الصحيفة الصادقة هي أول كتاب وأقدم التراث الإسلامي في علم الحديث للصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وهي ترمز إلى طريقة تقييد الحديث وتدوينه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

ذلك أن رواية الحديث النبوي الشريف أخذ تقييدها ثلاث مراحل:

1- مرحلة الكتابة، وهي مرحلة الكتابة الفردية المبتدأة من عهد النبي عليه الصلاة والسلام.

2 – ثم تليها مرحلة التدوين والتجميع، وهي مرحلة التدوين الرسمي من قبل الدولة الأموية

3 – ثم جاءت مرحلة التصنيف والترتيب والتبويب في عصر الدولة العباسية، وهي مرحلة الكمال في جمع الأحاديث وتصنيفها على الأبواب الفقهية والمسانيد والجوامع والمصنفات وغيرها.

كانت رواية الحديث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم تكتب في صورة الصحف بإذنه، وأحيانا بأمره، حتى كتبت عدة من الصحف المحتوية على أحكام كثيرة، كصحيفة الأمير المؤمنين علي بن أبى طالب التى فيها حد حرم المدينة والعقل وفكاك الأسير وغيرها، وكتاب عمرو بن حزم الأنصاري الذي فيه أحكام الصدقات والطهارة والصلاة وغيرها، والوثيقة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابتها في أول وصوله المدينة يبين فيها حقوق المسلمين واليهود. وتأتي هذه الصحف أحيانا في صورة رسائل النبي عليه الصلاة والسلام إلى الملوك والعظماء يدعوهم فيها إلى الإسلام.

الصحيفة الصادقة للصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص

إن “الصحيفة الصادقة” التي كتبها عبد الله بن عمرو بن العاص كانت ضمن الصحف المكتوبة في عصر النبي عليه الصلاة والسلام، حيث كان عبد الله أكثر الصحابة كتابة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وبإذنه عليه الصلاة والسلام.

وقد روى الإمام أحمد وغيره عنه رضي الله عنه أنه قال:” كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأريد حفظه، فنهتني قريش عن ذلك، قالوا: تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الرضا والغضب، قال: فأمسكت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأشار بيده إلى فيه، فقال: ” اكتب فوالذي نفسي بيده: ما يخرج منه إلا حق .[1]

واستمر ابن عمرو في الكتابة بعد الإجازة النبوية وتوسع فيها حتى قال أبو هريرة -حافظ الصحابة- رضي الله عنه «ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب»[2]وكانت حصيلة كتابة عبد الله بن عمرو: “الصحيفة الصادقة”، وهي جديرة بسم “الصادقة” لأنها من أصدق وأثبت وأشهر ما كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

عناية عبد الله بن عمرو بالصحيفة الصادقة

كان حرص عبد الله على صحيفته حرص الضنين، وقد قام بحفظها وصونها من أن ينالها شيء من الخلل والتغيير أو شيء من التلف، وكان يعتز بها جدا ويقول:” ما يرغبني في الحياة إلا خصلتان: الصادقة والوَهْطَة، فأما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”[3] وقد خصص لهذه الصحيفة صندقا محكما يحتفظ به عنده، وإذا أراد أن يحدث أحيانا أو يتأكد عن شيء فإنه يرجع إليها ويروي منها.

يقول أبو قبيل المعافري: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- وسُئِل: أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أو رُومِيَّة؟ قال: فدعا عبد الله بن عمرو بصندوق له حَلَق، قال: فأخرج منه كتابًا فجعل يقرؤه، قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً: قسطنطينية أو رومية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “بل مدينة هرقل أولاً تفتح”[4]

وكان من حرصه على الصحيفة أنه لا يكاد يسمح لأحد الاقتراب منها ولو كان من أخص طلابه كأمثال مجاهد بن جبر المكي الذي قال: “أتيت عبد الله بن عمرو فتناولت صحيفة من تحت مفرشه، فمنعي، قلت: ما كنت تمنعني شيئاً، قال: هذه الصادقة، هذه ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه أحد” [5]

سند الصحيفة الصادقة عند المحدثين

قد سمع من عبد الله بن عمرو خلق كثير من أئمة التابعين، وحدثهم من الحفظ ومن الصحيفة معا، فيغلب على الظن أن كلا من شُفَى بن ماتع الأصبحي التابعي وأبي عبد الرحمن الحُبلي وأبي راشد الحمراني وغيرهم قد نقلوا نسخ من الصحيفة كما يظهر ذلك من سيرهم، ومثلا قول أبي راشد الحمراني:” أتيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت له: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى بين يدي صحيفة فقال: هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم…”[6]

وقال أبو عبد الرحمن الحُبلي – لما طلبوا من ابن عمرو أن يحدثهم-: أخرج لنا عبد الله بن عمرو قرطاساً…الخ[7] وغير ذلك من النقول المشيرة إلى أن الناس من شتى الأمصار قد رووا الصحيفة عن عبد الله بن عمرو وإن كانوا لم يسموها باسمها، إلا أن مشهور السند في كتب الحديث إلى الصحيفة هو السند المعروف برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

والمقصود بالجد في هذا السند “عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده” هو جد الأب، وهو الجد الأعلى “عبد الله بن عمرو الصحابي” كاتب الصحيفة، والجد الأدنى هو محمد بن عبد الله بن عمرو، فلذا رجح كثير من النقاد أن رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده من قبيل الوجادة لا من قبيل اتصال السند، وإن كانت الوجادة من وجوه التحمل، ومن هنا جاء الطعن في هذه السلسلة من بعض أهل العلم، إلا أن الأكثر يرون الاحتجاج بها.

