قرر الإسلام للإنسان مكانة كبيرة وأهمية قصوى؛ إذ شرَّفه وفضَّله بما لم تنله سائر المخلوقات من تشريف وتفضيل؛ فقد خلقه الله تعالى بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في السماوات والأرض، وجعله حر الإرادة والاختيار؛ وبجانب ذلك أرسل إليه الرسل وأنزل معهم الكتب، وهداه إلى ما ينجِّيه في أخراه ويسعده في دنيا؛ فلم يتركه يتخبط في أودية الضلال.
ويمكن أن نبين نبين مظاهر عناية الإسلام بالإنسان في خمس نقاط أساسية؛ في خمس نقاط أساسية؛ هي: تكريم بني آدم.. استخلاف الإنسان.. تسخير الكون.. الهداية للمنهج.. استواء الخِلقة.
1) تكريم بني آدم
كرم الله تعالى الإنسان على سائر المخلوقات، وجعل هذا التكريم عاما لبني آدم جميعا، ثم من أطاع منهم ازداد تكريما على تكريم؛ قال تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } (الإسراء: 70).
وقد بين ابن كثير عند تفسير هذه الآية بعضا من علامات تكريم الله تعالى للإنسان، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}: يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم، وتكريمه إياهم، في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها؛ كما قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التِّين: 4)
أي: يمشي قائما منتصبا على رجليه، ويأكل بيديه- وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه- وجعل له سمعا وبصرا وفؤادا، يفقه بذلك كله وينتفع به، ويفرق بين الأشياء، ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدنيوية والدينية.
{وحملناهم في البر} أي: على الدواب من الأنعام والخيل والبغال، وفي (البحر): أيضا على السفن الكبار والصغار.
{ورزقناهم من الطيبات} أي: من زروع وثمار، ولحوم وألبان، من سائر أنواع الطعوم والألوان، المشتهاة اللذيذة، والمناظر الحسنة، والملابس الرفيعة من سائر الأنواع، على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها، مما يصنعونه لأنفسهم، ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي.
{وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} أي: من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات.
وقد استدل بهذه الآية على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة([1]).
والكرامة المقصودة هنا عامة لكل البشر رجالاً ونساءً، بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم. والإنسان الذي منحه الله الكرامة لا يجوز أن يفرط فيها بأي شكل من الأشكال. ومن جانب آخر، لا ينبغي لأحد أن يتعرض بالإهانة لإنسان آخر كرمه الله؛ لأن ذلك يعد عدوانًا في حق الله من ناحية، وفي حق الشخص الذي وقعت عليه الإهانة من ناحية أخرى([2]).
وهذه الكرامة التي اختص الله بها الإنسان دون غيره من الكائنات ذات أبعاد مختلفة؛ فهي حماية إليهة للإنسان تنطوي على احترام عقله وحريته وإرادته، وتنطوي أيضًا على حقه في الأمن على نفسه وماله وذريته. ومن أجل ضمان الحماية الإلهية للإنسان حددت الشريعة الإسلامية لنفسها مقاصد خمسة لتأكيد هذه الحماية؛ وهي: حفظ النفس، وحفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ النسل. فهذه المقاصد الخمسة تهدف كلها إلى حماية الإنسان الذي كرَّمه الله سبحانه وتعالى، وتمثِّل القواعد الأساسية لحقوق الإنسان([3]).
2) استخلاف الإنسان
كما أن الله تعالى جعل الإنسان خليفةً في الأرض؛ يَخلُف بعضُهم بعضًا فيها؛ قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30). أي، كما ذكر الطبري: “مُسْتَخْلِفٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وَمُصَيِّرٌ فِيهَا خَلَفًا”([4]).
وقد زوَّد الله تعالى الإنسان بالطاقات والملكات؛ بحيث يكون أهلاً لهذا الاستخلاف، ويستطيع أن يؤدي ما يمليه عليه الاستخلاف من مهام ووظائف؛ فمنح الإنسانَ ملكة التعلم، ووهبه الإرادة والعزيمة، وجعله يأنس لبني جنسه ولا يعيش فردًا.
وقد أشار صاحب تفسير المنار إلى “أن الله تعالى خلق العالم أنواعا مختلفة، وخص كل نوع غير نوع الإنسان بشيء محدود معين لا يتعداه”([5])؛ مثل الملائكة، والجماد، والنبات..
وهذا بخلاف حال الإنسان، بما وهبه الله تعالى من ملكات. فيقول رشيد رضا: وأما الإنسان فقد خلقه الله ضعيفا، كما قال في كتابه: {وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء: 28)، وخلقه جاهلا كما قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} (النحل: 78)
ولكنه على ضعفه وجهله عبرة لمن يعتبر، وموضع لعجب المتعجب؛ لأنه مع ضعفه يتصرف في الأقوياء، ومع جهله في نشأته يعلم جميع الأسماء، يولد الحيوان عالما بالإلهام ما ينفعه وما يضره، وتكمل له قواه في زمن قليل، ويولد الإنسان وليس له من الإلهام إلا الصراخ بالبكاء، ثم يحس ويشعر بالتدريج البطيء بالنسبة إلى غيره من الحيوان، ويعطى قوة أخرى تتصرف بشعوره وإحساسه تصرفا يكون له به السلطان على هذه الكائنات، فيسخرها ويذللها بعد ذلك كما تشاء تلك القوة الغريبة وهي التي يسمونها العقل([6]).
