في حوار مع د. برونو غيدردوني حول هل القرآن والعلم متوافقان؟ أردنا أن نستكشف رؤية مختلفة لمسائل القرآن والعلم أو العلم والإيمان، كيف يشرحها عالم فلكي غربي مسلم، وكيف يقوّم تلك الممارسات “الإسلامية” لما يسمى بالإعجاز العلمي، واستدعى الحوار مسائل بالغة الأهمية في الحديث عن مفهوم الحقيقة العلمية والفرق بين الفهم الديني والفهم العلمي، وهل يجب علينا أن نؤمن بالحقائق العلمية؟ ولماذا هو قلق وغير معجب بممارسات الإعجاز العلمي.

الدكتور برونو غيدردوني، أو عبد الحق كما يسمي نفسه، هو مدير المرصد الفلكي في فرنسا ومدير أبحاث شؤون الكواكب والمجرات في المركز القومي للبحوث العلمية. تخصصه الرئيسي هو تكوين وتطور المجرات، نُشر له 100 بحث، وقد قام بإعداد عدد من المؤتمرات الدولية حول هذا الموضوع. يُعتبر غيدردوني أحد الخبراء ذوي المرجعية عن الإسلام في فرنسا، وقد نُشر له خمسون بحثًا في علم الكلام والتصوف. وما بين عامي 1993-1999 كان يدير برنامجًا للتلفزيون الفرنسي بعنوان “معرفة الإسلام”، وهو الآن رئيس المؤسسة الإسلامية للدراسات العليا المتطورة.

الحيز المشترك بين الدين والعلم

* الحديث عما يسمى بـ “الإعجاز العلمي”، يشيع كثيرًا بين المسلمين، فما هو رأيك في هذا الموضوع كعالم فلك، وهل يمكن أن يعكس ذلك الاهتمامُ التفاعلَ بين الدين والعلم؟

الإعجاز العلمي” موضوع صعب ومهم في سياق الكلام عن العالم الإسلامي اليوم؛ لأنك لو نظرت إلى صفحات الإنترنت -على سبيل المثال- ستجد أن معظمها يتحدث عن “الإعجاز العلمي”، و”المعجزات العلمية” في القرآن، لهذا فموضوع القرآن والعلم ليس بالموضوع الذي يمكن تجاهله، بل يجب تناوله واعتباره شيئًا مهمًّا؛ لأنه يساعدنا على تناول موضوع الحيز المشترك والتفاعل ما بين العلم والدين.

وهذا ليس بالموضوع الجديد في الإسلام؛ فإن فلاسفة الإسلام العظماء أمثال الغزالي وابن رشد قد تناولوا – من قبل- مفهوم الاتصال بين العلم والدين. واستخدمت -هنا- كلمة الاتصال؛ لأنها نفس الكلمة التي استُخدمت بواسطة ابن رشد في كتابه: “فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”، فالحكمة يمكن أن نقول عنها اليوم: “العلم”، و”الشريعة” يمكن أن نطلق عليها اليوم كلمة “الدين”. وكلاهما يؤمنان إيمانًا راسخًا بوحدة الحق في الدين الإسلامي، فـ”الحق يد واحدة”، وإنه لا يمكن أن تكون هناك حقيقة علمية تعارض حقيقة دينية.

وإن كان هناك اختلافات ما بين الحقيقة العلمية والحقيقة الدينية فإن هذه الاختلافات ظاهرية فقط، ويمكن التغلب عليها.

نعم.. هناك بعض الاختلافات بين الغزالي وابن رشد؛ لأنهما اختلفا على الحد الفاصل بين العلم والدين. فلقد ادعى الغزالي أنه عادة ما يكون الخطأ من العالِم الذي يذهب وراء حدود العلم عندما يدعي أشياء عن طبيعة الحقيقة، مثل قدرة الله ونحوها… لذا فقد حاول الغزالي أن يُظهر أخطاء العلماء من واقع العلم ذاته.

أما بالنسبة لابن رشد، فإن رجل الدين هو الذي يقوم بتفسير النص القرآني، فإن كان هناك خلاف بين القرآن والعلم، أو كان هناك تناقضات بين التناول الديني والتناول العلمي، فعليك الرجوع للنص كي تحصل على تفسير صحيح للنص القرآني.

