]. وهنا نرى كيف استغفر آدم ربه؟ لقد تحدث آدم إلى ربه بانكسار، لذلك تاب الله عليه.

إنَّ آدم عليه السلام أقرَّ بطاعة مطلقة للخالق الأكرم في التشريع، وطاعة آدم في اختيار وانكسار واعتذار ورغبة في أن يقبل الله توبته، لماذا؟

محبة منه لله الخالق، فلو نظرنا في هذا الموقف، وهو موقف طلب آدم التوبة لوجدناه مبدأ نورانياً في حياة الجماعة. وإن طلب آدم للتوبة وقبول الله لتوبته، إنما هو وضع أساس مهم لمسيرة الإنسان. كما أن مرتكب الذنب سوف يجد باب التوبة مفتوحاً، فيقبل على الله بانكسار، ولا يتمادى في معصيته.

ولو أن باب التوبة لم يكن مفتوحاً لتاه كل صاحب ذنب ولفَسدت الدنيا، ولكن يجب أن لا تقبل على طاعة الله بغرور واستكبار، ويجب ألا يخطئ أحد ذلك الخطأ الذي قد يقع فيه البعض فيقول بغرور: -حاشا لله-وماذا لله عندي؟

إن له العبادة، وها أنذا أعبده. إن الله تعالى لا يريد مثل هذا اللون من الإقبال على عبادته، إن الله يحب أن يُقبل الإنسان على عبادته وهو محب لله الذي فرض هذه العبادة، ذلك أن العبادة ليست شكلاً تؤديه بدون مضمون.

إن العبادة إجراء كامل من الخضوع التام لله تعالى شكلاً ومضموناً، فهناك حكمة من خلق الإنسان، وله خاصية الاختيار وليس مقهوراً على العمل الصالح فالحكمة هي أن الله تعالى أراد الإنسان حراً في اختيار الطاعة أو العصيان حتى يقبل الإنسان وهو طائع بحب، أو يعصي باختياره فينال عقابه.

إن التوبة تستدعي أن يُنيب ويرجع الإنسان إلى ربه، وأن يُسلم الإنسان بكل جوارحه لله عز وجل، وأن يسرع الإنسان بالتوبة قبل أن يفاجأ بالعذاب في الحياة الدنيا أو في الأخرة، ولا بُدَّ أن يتبع التائب أفضل ما نزل من الخالق إلى المخلوقات وهو القرآن الكريم، ونحن نعرف في قصة آدم عليه السلام أنه تاب إلى الله وأنَّ الخالق هو التواب الرحيم، وكأن الله تعالى في حديثه عن آدم يقول لنا: إنني توّاب لم أقبل توبة آدم وحده ولكنني أقبل توبة أي عبد منكم يا أبناء آدم. ولنا أن نعرف أن حديث الله عن نفسه أنه توّاب يتضمن التوجيه المباشر لكل عاص أن يسرع بالتوبة إليه وإلى تلقي رحمته وهو يغفر الذنوب جميعا لمن يسلم قلبه وجوارحه إليه.

إن الخالق يستر على عباده رحمة بهم وترغيباً لهم في التوبة إليه، ولكن عندما يزيد الأمر عن الحد فإن الله يأخذ العبد بذاك الذنب الذي ارتكبه، لذلك فالمؤمن الواعي هو من يسمع قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ﴿والله إني لا آمن مكر الله﴾. إن صاحب هذا القول هو الصديق الذي أسلم وجهه لله فور دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له، وصدّقه يوم أن كذّبه الناس، هذا الصديق لا تغفل عينه عن مراقبة نفسه خشية أن يرتكب معصية فيعاقبه الله تعالى عليها، لهذا فكل منا عليه أن يعرف أن الله تعالى ﴿لا تأخذه سنةٌ ولا نوم﴾ وأنَّه ﴿الحيُ القيوم﴾.

إن آدم عليه السلام لم يكن مخلوقاً ليعيش في الجنة وإنما خلق للعيش في الأرض، قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾. ومهمة آدم الأساسية في الأرض هي المقام في طاعة الله عزَّ وجل والحكم بالعدل بين خلقه، والفترة التي قضاها في المكان الذي أطلق عليه الجنة كانت تدريباً على مهمته في الأرض، فلا نقول: إنه طُرد من الجنة بسبب المعصية، لأن المعصية أعقبتها توبة مقبولة ثمَّ نبوة، أما الجنة فكانت مرحلة من مراحل الإعداد للخلافة في الأرض.

 بين معصية آدم وإبليس:

ربَّ سائل يسأل ويقول إنَّ إبليس عصى فعوقب باللعنة والطرد من الجنة وجعله الله خالداً في النار، وآدم عصى ربه فتاب عليه، وتلقى منه كلمات فاجتباه واصطفاه فما الفرق بين هاتين المعصيتين: وقد أجاب العلماء على ذلك من خلال عدة وجوه.

