حظي كتاب مفهوم البدعة لمؤلفه الدكتور عبد الإله العرفج بقبول واسع بين طلبة العلم الراغبين في معرفة البدعة التي حوَّلها بعض الفقهاء إلى عقبة كؤود أمام التجديد والارتقاء بالأعمال الصالحة التي لم يرد نص قطعي بتحريمها، أو تحديد وقت فعلها والطريقة التي تؤدى عليها.

فبعد تقريظ كوكبة من علماء الأمة الإسلامية لهذا الكتاب وثنائهم عليه نود أن نواصل في قراءة هذا الكتاب القيم على شكل حلقات لنبرز أهم ما ورد فيه من أفكار وما توصل إليه مؤلفه فيما يتعلق بتحديد مفهوم البدعة التي جعلها عنوانا لكتابه، وحتى يرد على أصحاب الاتهامات الجاهزة أوضح الدكتور العرفج في الصفحات الأوائل من كتابه أن هدفه ونيته من تأليف هذا الكتاب -وجمعه 36 مسألة اختلف فيها العلماء من عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الكبار في عصور السلف- ليس تشجيع الناس على الابتداع في الدين وإنما تحديد مفهوم البدعة المذمومة وتوضيح الفرق بينها وبين السنة الحسنة في الإسلام فقال” وقد كانت بعض الآراء تصف المسألة –قيد الخلاف- بالبدعة ويصفها بعضهم بالجائزة، أو المستحبة أو المشروعة، ولم يكن قصدي -علم الله- سرد تلك المسائل أن أدفع المسلمين ليستسلموا لكل محدثة مخترعة، ويقبلوا كل بدعة جديدة بدعوى أن العلماء اختلفوا في آرائهم حول البدعة، وإنما كانت الرسالة التي أردت إيصالها لعموم المسلمين هي 1 تحرير المعنى الدقيق للبدعة من المواضع الشائكة 2 الاختلاف في حكم بعض المحدثات الدينية –خصوصا العلمية منها- بين كونها مشروعة أو بدعة قد يدخل في دائرة الاختلاف المقبول، ويدور بين الصواب والخطأ ولا يلزم أن يكون كله دائرا بين الحق والباطل”.

وأبدى الدكتور العرفج استغرابه من حدة الخلاف الواقع بين المسلمين اليوم حول ” البدعة” وإصرار فريق على أن كل محدثة بدعة بغض النظر عن طبيعة هذه المحدثة وفائدتها على المجتمع المسلم، مؤكدا أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم قد حسم هذا الخلاف لو فهمه عشاق اتهام الناس بالبدعة، أو توقفوا عند معانيه ودلالاته، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فهذا الحديث واضح وفاصل بين البدعة المحرمة أو المذمومة، والسنة الحسنة التي تنفع الناس، حيث سمى صلى الله عليه وسلم ما أحدث بعده من الخير ” سنة.

أما حديث ( كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) فالمراد به استحداث البدع الباطلة التي تخالف الدين أو التي يدعو صاحبها للمنكرات، لذا يرى العرفج أنه على المسلمين أن يحرروا عقولهم من قيد الجمود بدواعي الخوف من البدعة، وأن لا يقف أحدهم مكتوفا إذا ما كان عنده ما يفيد به أمته من علم أو اختراع أو فتوى تيسر على المسلمين أمر دينهم فيما لم يرد به نص.

ولأن الدكتور العرفج قد جمع 36 مسألة دارت حولها خلافات بين العلماء وأدخلها بعضهم في مفهوم البدعة، بينما أخرجها آخرون من ذلك: سنقوم في حلقات قادمة بأخذ نماذج منها، وسنكتفي في هذه الحلقة بمسألة واحدة هي ” مفهوم الترك” ومفهوم الترك يعني الأمور التي تركها صلى الله عليه وسلم وصحابته، حيث يرى أصحاب الأفق الضيق أن هذه الأمور التي تركها السلف الصالح توجب على غيرهم تركها إذ لو كان فيها خير لسبقونا إليها.

وهذا الرأي لا يستقيم بحسب الأدلة التي صاغها العرفج في كتابه، حيث يقول: ” ولقد بحثت –كباحث يسعى إلى الحقيقة- في كتب الأصول كثيرا للوقوف على هذه القاعدة ولم أعثر لها على أثر، أي أنه لم ينص أحد من علماء أصول الفقه على أن الترك يقتضي التحريم، بل الذي وجدته هو أن النهي وحده يقتضي التحريم، هذا إذا لم تقم قرينة على أن المراد بالنهي الكراهة فقط” علما أن قاعدة ” النهي يقتضي التحريم” ليست محل اتفاق بين الأصوليين الذين يرى بعضهم أن النهي يقتضي الكراهة إلا إذا دلت القرينة على الترحيم، ومنهم من يرى أنه يقتضي التوقف، ….. أما أن يكون الترك بحد ذاته دالا على تحريم المتروك فهذا ما لم يرد له ذكر في كتب الأصول التي تعنى بطرائق استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وقد قال الله تعالى ( وما آتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فدل على أن النهي هو الذي يقتضي التحريم.

وأشبع العرفج موضوع الترك بحثا، حيث تناول ” الفرق بين الترك وسنة الترك، والأدلة التي تؤكد على أن تركه صلى الله عليه وسلم لبعض الأمور لا يعني تحريمها، وخلص إلى أن ترك النبي صلى الله عيه وسلم لأمر ما –قصدا-  يفيدنا أمرا واحدا مؤكدا هو : أن ذلك الأمر غير واجب، إذ لو كان المتروك واجبا لما تركه النبي صلى الله عليه وسلم، علما أنه قد تلحق بالترك قرائن تفيد استحباب المتروك، كالبول قاعدا، أو إباحته أكل الضب، أو كراهته كاستلام الركنين العراقي والشامي، أو حرمته كأكل المُحرِمِ من صيد الحلال له.