القرآن والعلم..بين الفهم العلمي والفهم الديني

* إن الذين ينادون بالأخذ بمفهوم “الإعجاز العلمي” يقولون: إن هناك حقيقة علمية، وهناك حقيقة قرآنية، ويحاولون أن يطابقوا بين هاتين الحقيقتين. هل يمكن هذا فعلاً؟

نحن -كمسلمين- نعتقد أنه لا يمكن أن يكون هناك اختلاف بين الحقيقة العلمية والحقيقة الدينية من حيث المضمون. لكن بالطبع طريقة الفهم العلمي وطريقة الفهم الديني مختلفتان تماماً، فتناولهما للحقائق له طرق مختلفة. هناك منهج علمي وهناك منهج ديني (حياة دينية روحانية) وهي مختلفة عن المنهج العلمي. هذا المنهج العلمي هو طريقة مماثلة لما يقال عنه: “التجربة والخطأ”؛ لأنك ستجرب نظرية، وإذا لم تنجح تجرب أخرى وهكذا…، وتحسّن وتطوّر نظريتك وتزيد وتستثمر معلوماتك.

بالنسبة لطريقة الفهم الديني، يمكن أن أقول: إن الغرض من الوحي الإلهي هو الإنقاذ أو النجاة، والحقيقة أن الله يعلّم الإنسان أشياء لا يمكن الوصول إليها عن طريق الذكاء البشري. هذا واضح في الآيات الأولى التي أنزلها الله في سورة العلق [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)]

الله سبحانه وتعالى علّم البشر ما لم يعلموا، وبالطبع فنحن لا يمكن أن نعلم كل شيء عن الآخرة وعن الجانب الغيبي للوجود وخصائص وصفات الآخرة ما لم يكن الوحي قد أعلمنا بهذه الأشياء، وهذا هو الغرض الرئيسي من نزول الوحي. إن الله قد قال الحق في كتابه الكريم “القرآن”، وهو المعجزة وأساس الدين الإسلامي. هذه أول معجزة والتي يجب أن يؤمن بها المسلمون من نور القرآن الذي نجده في كل آية من آياته.

وهكذا أختم بالقول: إنني لدي شك تجاه طريقة الفهم هذه التي تصر على محاولة إثبات صحة القرآن والعلم، أو بالأحرى إثبات صحة القرآن من خلال العلم، للتأكيد على أن مهمة القرآن وعمق الآيات القرآنية تُستَشف من المنظور العلمي.

* لكن ماذا عن الحقائق العلمية أو لنسمها الإشارات العلمية التي جاء ذكرها في القرآن؟

يمكن القول: إن الله أشار في القرآن إلى حقائق، وهذه الحقائق لا يمكن أن تكون خطأ. إن الله عنده العلم الكامل عن الواقع، لذا فليس غريباً أن الله أشار إلى القمر والشمس والنجوم والأرض والمحيط والحياة وكل الأشياء الغامضة. وكعالم أجد أن هذه الإشارات رائعة على نحو جازم وتتطلب تفكيراً عميقاً جدًّا، وهي تُشبع حياتي الروحانية. ولكن هل من الضروري أن نتعمق في هذه الإشارات في القرآن؟ هل نحن بحاجة لذلك لإثبات صحة القرآن؟

بالنسبة لنا إن صحة القرآن ونور القرآن موجودان في كل آية. أنا لا أشك في هؤلاء الذين يُعجبون بالجمال الوصفي للعالم في القرآن فأنا أيضا أعجب بهذا الجمال، ولكنني أشك جدًّا في هؤلاء الذين يحاولون أن يصنعوا من القرآن والعلم علمًا جديدًا ينبثق من القرآن كمحاولة قياس القيم الحسابية لسرعة الضوء في آيات القرآن الكريم مثلاً، وهو تقليعة موجودة منذ العام الماضي على صفحات الإنترنت. إن الأفراد الذين يقومون بتلك التصرفات يفقدون المنظور الروحاني للوحي الإلهي.

