الاشتغال بنقد الحديث والبحث عن الصحيح من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله والذب عن سنته، من أجل الطاعات وأفضل القربات، “وقد قيل في تفسير قوله تعالى: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم}ليس لأهل الحديث منقبة أشرف من ذلك لأنه لا إمام لهم غيره صلى الله عليه وسلم … من حرمه- أي علم الحديث- حرم خيرا عظيما ومن رزقه نال فضلا جسيما[1] ولا يدرك ذلك إلا أهل المعرفة بهذه الصناعة وأهل العلم عامة، علاوة على أن المصحح والمضعف كالموقع عن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول رب العباد، وكالمحل والمحرم للعباد، لذلك كان هذا المنصب العظيم لا يتصدر له إلا من كان أهلاً له، نظرا لعظم مستوى خطوراته لما يحول إليه.

وإن من أعظم شخصيات التي احتلت مركز الصدارة في أوساط الصف الإسلامي المعاصر وتبوأت المكانة الشريفة من النشاط العلمي وخاصة في مجال نقد الحديث المنقول في هذا العصر هم الشيوخ الثلاثة: الشيخ أبو الأشبال أحمد شاكر والشيخ المعلمي والشيخ الألباني رحمهم الله تعالى،كانوا من نوادر الزمان ونجوم السنة النبوية، الذين ملؤوا المكتبات الإسلامية معار الحديث الشريف،وأضافوا إضافة علمية جديدة زاخرة، وأصبحوا لدى الباحثين وغيرهم مرجعا علميا يستفاد من أقوالهم في علم نقد الحديث، ويعتمدون أحكامهم على الأحاديث النبوية صحة وضعفا.

منهج نقد الأخبار عند الأئمة الثلاثة

ذكر الإمام المعلمي أن مناهج المحدثين في نقد الحديث على أربع مراتب هي:

الأولى: النظر في أحوال رجال سنده واحدًا واحدًا.

الثانية: النظر في اتصاله.

الثالثة: البحث والنظر في الأمور التي تدل على خطأ إن كان.

الرابعة: النظر في الأدلة الأخرى مما يوافقه أو يخالفه.[2]

لا خلاف بين من يعتد بقوله من أهل العلم المعاصرين على أن المنهج النقدي المذكور هو المسلك الذي قامت عليه اجتهادات الشيوخ الثلاثة فى نقد الأخبار وفي تنقية المرويات الحديثية، ولم يأتوا بمنهج جديد في النقد بل نادوا بالمنهج الحديثي الموروث نظريا وعمليا في كتبهم وتوجيهاتهم، ولذا نالوا شرف الإمامة في رحاب خدمة السنة النبوية.

يقول أبو الأشبال” بدأت دراسة السنة النبوية أثناء طلب العلم، من نحو ثلاثين سنة، فسمعت كثيرا وقرأت كثيرا، ودرست أخبار العلماء والأئمة، ونظرت في أقوالهم وأدلتهم، لم أتعصب لواحد منهم، ولم أحد عن سنن الحق فيما بدا لي، فإن أخطأت فكما يخطئ الرجل، وإن أصبت فكما يصيب الرجل[3]

وقال عنه الشيخ محمود محمد شاكر:” وهو أحد الأفذاذ القلائل الذين درسوا الحديث النبوي في زماننا دراسة وافية، قائمة على الأصول التي اشتهر بها أئمة هذا العلم في القرون الأولى[4]

أما المعلمي اليماني فقد وصفه الشيخُ أحمد شاكر بـ: العلّامة، في حاشيته على تفسير الطبري[5]، اعترافا برسوخه في منهج النقد الحديثي.

وشهد له الشيخ حماد الأنصاري محدث المدينة بتقدمه في علم النقد بقوله: “إن الشيخ عبد الرحمن المعلمي عنده باع طويل في علم الرجال جرحًا وتعديلًا وضبطًا، وعنده مشاركة جيدة في المتون تضعيفًا وتصحيحًا، كما أنه ملم إلمامًا جيدًا بالعقيدة السلفية[6]

ويقول الشيخ الألباني في تعليقه على ذكر المعلمي درجات توثيق ابن حبان: “هذا تفصيل دقيق، يدل على معرفة المؤلف -رحمه الله تعالى- وتمكنه من علم الجرح والتعديل، وهو مما لم أره لغيره جزاه الله خيرًا” ووصفه أيضا في أثناء كلماته التعريفية لكتاب “الأدب المفرد” والتى كتبها المعلمي قائلا: “هذا كلام جيد متين، من رجل خبير بهذا العلم الشريف، يعرف قدر كتب السنة وفضلها، وتأثيرها في توحيد الأمة .. ” [7]

وأما الشيخ الألبانى، فإنه تَجلّى منهج النقد الحديثى في مشروعه – تقريب السنة بين يدي الأمة – والذى قال عنه الشيخ “فإني قد أفنيت فيه شبابي، وقيت فيه كهولتي، وأتمم به الآن شيخوختي.”[8] ولقد صحح وضعف وعدل وجرح وفق المعيار النقدي الحديثى حتى سلم له أقرانه بالتفوق في هذا المركب.

