تكشف لنا سورة العلق عن أول أمر سماوي في تاريخ الإسلام بممارسة مقاليد تعلم القراءة {ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ} باعتبارها السبيل الأهم إلى المعرفة والهداية والانطلاق في مضمار الحياة بقوة ووعي وبرهان، وقد اكتشفَ هذه الأهميةَ المسلمون وغير المسلمين، فاهتمّ كثير من الكتاب العرب والغربيين بدعوة الناس إلى القراءة باعتبارها تمثل منهج حياة وغذاءً للروح وتنشيطاً للعقل وعادة من عادات العظماء، فألّفت كتب عديدة منها:  (القراءة منهج حياة) لراغب السرجاني، و(القراءة المثمرة: مفاهيم وآليات) لعبد الكريم بكار، و(فن القراءة) لألبرتو مانغويل، و(القراءة الجامعة: أسس تنمية عادة القراءة) لدونالين ميلر وسوزان كيلي.

ورغم ما ألّف من كتب نوعية ونُظِّم من دورات جادة من أجل تعبيد طريق يؤدي إلى دخول عالم القراءة بكل يسر وسهولة، لا تزال معالم الطريق إلى عالم القراءة غير واضحة لدى بعض المتعطشين إلى المعرفة والتهام الكتب، وهذه الضبابية التي يعاني منها بعض القراء تؤكد الحاجة إلى قواعد وخطوات عملية تساعد القراء في الاستفادة مما سيَقرؤون من كتب ودراسات، وتوفّر عليهم الوقت والجهد في هذا العالم الشاق الممتع في آنٍ واحد (عالم القراءة).

ولعل من آخر الكتب التي أُلِّفت في هذا المجال كتاب (مقاليد القراءة: خطوات عملية لدخول عالم القراءة) للكاتب سالم القحطاني، الصادر 2021 عن دار الروافد الثقافية، وقد عرَّف المؤلف كتابه هذا بأنه “كتاب مختصر في فن القراءة، ليس فيه الكلام عن غزل القراء في القراءة، ولا الكلام عن رائحة الكتب والغرام بها”[1]، وإنما يقدم خطوات عملية ستساعد من اقتنع بأهمية القراءة -لكنه احتار من أين يبدأ- في ولوج عالمها بسهولة.

فضائل تعلم القراءة

لا يمكن لعاقل أن يُنكر ما للقراءة من أهمية في حياة الإنسان، ولعل الأغلبية الساحقة من الناس تؤمن بأهمية القراءة ودورها في تغذية الروح والعقل سواء مارستها أم لم تمارسها، وهذه الأهمية نجدها عند الأقدمين والمعاصرين، فمن الأقدمين نجد الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد يقول: “لا نزهة ألذّ من النظر في عقول الرجال”، كما نجد الجاحظ يصرح بأن “من لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب ألذّ عنده من عشق القيان (الجواري) لم يبلغ في العلم مبلغاً رضياً”، ومن المعاصرين نجد مالكوم إكس يقول: “إن الناس لا تعرف أن كتاباً واحداً كفيلٌ بأن يغير مجرى حياة الإنسان”، وكل هذه الأقوال وغيرها تؤكد لنا قيمة القراءة وتكشف لنا عن فضائلها العديدة.

وقد كشف سالم القحطاني في مدخل كتابه هذا عن فضائل كثيرة للقراءة من خلال الحديث عن خمسة وجوه، الأول: الوجه الشرعي، الذي يتمثل في أن قراءة الكتب النافعة عبادة يحبها الله تعالى، والثاني: الوجه اللغوي، فالكتب تُعطِي القارئ مخزوناً لغوياً عظيماً لا يجده عند غيرها، والثالث: الوجه النفسي – الروحي، فالقراءة تغذية روحية ومتعة من متع الدنيا، والرابع: الوجه الاجتماعي، فالقراءة تتيح للإنسان أن يتجنب الكثير من التجمعات غير المفيدة ويخلو بكتابه “فخير جليس في الزمان كتاب”، والخامس: الوجه العقلي، فالقراءة توسّع مدارك العقل، وتنمي مهارة التفكير والإبداع، وتحسن من جودة التركيز[2].

قبل القراءة

في الفصل الأول (قبل القراءة)، يقدم المؤلف جملة من النصائح والخطوات التي ينبغي أن يأخذها القارئ بعين الاعتبار كي تساعده في دخول عالم القراءة بطريقة إيجابية، أول هذه الخطوات تحديد الهدف المرجو من القراءة، ويبدو أن الخليل بن أحمد رحمه الله قد حاول الإسهام في رسم معالم هذه الخطوة للقارئ، وذلك عندما قال: “إذا أردت أن تكون عالماً فاقصد لفنٍ من العلم، وإن أردت أن تكون أديباً فخذ من كل شيء أحسنه”.