ثم يبين رشيد رضا أن الإنسان بما منحه الله تعالى من ملكة العقل، تزداد قوته عن سائر المخلوقات التي ولدت أقوى منه، وتكون لديه طاقات غير محدودة.. فيقول عن قوة العقل وتمييزها للإنسان: هي التي تغني الإنسان عن كل ما وهب للحيوان في أصل الفطرة من الكساء الذي يقيه البرد والحر، والأعضاء التي يتناول بها غذاءه والتي يدافع بها عن نفسه ويسطو على عدوه، وغير ذلك من المواهب التي يعطاها الحيوان بلا كسب؛ حتى كان له [أي للإنسان] بها من الاختراعات العجيبة ما كان، وسيكون له من ذلك ما لا يصل إليه التقدير والحسبان. فالإنسان بهذه القوة غير محدود الاستعداد ولا محدود الرغائب ولا محدود العلم ولا محدود العمل؛ فهو على ضعف أفراده يتصرف بمجموعه في الكون تصرفا لا حد له بإذن الله وتصريفه. وكما أعطاه الله تعالى هذه المواهب والأحكام الطبيعية ليظهر بها أسرار خليقته، وملكه الأرض وسخر له عوالمها، أعطاه أحكاما وشرائع، حد فيها لأعماله وأخلاقه حدا يحول دون بغي أفراده وطوائفه بعضهم على بعض، فهي تساعده على بلوغ كماله؛ لأنها مرشد ومرب للعقل الذي كان له تلك المزايا؛ فلهذا كله جعله خليفته في الأرض وهو أخلق المخلوقات بهذه الخلافة([7]).
وهكذا نجد أن مركز الدائرة الحضارية هو الإنسان، وأهم خصائصه العقل، والعقل يعني الكرامة الإنسانية واستقلال الشخصية، ويعني المسئولية، ويعني الحرية([8]).
3) تسخير الكون
ومن أبرز مظاهر عناية الإسلام بالإنسان، أن الله تعالى سخَّر له ما في السماوات والأرض، ليستعين الإنسان بذلك على ما حُمِّل من أمانة الاستخلاف، وما أُمِرَ به من العبادة والعمارة. قال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (الجاثية: 12، 13).
أي: إن ذلك الخالق الواحد الذي أقمت لكم الأدلة على وجوده، هو الذي يسّر لكم استخدام البحر لتجرى فيه السفن بإذنه وقدرته، حاملة أقواتكم ومتاجركم، لتقوم بشئونكم المعيشية، ولتطلبوا رزق ربكم منه بالغوص للدرّ تارة والصيد تارة أخرى، ولتشكروه على ما أفاض عليكم من هذه النعم، فتعبدوه وتطيعوه فيما يأمركم به وينهاكم عنه. وسخر لكم جميع ما خلقه فى سماواته وأرضه مما تتعلق به مصالحكم، وتقوم به معايشكم؛ فمما سخر لكم من المخلوقات السماوية الشمس والقمر والنجوم النيرات والمطر والسحاب والرياح، ومن المخلوقات الأرضية الدواب والأشجار والجبال والسفن رحمة منه وفضلاً؛ وكل هذه أدلة على أنه الله الذي لا إله غيره، لمن تأمل فيها واعتبر بها وتدبرها حق التدبر([9]).
إذن، الكون كله، بسمائه وأرضه وما فيهما وما بينهما، مسخَّر للإنسان؛ حتى يستعين بذلك على ما أُنيط به من مسئولية، وما حُمِّل به من أمانة.
والقضية بإيجاز: “كائن مكلَّف، وكون مسخَّر”([10]). فقد خلق الله نوعين من الكائنات أحدهما مكلَّف وهو الإنسان، والآخر مسخَّر لهذا الإنسان وهو الكون الذي نعيش فيه. وهذا يعني أن الإنسان كائن متميز يُعد نسيجَ وَحْدَه؛ بما لديه من صفات ينفرد بها، وبما حباه الله من قدرات وملكات تؤهله للقيام بالمهمة التي كُلف بها. وتتسق هذه القدرات والملكات مع ما حددته المشيئة الإلهية لهذا الكون من قوانين([11]).