يحثنا القرآن على التأمل في العالم والتعرف على نعم الله في هذا العالم العظيم وفي علم الحياة والتعرف على الذكاء في علوم الكون وفي الظواهر الطبيعية؛ لأننا لدينا بعض هذا الذكاء في أنفسنا. فهناك صدى للعلاقة بين الذكاء الذي أعطانا الله إياه والذكاء الذي وضعه الله في العالم لخلق الانسجام والتناسق في الكون، وهذا ما جعلني أدرك لماذا يمكن فهم العالم وهو أكثر الأشياء غموضاً. اعتاد آينشتين القول: إن الغموض في العالم يتمثل في حقيقة أن (العلم يمكن إدراكه، ولكننا لا نستطيع وصف ذلك بواسطة علم الرياضيات)، وأنا كمؤمن بالله أجد أن هذا شيء واضح (هذا هو الذكاء الذي وضعه الله في العالم).

إننا لا بد أن ننظر في الكون لنتعرف على هذا الذكاء، علينا أن نقيس سرعة الحياة في العالم، ولا بد أن نكون مقتنعين بالكون والمجرة وكوكبنا والمخلوقات الطبيعية وهكذا… أما لو امتنعنا عن إعمال هذه الطريقة لفهم القرآن فسنفقد شيئاً من خلق الله. لذلك علينا أن نُشبِع حياتنا الروحية بالقرآن ونستمع إلى النصائح القرآنية والتدبر في آيات القرآن لنتعرف على العلامات في الكون، وهذه هي عظمة القرآن والعلم وعظمة العالم، تتولد هذه العظمة من كلام الله، وهذا الوحي نوع خلق جديد.

الشعور بالاهتمام بالإعجاز العلمي -كما أفهمه- يجب أن يكون أوسع وأشمل، ويأتي من خلال دراسة العلم ودراسة العالم، وهذه كانت إحدى مهام المسلمين في العصر الذهبي؛ لأنهم كانوا فخورين جدًّا بإيمانهم بالله، ولذا وجب علينا أن نوجِد -مرة أخرى- تلك الروح “روح استكشاف العالم”.

الحقيقة العلمية

* الممارسات الحالية للإعجاز لا تحمل على شيءٍ من ذلك الاستكشاف، فهي تهدف إلى المطابقة كما قلنا بين حقائق القرآن والعلم، وهنا أود أن أسأل عن الحقيقة العلمية هل يمكن تحديدها؟

إن “الحقيقة” شيء من الصعب تعريفه؛ لأنك لا تعلم إن كانت النظرية حقيقة فعلاً أم حقيقة محتملة فقط، فالنظريات أحيانًا تثبت صحتها لفترة من الزمن إلى أن تظهر حقائق علمية جديدة، حينئذ تدخل هذه الحقائق العلمية الجديدة ضمن النظرية. إن ما يمكن التأكيد عليه هنا هو النمو في المعرفة، فهذا حقيقة؛ لأننا نعلم أكثر مما كنا نعلمه في العصور الوسطى أو حتى في القرن التاسع عشر. لذلك يمكن القول: إن هذا هو الفهم العلمي.

والحقيقة العلمية تعرف دائمًا في سياق الكلام عن “النظرية”، ولذلك فأنت تعرف النظريات بقرائن متداخلة، والحقيقة العلمية موازية للنظرية فيما إن كانت “حقيقة”. ولكن الحقائق نفسها لها مدلولات في النظريات المعطاة. بعض هذه الحقائق ليست حقائق علمية. الحقائق العلمية ليست حقائق مجردة، فعلى سبيل المثال: “هذا الصباح استيقظت وتناولت بيضا مقليا”، هذه ليست حقيقة علمية. الحقيقة كما في المثال التالي: “يدور القمر حول الأرض في مدة كذا وكذا، وهذا الدوران قد قيس بانضباط شديد. وهكذا…”. فهذه النظريات قد أوجدها البشر، ونستنتج من ذلك أنه من الصعب جدًّا اكتشاف الحقيقة بنظرية علمية.

ثمة مشاركة من فيلسوف يدعى كارل ﭙوﭙر من القرن الماضي، حول ما يسمى “المفهوم المنطقي للاكتشاف العلمي“، ومن الوجهة الفلسفية للأمر -والتي يمكن أن تشير إلى نظرية- يمكن للفرد أن يشير لبعض النظريات بأنها خاطئة والبعض الآخر بأنها صحيحة وهكذا…، وبالنسبة لـﭙوﭙر فإنه ليس من المستحيل إثبات أن النظرية صواب، وإنما من الصعب إثبات أن النظرية خطأ وتخالف بعض الحقائق. لذلك فالنظرية هي نظرية علمية ما دام يمكن تجربتها كما يقول. كما أن النظرية يمكن أن تقاس، وإذا لم نتمكن من ذلك فالنظرية منتهية.