قال الشيخ ابن باز: ما رأيت تحت أديم السماء عالما بالحديث في العصر الحديث مثل العلامة محمد ناصر الدين الألباني. هو مجدد هذا العصر في ظني والله أعلم

 ووصفه الشيخ ابن عثيمين: أنه ذو علم جم في الحديث، رواية و دراية، إمام في الحديث، لا نعلم أن أحدا يباريه في عصرنا.[9]

إذن، فمنهج هؤلاء الأئمة الثلاثة في دراسة الحديث وتعليله داخل في منظومة منهج المحدثين بلا شك، مما جعل العلماء يثنون عليهم ويرجعون إليهم في القضايا الحديثية ويعتمدون أحكامهم على الحديث في الجملة

تقييم العلماء لمنهج الأئمة الثلاثة

كل حديث اجتمعت فيه اتصال السند، والعدالة، والضبط، وانتفاء الشذوذ والعلة فهو حديث مقبول كما هو مقرر، ولكن انطباق هذه الشروط الخمسة على حديث معين هو محل الاجتهاد والنظر والتحرير.

فمثلا، يوجد من أهل العلم بالحديث من يميل إلى منهج التسامح والتساهل في قواعد الجرح والتعديل، ويوثق الضعيف أو المجهول فيقبل حديثه، ومنهم معتدل في حكمه على الرواة ومنهم متشدد، إلا أنه لا يوصف عالم بتساهل أو باعتدال أو بتشدد إلا إذا كان ذلك غالبا في صنعته وديدنه، ورغم أن هؤلاء الأئمة الثلاثة كانت لهم اليد الطولى في تنقية الحديث ودراسته على طريقة المحدثين النقدية إلا أن للعلماء المعاصرين نظر فاحص في تصنيف وتوصيف منهجهم وتقييمه تقييما حديثيا، فكان مجمل تقريرهم فيما يلي:   

أولا: عن منهج أبى الأشبال

كادت تتفق الكلمة على وصف الشيخ أحمد شاكر بالتساهل في تصحيحه للأحاديث، وثمة عشرات من الرواة الضعفاء المعروفين عند المتقدمين جنح الشيخ إلى توثيقهم ومن ثم قال بقبول حدثيهم.

يقول عنه أخوه الشيخ محمود شاكر “وكان له اجتهاد عُرف به في جرح الرجال وتعديلهم، أفضى به إلى مخالفة القدماء والمحدثين” [10] في بعض أحكامه على الحديث.

قال الشيخ ابن باز: ومن تأمل حاشية العلامة أحمد شاكر اتضح له منها تساهله في التصحيح لكثير من الأسانيد التي فيها بعض الضعفاء؛ كابن لهيعة وعلي بن زيد بن جدعان، وأمثالهما، والله يغفر له، ويشكر له سعيه، ويتجاوز عما زل به قلمه، أو أخطأ فيه اجتهاده، إنه سميع قريب”[11] وذكر الشيخ عبد الكريم الخضير في بعض دروسه أن أبا الأشبال وثق قرابة 30 راوي، والجمهور على تضعيفهم.

وقد لخص لنا صاحب “كتاب الصبح السافر” الأوجه المنتقدة في منهج الشيخ في النقاط الآتية:

  1. تحسينه لحديث المختلط
  2. توثيقه المجاهيل كابن حبان
  3. تقويته لأحاديث التابعين المجهولين
  4. توثيق الرجال سكت عنهم البخاري
  5. التساهل في بعض الرجال الضعفاء[12]

وزاد لنا صاحب كتاب “معالم منهج الشيخ أحمد شاكر” أمرين أخريين وهما:

  • تصحيحه حديث المدلسيين مع عدم تصريحهم بالسماع
  • تساهله في تقديم التعديل على الجرح[13]

وهذا مجمل ما اتنقد على منهج أبى الأشبال رحمه الله.

