مصطفى صادق الرافعي (1880 – 1937م) إمام من أئمة الأدب، وشيخ من شيوخ العربية، وأمير من أمراء البيان.
وقد أمضى حياته كلها عاشقًا للغة العربية، ورافعًا راية القرآن المجيد، ومنافحًا عن الحقيقة والشريعة، وصامدًا في وجه الزوابع والفتن التي ماجت بها ساحة النصف الأول من القرن العشرين.

وأسلوب الرافعي في الطبقة العليا مما عرفته العربية عبر تاريخها الطويل .. فهو عميق الفكرة، جزل العبارة، بالغ التكثيف .. لدرجة أن كثيرًا مما كتبه ما يزال على بكارته الأولى.

وفي هذا النص المختار قبس من ذلك كله:بدأ الإسلام في رجل “النبي” وامرأة “خديجة” وغلام “علي” .. ثم زاد حرًّا “أبا بكر” وعبدًا..”بلال”.

أليست هذه الخمس هي كل أطوار البشرية في وجودها .. مخلوقة في الإنسانية والطبيعة، ومصنوعة في السياسة والاجتماع ؟!
فها هنا مطلع القصيدة، وأول الرمز في شعر التاريخ !

ولبث النبي – صلى الله عليه وسلم – ثلاث عشرة سنة .. لا يبغيه قومه إلا شرًّا، على أنه دائب يطلُب.. ثم لا يجِد، ويعرض.. ثم لا يُقبل منه! ويُخفِق.. ثم لا يعتريه اليأس!.. ويجهد.. ثم لا يتخونه الملل! ويستمر ماضيًا لا يتحرَّف، ومعتزمًا لا يتحوَّل.

أليست هذه هي أسمى معاني التربية الإنسانية .. أظهرها الله كلها في نبيه، فعمل بها، وثبُت عليها، وكانت ثلاثة عشرة سنة في هذا المعنى كعمر طفلٍ وُلد ونشأ وأحكم تهذيبه بالحوادث، حتى تسلمته الرجولة الكاملة.. بموانيها من الطفولة الكاملة بوسائلها..!

أفليس هذا فصلاً فلسفيًّا دقيقًا يُعلِّم المسلمين كيف يجب أن ينشأ المسلم: غناه في قلبه، وقوته في إيمانه، وموضعه في الحياة موضوع النافع قبل المنتفع، والمُصْلِح قبل المقلد.. وفي نفسه من قوة الحياة ما يموت به في هذه النفس أكثر ما في الأرض والناس من شهوات ومطامع!

ثم .. أليست تلك العوامل الأخلاقية هي هي التي ألقيت في منبع التاريخ الإسلامي ليَعُبَّ منها تياره، فتدفعه في مجراها بين الأمم، وتجعل من أخص الخصائص الإسلامية في هذه الدنيا الثبات على الخطوة المتقدمة .. وإن لم تتقدم، وعلى الحق وإن لم يتحقق، والتبرؤ من الأثرة .. وإن شحَّت عليها النفس، واحتقار الضعف وإن حكم وتسلط، ومقاومة الباطل وإن ساد وتغلب، وحمل الناس على محض الخيرة وإن ردوا بالشر، والعمل للعمل .. وإن لم يأت بشيء، والواجب للواجب .. وإن لم يكن فيه كبير فائدة، وبقاء الرجل رجلاً .. وإن حطَّمه كل ما حوله ؟!

قالوا: إن عمه – صلى الله عليه وسلم– أبا طالب. بعث إليه حين كلمته قريش، فقال له: يا ابن أخي.. إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا.. فأَبْعِد عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.

فظن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قد بدأ لعمله فيه بداء، وأنه خاذله ومُسلِمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه.. فقال: يا عمَّاه.. لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري .. على أن أترك هذا الأمر؛ ما تركته .. حتى يُظهِره الله أو أهلك فيه ما تركته ثم استعبر – صلى الله عليه وسلم – فبكى!

يا دموع النبوة ! لقد أثبت أن النفس العظيمة لن تتعزى عن شيء منها بشيء من غيرها.. كائنًا ما كان .. لا من ذهب الأرض وفضتها، ولا من ذهب السماء وفضتها، إذا وُضعت الشمس في يد، والقمر في الأخرى!

وكل حوادث المدة قبل الهجرة على طولها ليست إلا دليل ذلك الزمن على أنه زمن نبي، لا زمن ملك أو سياسي أو زعيم .. ودليل الحقيقة على أن هذا اليقين الثابت ليس يقين الإنسان الاجتماعي من جهة قوته، بل يقين الإنسان الإلهي من جهة قلبه. ودليل الحكمة على أن هذا الدين ليس من العقائد الموضوعة التي تنشرها عدوى النفس للنفس .. فها هو ذا لا يبلغ أهله في ثلاث عشرة سنة أكثر مما تبلغ أسرة تتوالد في هذه الحقبة. ودليل الإنسانية على أنه وحي الله بإيجاد الإخاء العالمي والوحدة الإنسانية. أفلم يكن خروجه عن موضوعه هو تحققه في العالم ؟!

هذه هي حكمة الله في تدبيره لنبيه قبل الهجرة .. قبض عنه أطراف الزمن، وحصره من ثلاث عشرة سنة في مثل سنة واحدة .. لا تصدر به الأمور مصادرها كي تبث أنها لا تصدر به، ولا تستحق به الحقيقة لتدل على أنها ليست من قوته وعمله.

وكان – صلى الله عليه وسلم – على ذلك – وهو في حدود نفسه، وضيق مكانه – يتسع في الزمن من حيث لا يرى ذلك أحد ولا يعلمه، وكأنما كانت شمس اليوم الذي سينتصر فيه – قبل أن تُشرق على الدنيا بثلاث عشرة سنة – مشرقة في قلبه – صلى الله عليه وسلم-!

والفصل من السنة لا يقدمه الناس ولا يؤخرونه، لأنه من سير الكون كله.. والسحابة لا يُشعلون بَرْقها بالمصابيح ! ومع النبي من مثل ذلك برهان الله على رسالته .. إلى أن نزل قوله – تعالى-: ]وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلُّهُ لله[.. فحَلَّ الفصل.. وانطلقت الصاعقة.. وكانت الهجرة! تلك هي المقدمة الإلهية للتاريخ..

وكان طبيعيًّا أن يَطَّرِد التاريخ بعدها، حتى قال الرشيد للسحابة وقد مرت به: أمطري حيث شئت .. فسيأتيني خراجُك!