وإذا كانت النظرية علمية فيمكن اختبارها، وإذا كانت النظرية -دائمًا- صوابًا؛ فإنها لا تكون نظرية علمية. مثل ما يروى عن قصة التحليل النفسي -وكارل ﭙوﭙر شديد الحساسية تجاه التحليل النفسي- من الادعاء القائل: “إن لم تحب أمك فلديك مشاكل، ولكن إن كنت تحبها فإن لديك مشاكل أيضًا، ولذلك أنت لديك مشاكل في كلتا الحالتين”.

إنها دعابة، ولكن بالنسبة لـﭙوﭙر لم يكن التحليل النفسي نظرية علمية، بينما نظرية نيوتن للجاذبية تعد نظرية علمية لأنها تتنبأ بقيمة متناهية في الدقة، حركة حجر في مجال الجاذبية الأرضية أو حركة القمر في مجال الجاذبية الأرضية. اتضح بعد ذلك أن ثبت خطأ هذه النظرية، فقد أظهرت الأعمال الخاصة بإلبرت آينشتين أن نظريته لا بد أن تكون محتواة ضمن نظرية لاحقة وهي النسبية العامة. والتنبؤات الخاصة بنظرية نيوتن ثبت أنها خاطئة، وتنبؤات نظرية آينشتين ما زالت غير خاطئة.

إن النظرية يمكن أن تكون خاطئة خطاً مطلقاً، ولكنها نظرية علمية؛ لأنها تنبأت بحقيقة، تنبأت بتصرف محدد، وهذه هي الفكرة التي لدينا، الحقيقة العلمية التي يصعب إثباتها أو تعريفها. إنها شيء يمكن أن يجرَّب. نحن لا ندعي أن الحقائق الدينية ستجرّب، فنحن لا نجرّب الدين ولا نريد أن نقارن بين الديانات. يجب أن يتبع كل مؤمن دينه ويتخذ سبيله إلى الله، وهذا هو التأمل والتفكر المطلق في الله. مع وجود الشك وعدم الوضوح وغموض التساؤلات. لكن بالنسبة للحقيقة العلمية فهي أكثر انفتاحاً لعملية التقدم. نحن نطور المعرفة ونحسّن أدوات المعرفة، لذا فنحن لا نستطيع تعريف الحقيقة العلمية، ولكن يمكن أن نحدد ونعين النمو في المعرفة العلمية.

وهناك تناقض ظاهر؛ لأننا عندما يصبح لدينا المزيد والمزيد من المعرفة نجد أن الحدود الفاصلة بين المعلوم وغير المعلوم تزداد في الاتساع والنمو أيضاً، كأن هذه المعرفة هي داخل بالون يزداد في التضخم بتزايد المعرفة ليصبح سطح هذا البالون أكبر وأكبر مما كان عليه من قبل.

لذا فعلى النطاق الضيق والنطاق الأوسع نجد أننا نواجه أسئلة عظيمة عن طبيعة الأشياء وطبيعة الحياة وطبيعة الذكاء. نحن لا نعرف حتى ما إذا كنا في الوقت اللاحق سيمكننا تناول هذه الأسئلة؛ لأنها يمكن أن تكون أكبر بكثير مما يمكن للمرء استيعابه، لذلك من الجدير أن نرى كيف ينمو ويزداد العلم، وهذا العلم مغلق، فهو دائماً يتعرض لأسئلة أخرى وهي صعبة وعميقة جدًّا ومدروسة جدًّا. وحتى إن كانت نجاحات متعددة تحققت في مجال الاكتشاف العلمي للكون بواسطة الجنس البشري فنحن لا نعلم ما إذا كان هذا الاكتشاف سيتقدم إلى أبعد من ذلك أكثر وأكثر.