الوجه الأول: إن معصية إبليس كانت عن إصرار وتعمد فعندما يسأل الله إبليس: ﴿قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ ٱلسَّٰجِدِين﴾ [الحجر: 32]. فأجاب إبليس مصراً على المعصية: ﴿قَالَ لَمۡ أَكُن لِّأَسۡجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقۡتَهُۥ مِن صَلۡصَٰل مِّنۡ حَمَإ مَّسۡنُون﴾ [الحجر:33]. فمن أجل إصراره على المعصية لعنه الله وطرده: ﴿قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيم، وَإِنَّ عَلَيۡكَ ٱللَّعۡنَةَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلدِّينِ﴾ [الحجر: 34-35]. وهذا بخلاف معصية آدم فإن آدم عصى الله لكنه لم يعصه عن عناد وصلف وغرور، بل كان معصيته عن سهو وغفلة ونسيان ﴿وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡما﴾ [طه:115].

الوجه الثاني: إن إبليس لم يبادر إلى الاستغفار والتوبة بعدما علم بمعصيته لأمر الله، بل تمادى في غيهِ رافضاً أوامر الله بالسجود لآدم في حين أن آدم وحواء سارعوا إلى طلب المغفرة والرحمة وتضرعا إلى الله بكل كيانهما أن يغفر لهم خطيئتهم التي ارتكبوها.

الوجه الثالث: إن إبليس زاد في معصيته وتوعدَّ أن يستغوي الإنسان ويضله وسيقف له في كل طريق ويمنيه الأماني الكاذبة: ﴿قَالَ فَبِمَآ أَغۡوَيۡتَنِي لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ﴾ [الأعراف: 16]، وأما آدم وحواء زادا في استغفار ربهما.

فالفرق واضح بين معصية آدم ومعصية إبليس، لذلك كان مصير إبليس الطرد واللعنة والخلود في النار، وأما آدم عليه السلام، فقد تاب الله عليه وغفر له واجتباه واصطفاه؛ لأنه ندم وشعر بالذنب واعترف بالظلم والخطأ والتجأ إلى التوبة والاستغفار، ومعه أُمنا حواء، ولم يبق للعصيان أثر بعد توبة آدم وزوجه، فقد تم قبولهما وتمَّ اصطفائهما، وقد ترتقي النفس وتسمو بعد المعصية إلى درجة أعلى منها قبل المعصية بسبب التوبة والتضرع والاستغفار والإقبال على ما يُرضي الله عز وجل.

وبهذه التوبة وحسن التعامل مع التوّاب الرحيم الغفار تفوَّق الإنسان على الشيطان، وتغلبت نوازع الخير في داخله على وسوسة الشيطان، وتحقق قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ﴾ [الحجر:42]، وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰن وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلا﴾ [الإسراء: 65]. وكانت لآدم وزوجه على حد سواء فقد خاطبهما الله تعالى من قبل فقال: ﴿وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾ [البقرة: 35]، وقال تعالى: ﴿فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰت فَتَابَ عَلَيۡهِۚ﴾ [البقرة:37]، وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ ٱجۡتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَيۡهِ وَهَدَىٰ﴾ [طه: 122]. فالحكمة من ذلك ما ذكره العلماء من أن المرأة تابعة للرجل في غالب الأمر، ولذلك لم تُذكر. وقال الحسن: أنه دل بذكر التوبة عليه أنه تاب عليهما إذ أمرهما سواء. وقال بعضهم: أن المرأة حرمة مستورة، فأراد الله الستر عليها ولذلك لم يذكرها في المعصية بقوله: ﴿وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ﴾ [طه:121]. ولم يذكرها في التوبة ستراً لها وصوناً لحرمتها وكرامتها.

إن القرآن الكريم سجلَّ لنا أول معصيتين وقعتا في الوجود، فإبليس عصى ربه أولاً فأول معصية كانت من الجان، وثاني معصية كانت من الإنسان، والراجح أن إبليس هو أبو الجن. كما أن آدم هو أبو الإنس، فبدأ الجن تاريخهم بمعصية صدرت من أبيهم إبليس، وبدأ الإنس تاريخهم أيضاً بمعصية صدرت من أبيهم آدم، ومعلوم أنَّ الإنس والجن مكلفون، وجعل الله عندهم قدرة على الطاعة، كما جعل الله لهم قدرة على المعصية فمعاصي الجن والإنس المؤمنين كمعصية آدم، تكون عن غفلة وضعف وينتج عنهما الندم والاعتراف بالخطأ ثمَّ التوبة والاستغفار ويزداد بعدها المؤمن قرباً من الله وذكراً وعبادة له. وأما معاصي الجن والإنس الكافرين فإنها كمعصية إبليس، تكون عن تعمد وإصرار ويزداد بعدها الكافر كفراً وبعداً عنه.


المصادر والمراجع:

  • القرطبي، تفسير القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1965م.1/69.
  • أحمد جابر، آدم بين اليهودية والنصرانية والإسلام، ص 108
  • صلاح الخالدي، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق – الدار الشامية، بيروت، ط1، 1419ه، 1998م.ص 160.
  • علي الصلابي، قصة بدء الخلق وخلق آدم عليه السلام، ص 563- 570.