أما الخطوة الثانية فتتمثل في ما سمّاه المؤلف “المستشار الثقافي”، الذي تتمثل وظيفته في “أن يَدُلّك على الكتب المناسبة، ويحذّرك من الكتب الصعبة عليك، ويتدرج معك حتى يرفع مستواك، ويفك لك بعض المغلقات”[3]، ويختصر لك طريق تعلم القراءة وأنت على بصيرة من أمرك، وتستفيد استفادة حقيقية، وتقرأ قراءة منظمة عقلانية، ولا يضيع جهدك في قراءة الكتب غير النافعة.

وتتمثل بقية الخطوات في الحذر من المولعين بمدح كل ما هبّ ودبّ من الكتب وابتذال أفعل التفضيل، ثم اختيار الوقت والمكان المناسبين للقراءة، والتدرج في دخول عالم تعلم القراءة الصحيحة من حيث الكمية والمضمون، ويقييد الفوائد ولو على حائط كما يقول الشعبي، ووضع جدول يومي للمطالعة حتى ولو كان 10 دقائق فقط، فقد ذكر المؤلف أن الشيخ أحمد معبد خصص 10 دقائق فقط من وقته قبل للنوم للقراءة، في حين قرأ الشيخ موسى العازمي الكتب الستة كلها مع مسند الإمام أحمد والموطأ بين الأذان والإقامة فقط لصلاة الفجر والعصر والعشاء[4].   

في معبد الفكر

في الفصل الثاني (المكتبة) وخطوات تعلم القراءة يحدثنا المؤلف عن الخطوات التي ينبغي أن يتخذها القارئ وهو جالس بين رفوف المكتبة التي يُعرِّفها عبد الله كنون بأنها “معبد الفكر ومعتكف المفكرين”، ومنها أهم تلك الخطوات أن لا يغترّ القارئ بالعناوين، وأن يكون على علم بأن “الكتب كالطعام، فقد يغص إنسان بلقمة ولا يغص غيره بها، وكما تختلف أذواق الناس في الطعام تختلف في الكتب”[5].

ولا شك أن الوعي بالخطوات السابقة ينبغي أن يدفع القارئ إلى القيام بخطوات أخرى مهمة، منها: تفحص الكتاب قبل شرائه من خلال إلقاء نظرة سريعة على الفهرس والفصول، ثم النظر في نوع الطبعة واسم المحقق إن وجد، فالطبعات كالماركات التجارية فيها الجيد والرديء، وهناك أسماء لامعة في عالم التحقيق والإخراج تُعطِي للكتاب قيمة خاصة، مثل: عبد السلام هارون، وأحمد شاكر، ومحمود شاكر، ومحمد ناصر الدين الألباني، وفخر الدين قباوة.. إلخ.

ثم إن من الأمور المهمة التي على القارئ فهمها أن كثرة الكتب قد تكون مُلهية، وأن وجود كميات كبيرة من الكتب بجانب الإنسان لا يعني بالضرورة أنه أصبح واعياً فاهماً، بل قد تجعله الكتب يزداد حيرة وضلالاً، فقد قال شيخ الإسلام بن تيمية: “وقد أوعبتْ الأمة في كل فن من الفنون إيعاباً، فمن نوّر الله قلبه هداهُ بما يبلغه من ذلك، ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالا”، وبالتالي فإن العبرة ليست في وجود كمية من الكتب حول الإنسان فقط، وإنما في استفادته منها وفهمه لمضامينها فهماً صحيحاً.

في أحضان الكتب

في الفصل الثالث (في أحضان الكتب)، ينتقل بنا المؤلف إلى الخطوات التي ينبغي القيام بها بعد شراء الكتاب والجلوس في البيت لقراءته فقرة فقرة، وأول تلك الخطوات أن يأخذ القارئ فكرة موجزة عن الكتاب الذي اشتراه قبل أن يضعه في أحد الرّفوف، وعندما يبدأ في قراءته عملياً عليه أن يهتم بالمقدمات الأساسية مثل مقدمة المؤلف ومقدمة المحقق، ثم يجتهد في تقييد فوائد الكتاب، ومع الوقت سيكتشف أنه كلما اتسعت قراءته كلما قلّت الفوائد التي تشده وتثير اهتمامه.

وفي خضم تعلم القراءة قد يصاب الإنسان بالملل وهذا أمر طبيعي، فمتعة الكتاب تختلف من شخص إلى شخص، ولكن إذا أصيب القارئ بالملل فلا ينبغي أن ينسحب ويخرج من عالم القراءة، بل عليه أن يلجأ إلى الطرق الدافعة للملل، وقد أشار المؤلف إلى مجموعة من هذه الطرق، مثل: التوقف المؤقت عن القراءة لمدة ربع ساعة مثلاً، ومشاركة نص جميل من الكتاب مع الأصدقاء، والتنويع في مجالات القراءة، ومكافأة النفس كأن يقول (مثلاً): “إذا ختمت هذا الكتاب سأتصفح تويتر”.