الإنسان إذن ليس ذرة تافهة في هذا الوجود، وإنما هو سيد في هذا الكون كلَّفه الله- بعد أن اختار لنفسه- بتحمل مسئولية هذا الكون. وتحمُّلُ المسئولية يتطلب الأمانة في إدارة هذا الكون الكبير. وهذا يعني أن على الإنسان- في إطار تحمله لهذه الأمانة- الامتناع عن كل ما من شأنه أن يجلب الضرر بأي شكل من الأشكال لهذا الكون؛ بما فيه من كائنات، ومن فيه من البشر؛ فإذا أساء الإنسان استخدام هذه الأمانة فستكون العاقبة وخيمة عليه وعلى غيره من الكائنات الأخرى؛ حية كانت أم غير حية([12]).
فالإنسان مكلَّف بأمانة، والكون مسخَّر للإنسان، وهذا التسخير مسئوليةٌ توجب على الإنسان التزامًا بالصراط المستقيم، وليس اتباعًا للأهواء والشهوات؛ وإلا ظهر الفساد في البر والبحر؛ كما حذرنا القرآن الكريم بقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: 41).
4) الهداية للمنهج
ومما يدل أيضا على عناية الإسلام بالإنسان، أن الله تعالى لم يترك الإنسان هملا في الحياة، يتخبط في أودية الشك والضلال؛ وإنما هداه إلى صرطه المستقيم، وبين له طريق النجاة في الدينا والآخرة؛ فأرسل إليه الرسل، وأنزل معهم الكتب، وفصل له ما يحتاجه في فلاحه ونجاته؛ فمن أطاع واستقام فاز بالدارين، ومن عصى وانحرف خسر الأولى والآخرة.
قال تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة: 38، 39).
جاء في تفسير البغوي: {فإما يأتينكم} أي: فإن يأتكم يا ذرية آدم، {مني هدى}، أي: رشد وبيان شريعة، وقيل: كتاب ورسول، {فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}: فلا خوف عليهم فيما يستقبلهم، ولا هم يحزنون على ما خلفوا؛ وقيل: لا خوف عليهم في الدنيا، ولا هم يحزنون في الآخرة، {والذين كفروا}: جحدوا وكذبوا، {بآياتنا} بالقرآن، {أولئك أصحاب النار}: يوم القيامة، {هم فيها خالدون}: لا يخرجون منها ولا يموتون فيها([13]).
فالهداية هي أجل نعم الله تعالى على الإنسان؛ لأن الإنسان دون الهداية يكون في خسران مبين. وقد امتن الله تعالى على عباده بهذه النعمة فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة: 3).
قال القشيري: النعمة- على الحقيقة- ما لا يقطعك عن المنعم بل يوصلك إليه. والنعمة المذكورة هاهنا نعمة الدين؛ وإتمامها وفاء المآل، واقتران الغفران وحصوله. فإكمال الدين تحقيق المعرفة، وإتمام النعمة تحصيل المغفرة([14]).
وقال الرازي: {وأتممت عليكم نعمتي}: بإكمال أمر الدين والشريعة؛ كأنه قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بسبب ذلك الإكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام([15]).
فالهداية للدين نعمة كبرى من الله تعالى، وإكمال الدين نعمة أخرى.. والإنسان لا يستطيع أن يحيا حياة طيبة دون هداية الدين، ولا أن يفوز بالسعادة في الدارين؛ دون اتباع منهج الله تعالى.
5) استواء الخِلقة
والمقصود بذلك أن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وجعله في صورة غاية في الاستواء؛ بحيث يتمكن من حرية الحركة ومرونتها، ويقوم بمهام الاستخلاف على نحو ميسر ومبدع.
قال تعالى: {الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين} (غافر: 64).
وفي معنى قوله تعالى: {وصوركم فأحسن صوركم} قال مقاتل: خلقكم فأحسن خلقكم. قال ابن عباس: خلق ابن آدم قائما معتدلا يأكل ويتناول بيده، وغير ابن آدم يتناول بفيه([16]).
كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} (التين: 4). أي: “فى اعتدال قامته، وحسن تركيب أعضائه”([17]).
واختلف الناس في تقويم الإنسان ما هو؟ فقال النخعي ومجاهد وقتادة: حسن صورته وحواسه، وقال بعضهم: هو انتصاب قامته، وقال أبو بكر بن طاهر: هو عقله وإدراكه اللذان زيناه بالتمييز، وقال عكرمة: هو الشباب والقوة؛ والصواب أن جميع هذا هو حسن التقويم إلا قول عكرمة، إذ قوله يفضل فيه بعض الحيوان([18]).
إذن، فقد خلق الله تعالى الإنسان، أي آدم وذريته، في صورة حسنة وهيئة مزينة؛ فهو يمشي منتصب القائمة، يتحرك بمرونة وانسياب.. وهذه الصورة الحسنة تساعد الإنسان على إعالة نفسه وكسب قوته، وعلى عمارة الأرض والقيام بوظائف الاستخلاف.
تلك صورة بارزة من صور تكريم الله تعالى للإنسان، وعنايته به.. تضاف إلى ما سبقها من صور العناية الأخرى؛ من تكريم بني آدم، واستخلاف الإنسان، وتسخير الكون، والهداية للمنهج.