يقول الشيخ تقي الدين ابن تيمية: “وكان عند آل عبد الله بن عمرو بن العاص نسخة كتبها عن النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا طعن بعض الناس في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه شعيب، عن جده، وقالوا: هي نسخة، وشعيب هو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقالوا: عن جدِّه الأدنى محمد، فهو مرسل، فإنه لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وإن عنى جده الأعلى فهو منقطع، فإن شعيباً لم يدركه.

وأما أئمة الإسلام وجمهور العلماء فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا صح النقل إليه، مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة ونحوهما، ومثل الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم قالوا: الجد هو عبد الله، فإنه يجيء مسمى، ومحمد أدركه.[8]

ويؤيد هذا التقرير قول الإمام الترمذي في الجامع:” وأما أكثر أهل الحديث فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب ويثبتونه، منهم أحمد وإسحاق وغيرهما”[9]

وعليه يبقى سند الصحيفة بهذه السلسلة معتبرا ومقبولا إذا صحت الرواية إلى عمرو بن شعيب، وإن كان ينحط سند الصحيفة عن درجة الصحة إلى درجة الحسن بسبب الخلاف القائم في شأنه، بل من عادة علماء المصطلح جعل هذه السلسلة الإسنادية في أعلى مراتب الحديث الحسن.

مكانة الصحيفة بين كتب الحديث

لم يكن حجم هذه الصحيفة الصادقة حجما صغيرا وإن سمي بالصحيفة، ولذا جاء على لسان بعض الحفاظ- كابن معين- تسميتها بالكتاب نظرا لمحتوياته الحديثية الضخمة، “فقد وقف ابن حبان على نسخة منها ورواها عن شيخه أبي يعلى الموصلي وقال: في نسخة كتبناها عنه طويلة”[10] ورُوي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: «حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف مثل» وهذا الذى جعل ابن الأثير أن يجنح إلى القول بأن عبد الله بن عمرو حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف مثل[11].

 ولكن إحصاء أحاديث الصحيفة في الواقع حسبما وصلنا لم يناهز هذا العدد مما يعني أنه ليس كل ما في حفظ عبد الله مودع في الكتاب إن صح ذلك الخبر عنه، هذا، وقد قام السيد محمد سيف الدين عليش ومحمد بن علي بن الصديق بإحصاء عدد أحاديث الصحيفة في بطون أمهات الكتب السنة على تفاوت يسير في الإحصاء، فكانت محصلة ذلك في الآتية:

  1. مسند أحمد: 202 حديثًا من أصل 632 حديثًا.
  2. سنن أبى داود:  81 حديثًا من أصل 232 حديثًا.
  3. سنن النسائي: 53 حديثًا من أصل 128 حديثًا .
  4. سنن ابن ماجه: 65 حديثًا من أصل 117 حديثًا .
  5. جامع الترمذي: 35 حديثًا من أصل 89 حديثًا .[12]
  6. مصنف عبد الرزاق: 69 حديثا
  7. مصنف ابن أبي شيبة: 122حديثا
  8. سنن الدارقطني: 127 حديثا
  9. المستدرك للحاكم: 90 حديثا
  10. المحلى لابن حزم: 115 حديثا[13]

وثمة كتب أخرى ضمنت أحاديث الصحيفة كما يفهم ذلك من كلام ابن حبان سابقا، فيتبين مما سلف مدى أهمية ومكانة الصحيفة الصادقة بين كتب الحديث المدونة ومدى الوثووق بها والاحتجاج بأحاديثها حتى ذكر الذهبي عن بعض العلماء قوله: ينبغي أن تكون تلك الصحيفة أصح من كل شيء؛ لأنها مما كتبه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم والكتابة أضبط من حفظ الرجال”[14]

وكفى هذا السجل الحديثي التاريخي الصريح بالحجة – من الحجج الكثيرة الواضحة- لإثبات وجود كتابة السنة النبوية منذ عصر الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن هذا الحق لا يقبل الشك أو الاختلاف أو المكابرة.


[1] المسند (6510)

[2] رواه الترمذي (500)

[3] تقييد العلم للخطيب البغدادي. ص:48

[4] رواه أحمد في المسند (6645)

[5] المحدث الفاصل ص:367

[6] رواه أحمد (6851)

[7] رواه أحمد (6597)

[8] مجموع الفتاوى 18/8

[9] جامع الترمذي 2/26

[10] المجروحين لابن حبان (2/72) وكتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وأثرها في حفظ السنة النبوية. ص:15

[11] ينظر: أسد الغابة 3/ 233

[12] ينظر: مسند عبد الله بن عمرو وصحيفته الصادقة. ص: 671

[13]  ينظر: كتابة السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وأثرها في حفظ السنة النبوية ص:26 نقلا عن صحيفة عمرو بن شعيب لمحمد بن على بن الصديق (ص 133)

[14] تاريخ الإسلام 3/288