وفي هذا السياق، لم ينسَ المؤلف أن يتوقف مع عوائق القراءة التي قد تتعلق أحياناً بصعوبة الكلمات أو الفقرات أو الفصول، وللخروج من هذا المأزق المحتمل دائماً قد يكون من المهم اللجوء إلى ما سماه المؤلف “قراءة القفز” التي تعني أن يقلب القارئ الصفحات، ويتجاوز الكلام في بعض الحالات، خاصة إذا كان الكلام صعباً أو طويلاً أو معروفاً أو مكرّراً.

خدع القراءة

في الفصل الرابع، يتوقف المؤلف مع بعض الخدع والأوهام التي قد تواجه القارئ بعد الانتهاء من قراءة أي كتاب، حيث يبدأ يقول في نفسه إنه لم يستفد من الكتاب الذي أمضى وقتاً طويلاً في قراءته، والحقيقة أن هذا مجرد وهم قديم قد نفاهُ منذ قرون ابن الجوزي رحمه الله حين قال: “لا يخلو كتاب من فائدة”، فكل كتاب قرأته سيهديك فائدة، حتى ولو كانت تلك الفائدة تتمثل في أنه كتاب رديء لا يستحق القراءة، وهذه في الحقيقة فائدة مهمة يمكن أن تهديها أنت بدورك لغيرك من القراء كي لا يقع في الفخ.

وقد ذكر المؤلف في هذا السياق ثلاثة أوهام قد تواجه القارئ عند انتهائه من قراءة أي كتاب، فالأول أن يظن القارئ أنه إذا قرأ كتاباً أو كتابين في موضوع ما فهذا يعني أنه أصبح متخصصاً فيه وهذا من خدع وأوهام القراءة الكثيرة، والثاني أن يصاب القارئ بالغرور والعجب ويترفع على من حوله ممن لم يُكرمه الله بنعمة القراءة فيتعالى عليهم ويحتقرهم، والثالث أن يظن القارئ أن الكتب تُغنيه عن الحياة ومخالطة الناس والسفر، والحقيقة أن القارئ الناجح هو من ابتعد عن الأوهام وجمع بين القراءة والمخالطة والسفر[6].

ومن الأمور المهمة التي توقف معها المؤلف في هذا الفصل مسألة تكرار الكتاب، وقد نبّه العقاد على أهمية التكرار، حيث ذهب إلى أن قراءة كتاب واحد ثلاث مرات خير من قراءة ثلاثة كتب في الموضوع نفسه، ويمكن أن نعلق على رأي العقاد هذا فنقول إنه يُشترط في هذا الرأي أن يكون الكتاب الذي قرأه القارئ أحسن الكتب في ذلك المجال أو من أحسنها على الأقل، أما إذا كان أسوأها فإن قراءته ثلاث مرات قد لا تكون أفضل من قراءة ثلاثة كتب في مجال واحد، لأن العبرة تتعلق بجودة الكتاب وفائدته، وليس بعدد مرات القراءة سواء كانت ثلاث أو عشر مرات.

ومن المعلوم أن السلف الصالح له تجربة عملية مع التكرار نظراً لفائدته الكبيرة، ومن الأقوال المشهورة عن السلف أن “من ترك التكرار لا بد أن ينسى”، وفي هذا السياق يمكن أن نُذكّر بأن إسماعيل بن يحيى المزني قد قال: “قرأت كتاب (الرسالة) للشافعي خمسمائة مرة، ما من مرة منها إلا استفدتُ فائدة جديدة لم أستفدها في الأخرى”.

الاحتلال الفكري

في الفصل الخامس، توقف المؤلف مع مسائل متفرقة، نذكر منها على سبيل المثال ما سماه بـ “الاحتلال الفكري”، الذي يعكس ظاهرة تتمثل في اطلاع بعض القراء العرب على الثقافة الغربية بشكل واسع وجهلهم بالثقافة العربية الإسلامية، فتجد الواحد منهم يعرف شعر “شكسبير” وفلسفة “نيتشه” مثلاً، ولكنه لا يعرف نظريات ابن خلدون وفقه الشافعي، ولا شك أن هذا الأمر يُعدُّ خطأً فادحاً.

ولم يختتم المؤلف كتابه هذا قبل أن يقوم بسرد مجموعة مختارة من الكتب تتناول مجالات مختلفة، فاستعرض كتب فن القراءة، وكتب الثقافة الإسلامية، وكتب أدب السجون، والروايات العربية والغربية، والمذكرات والسير الذاتية والرحلات، وكتب اللغة العربية والشعر والأدب، وكتب العلوم الإنسانية، ثم ختم بقاموس موجز يحتوي على مصطلحات يكثر ورودها في الكتب، مثل: المتن، والحاشية، والتحقيق، التقريظ.. إلخ.


[1] سالم القحطاني، مقاليد القراءة، 9.

[2] انظر، المصدر نفسه، 15-17.

[3] المصدر نفسه، 28.

[4] انظر، المصدر نفسه، 30-31.

[5] المصدر نفسه، 51.

[6] انظر، المصدر نفسه، 96-98.