غزوة بدر الكبرى هي الأولى في تاريخ الإسلام.. من شارك فيها نال الحظوة والشرف.

والآيات التي نزلت في غزوة بدر عديدة، لكن ما يلفت الأنظار هو الآيات الأولى من سورة الأنفال التي بدأها الله تعالى بتقرير مبدأ غنائم بدر “الأنفال” بأنها لله والرسول: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } (الأنفال : 1).

ثم انتقل منها ليتحدث عن صفات “المؤمنون حقًّا”: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال: 2- 4).

وعاد بعدها مباشرة ودون تقديم أو تمهيد للحديث عن تلكم الغزوة وما حدث فيها: “{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (الأنفال: 5 – 7)… إلى آخر الآيات.

هذا الفصل بين أحداث الغزوة للحديث عن صفات المؤمنين، ثم العودة مرة أخرى لاستكمال الأحداث وكأن شيئًا لم يكن، هذا الفصل يجلب الانتباه، ويثير حفيظة العقل ليتفكر في أسبابه ومبرراته، خاصة حينما يتعلق الأمر بالكتاب البليغ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويتساءل الإنسان: لماذا وضعت آيات صفات المؤمنين حقًّا هذه بين آيات أحداث بدر؟

ويزداد الذهن استفزازًا حين يسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل بدرٍ قائلا: “وما يدريك لعلَّ الله عزَّ وجلَّ اطَّلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم” متفقٌ عليه، ويتساءل ثانية: لماذا أهل بدرٍ بالذات؟؟

فتكون الإجابة على السؤالين من فهم الآيات وسياقاتها: إنهم “المؤمنون حقًّا”، إنهم أهل بدر الذين أراد الله تعالى أن يصفهم لنا ويجلِّيهم، إنهم الذين بلغوا ما بلغوا من نصرهم لدين الله تعالى وتأييده سبحانه لهم لأنهم “المؤمنون حقًّا”، فنالوا ما يستحقونه من درجاتٍ ومغفرةٍ ورزقٍ.

إن الله تعالى يضع لنا مواصفات جنده الغالبين، يضعها في سياق الحديث عن غزوة هي الأهم في تاريخ الإسلام، وهو ما جعل نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيها بهذا الدعاء المؤثر الصادق الخلاب: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتِ ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبَد في الأرض)، فما زال يهتف بربه، مادًّا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: “يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك” رواه مسلم.

يضعها ربنا سبحانه كي نفهم ونعي ونعرف كيف تحقق النصر؟ ولماذا تحقق النصر؟ فنتعلم أسس وقواعد جيل النصر المنشود.

كل المسلمين اليوم يحملون في قلوبهم وعقولهم مشاعر دافقةً نحو ما يجري هنا وهناك في بلاد الإسلام، وكلنا نحتفظ في ذاكرتنا بمشاهد قاسية لاحتلال هذا البلد المسلم، واستغلال خيرات ذلك البلد من أرض الإسلام، وكلما مرت بنا ذكرى من ذكرياتنا المؤلمة الكثيرة نألم ونحزن وتدمع العيون والقلوب، وتأخذنا هذه المشاعر إلى الإحساس بالمسئولية نحو ديننا، وبالواجب نحو إعادة مكانة الأمة وريادتها؛ فمنا من يكتفي بالألم والبكاء، ومنا من يفعل ويحاول قدر جهده، ولكنها تبقى محاولاتٍ ينقصها استلهام سنن الله تعالى في الكون وآياته، وتفتقر لأخذ العبرة من التاريخ، وتحتاج إلى دراسة أسباب وشروط النصر، وتطلب “المؤمنون حقًّا”.

إننا نحتاج في ذكرى بدرٍ أن نحدد صفات هؤلاء “المؤمنون حقًّا”، وأن نسعى لتشربها في قلوبنا وعقولنا، ولتطبيقها وتنفيذها في حياتنا، وهذه الصفات واضحةٌ جليةٌ لو نعلم، إنها:

– فَاتَّقُوا اللهَ

– وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بِيْنِكُمْ

– وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ

– الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ

– وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا

– وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ

– الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ

– وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ

إننا حين نحقق ذلك نغدو: “أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ”، وحينئذ نستحق من الله تعالى المدد والعون: “إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ {9} وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {10} إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ {11} إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرَّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ{12}”.

الصفات واضحة.. ولكن أين من يطبق ويلتزم؟؟

إن الأمة تنتظر “المؤمنون حقًّا”، فإذا جاءوا جاءت: “وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”.

لقد كانت بدرٌ (أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّا)..

لنجعلها أمةَ (أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّا).


د. كمال المصري