ثانيا: عن منهج الشيخ الألباني

قد استدرك غير واحد من العلماء والمتخصصين في الحديث على جوانب من منهج الشيخ الألباني في الحكم على الحديث، وأنه تشوبه شائبة التساهل أحيانا، فأهم ما نبهوا عليه هو:

1- تقويته للحديث أحيانا بطرق لا تسعف ولا ينجبر بها الحديث، كأن يكون فيها ضعفا شديدا أو النكارة ونحوهما.

2- تقويته للحديث أحيانا بظاهر صحة السند دون مراعاة علة أخرى.

وأكثر مواضع التى يظهر فيها تساهل الشيخ كانت عند تحسينه للأحاديث بالشواهد والمتابعات كما قال الشيخ سعد الحميد وغيره، وقيد الشيخ الحوينى بوقوع ذلك أحيانا، على أن الشيخ الألباني متشدد أحيانا في رد روايات من وصف بالتدليس أو رد كل ما ثبت انقطاعه مطلقا.

والخلاصة أن تضعيف الألباني وتصحيحه للحديث قد يغلب عليه القبول، وأما تحسينه فإنه قد يحتاج إلى مزيد البحث والنظر في أقوال غيره وخاصة المتقدمين من أهل العلم بالحديث.

ثالثا: عن منهج الشيخ المعلمي

كادت تتفق الكلمة على اعتدال منهج الشيخ المعلمي الحديثي، ” وأنه إذا قورن ( الشيخ ) بالعلماء المتأخرين، ظن أنه متشدّد -وقد يكون ذلك- وأنه سلك مسلكًا لا يعتمد فيه كل الاعتماد على قواعد هذا الفن المدونة في كتب المصطلح؛ لأنها غير كافية في الحكم، كما يظهر لمن مارس صنيع علماء الجرح والتعديل، وتتبع أقوالهم، وتطبيقها على جزئياتها”[14] أي لم يكن الشيخ يطرد القواعد المحررة في كتب المتأخرين  بل له قريحة راسخة في دراسة كل حديث على حدة، ولذا كانوا يمثلون طريقته بطريق المتقدمين.

وحصيلة المبحث كله، أنه لا يخرج اجتهاد هؤلاء الأئمة عن رسم أهل الحديث النقدي ولذلك استحقوا وصف “المجددين” في العصر الحديث، إلا أنهم بشر يخطؤون ويصيبون كغيرهم من أئمة الشأن، فأبو الأشبال مشهور بالتساهل عند أهل الشأن، والشيخ المعلمي ذهبي العصر في التحقيق وعناية بمنهج المتقدمين، والشيخ الألباني أكثرهم توسعا في الكلام على الحديث ثبوتا ونفيا، ومن ثم كثر الأخذ والرد حول منهجه.

ولكن الصواب التوسط بين الإفراط والتفريط دون الشطط، وإذا قام الدليل على تساهل الشيخ في بعض الأحكام – ربما إصابته للحق أكثر من الخطأ-فلا مانع من التنبيه عليه بمنهج علمي نزهيه، لا سيما فيما يتعلق بتحسين الشيخ، فإن الخوض في الحكم على الحديث بالحسن أو لغيره عند المحدثين ليس بالهين لوجود عوز في سبيل تحقيق الحكم. ولذلك قال الحافظ الذهبي – وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال كما قال الحافظ ابن حجر:” لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها؛ فأنا على إياس من ذلك، فكم من حديث تردد فيه الحفاظ هل هو حسن أو ضعيف أو صحيح؟ بل الحافظُ الواحدُ يتغيَّرُ اجتهادُه في الحديث الواحد: فيوماً يَصِفُه بالصحة، ويوماً يَصِفُه بالحُسْن، وَلَرُبَّما استَضْعَفَه)). [15] والمجتهد إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.


[1] تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي 2/ 565

[2] الاستبصار في نقد الأخبار ص:6

[3] جمهرة مقالات العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر 1/161

[4] حكم الجاهلية ص:19

[5] النكت الجياد المنتخبة من كلام شيخ النقاد ذهبي العصر 1/42

[6] المصدر السابق 1/41

[7] المصدر السابق1/42

[8] حياة العلامة الألباني, ص:27- 28

[9] كتاب تراجعات الألباني. ص:46

[10] حكم الجاهلية ص:19

[11] مجموع فتاوى (26/ 258 – 259)

[12] الصبح السافر في حياة العلامة أحمد شاكر ص: 75 – 76

[13] معاليم منهج الشيخ أحمد شاكر في نقد الحديث ص:192، 229

[14] النكت الجياد المنتخبة من كلام شيخ النقاد ذهبي العصر 1/44

[15] الموقظة: 28.