نحن لا نعلم ما إذا كان إدراكنا يمكننا من استيعاب كل الواقع الطبيعي؛ لأنه لا يوجد أي تعهدات بذلك. عندما نتأمل في القرآن والعلم وعندما أقرأ القرآن لا أجد أي وعود حول قدرة العقل البشري على فهم كل شيء في الطبيعة، ولكنني أجد فيما أقرأ الوعد حول احتمال أن أعرف الله، وهذا – إلى حد ما – فيه شيء من الغرابة؛ لأن الله دائم ونحن لنا نهاية. وهذا هو الوعد، “وعد الله الحق”.

* إن من صفات الحقيقة العلمية أنها “تاريخية ونسبية” أيضًا، إلى أي مدى يمكن أن يكون هذا التوصيف صواباً، اليوم. وماذا عن المستقبل؟

إن المعرفة العلمية هي معرفة متراكمة، فمثلاً بالنسبة لنظرية نيوتن وصفت لنا الحركات الخاصة بالحجر في مجال الجاذبية. هذه النظرية كانت على وشك وصف حقائق حركة القمر، ولكن ظهرت نظرية النسبية العامة وهي أكثر تعقيداً من نظرية نيوتن عن الجاذبية، وهي تتنبأ بسلوك الطبيعة الذي يختلف قليلاً عن السلوك الذي تنبأت به نظرية نيوتن. وعندما ينظر المرء إلى الطبيعة يمكنه – فطريًّا- إثبات تكذيب تلك النظرية في وصف الواقع بينما تنجح نظرية النسبية العامة في وصفه.

أعتقد أن أحد الاختلافات في النظريات المختلفة أنه في النسبية العامة: يمكن سماع الحركات في خضم الحركات الخاصة بالحياة. أما في نظرية نيوتن للجاذبية فهذا تم التنبؤ به. ولذلك في عام 1919م عندما نظر آرثر إدنجتون إلى الظاهرة، وجد أن آينشتين كان على صواب، أما نيوتن فكان مخطئاً. ولكن هذا لا يعني أن نظرية نيوتن غير نافعة، فبالإمكان أن تكون مفيدة ونافعة في معظم الأحوال.

يمكن أن نسترسل لنقول: إن الطبيعة أكثر تفصيلاً في نظرية نيوتن، وهذا هو المسار الذي يتخذه العلم ويكون فقط شعاع المعرفة. لذلك عندما يتحدث المرء عن الافتراضات العلمية فهذا لا يعني أنها مجرد آراء؛ لأنها أكثر من ذلك، إنني أشعر أحيانًا أن هؤلاء العلماء يقومون فقط بوضع النظريات ولكن الأمر ليس كذلك، إننا نحسّن ونطوّر معرفتنا، إننا نبني المعرفة؛ لذا فإنها أكبر بكثير من مجرد رأي. إنها معرفة مؤكدة من قبل علماء العالم الذين أجمعوا على الوضع الحالي للمعرفة. لقد توصلنا إلى هذا الإجماع تخمينًا، ويمكن أن يصبح بعض هذا التخمين إجماعاً في المستقبل. لذلك فهو شيء يمكن تنفيذه، وقدراتنا على فهم العالم مهمة. وبالنسبة لي كمؤمن، أشعر أن هذه إحدى منح الله.

لا أستطيع أن أشرح أو أفسر لماذا قد أعطى الله شيئاً “كالحياة”؟. أنا لا أفهم ولا أتذكر ماذا قيل في القرآن والعلم مثلا عن خلق آدم الذي أعطاه الله بعض الروح. إن ذلك لشيء قوي وقد لا يكون الحال كذلك عند القول: إن كل شيء نسبي.

أعلم أن لدى البعض في الغرب بعض الانتقادات في إطار ما يسمى “ما بعد الحداثة“، وهو تحليل فلسفي ينبع من الاعتقاد بأن كل شيء هو بناء بشري وتشييد اجتماعي، لذلك فالدين كبناء اجتماعي يعتبر نسبيًّا والعلم كبناء اجتماعي يعتبر نسبيًّا أيضاً، لكنها مقولة قوية جدًّا. وطبقاً للفكر الغربي نجد أن الأفراد لا يعرفون حقاً أي شيء؛ لأن كل شيء منظم ومركب، لذا فيمكنك اتخاذ كل اختياراتك. يمكنك أن تؤمن أو لا تؤمن، يمكنك اختيار الجانب الذي تؤيده. لكن هذا – من وجهة نظري- يعتبر خطأ؛ لأن هناك الواقع الذي يقاوم محاولاتنا للفهم، فليست جميع النظريات على صواب.

إنني أعتبر الاهتمام بالعلم واجبًا على المؤمن؛ لأنه يطلعنا على أشياء عن العالم وكيفية خلق الله له. ويجب أن نعقد العزم على اتباع هذه الخطة في الفهم؛ لأن هذه الخطة فعالة جدًّا في الإجابة عن هذه التساؤلات التي تبدأ بـ”كيف” يظهر العالم للعيان؟ كيف تظهر الشمس؟ وهكذا…، ولكننا لا نفهم “لماذا؟”. وأسئلة “لماذا؟” يمكن الإجابة عنها “بالإيمان”.

الحقيقة الدينية

* لكن ماذا عن الحقيقة الدينية هل يصعب تحديدها كذلك؟

أنا – كمؤمن- أقول أولاً: إن “الحق” أحد أسماء الله الحسنى، وأنا “عبد الحق”. ولذلك – بالنسبة لي – واجبي تجاه الله أن أعمل تبعاً لما يمليه علي هذا الاسم بعينه. أنا لا أعتبر الحقيقة مفهومًا أو شيئًا معقدًا. آمل أن أعلم “الحقيقة” (بالتأمل والتفكير في الله) إن شاء الله. لذلك أفضل أن أعرف “الحقيقة الدينية” بالقدرة على جمع المؤمنين لهذا التأمل. لأنك بالطبع لو نظرت “للديانات” و”الحقيقة” ستجد أنه في الإسلام يؤمر المسلمون بأشياء تختلف عما يقوله المسيحيون أو اليهود أو ما يقوله الهندوس. يقول المسلمون: إن عيسى (عليه السلام) كلمة الله ولا يقولون إنه ابن الله، بينما يقول المسيحيون: إن المسيح ابن الله وإنهم لذلك مسيحيون. هكذا نرى أن الأقوال مختلفة جدًّا.

ولكن الشيء المدهش بالنسبة لي أن المسيحيين والمسلمين جميعًا ينتظرون المسيح ويأملون في التعرف عليه بالرغم من تلك الاختلافات. لذا فهذا شيء غامض جدًّا ولا يوجد لدي تفسير له. نعم هناك تغييرات واختلافات متعددة، ولكن عند المسيحيين بحث عن “الخلاص”، وعند المسلمين بحث عن “النجاة”، ونقاء الوجدان هو الذي يؤدي إلى الخلاص أو النجاة. فمن هذه الزاوية تحديدًا كلتا الديانتين حق لأنهما يسعيان للوصول بالمؤمنين بهما إلى الحقيقة المطلقة ألا وهي “الله”، وهذا هو تعريفي للحقيقة الدينية.

يجب أن نرسخ ديانتنا ونحافظ على تعاليمنا أو ما هو صحيح وحق في ديانتنا؛ لأنها وسائلنا النافعة في الطريق الذي نسلكه للوصول -بالتأمل والتفكير- إلى الحقيقة المطلقة. فأنا لا أقول إن علينا الابتعاد عن كل الديانات بل العكس صحيح، فهي هدايا ثمينة أعطيت إلينا من الله بالوحي، وعلينا الاحتفاظ بها؛ لأنها الخريطة المهمة في طريقنا إلى التأمل المطلق في دين الله ومعرفة معنى الأشياء التي كنا نبحث لها عن إجابات “لماذا؟”، وإن شاء الله هذه الإجابات ستأتي عند الله في الحياة الآخرة، هذا هو تعريفي للحقيقة الدينية وهذا يعني أن علينا أن نكون في خشوع تام في اتباع طريقة الفهم هذه، وأن نعلم أن الحقيقة أعلى بكثير من أن توضع في معادلة واحدة.

يود الله منا أن نعبده ونعرفه من خلال أسمائه الحسنى والأقوال العديدة المهداة من خلال الوحي. بالنسبة لي معنى التكبير (الله أكبر) أن علينا أن نذهب أبعد من هذه الأفكار والتخيلات التي كوّناها عن عظمة الله؛ لأن الله أعلى، “الله أعلى”: هذه حقيقة دينية.

الحقيقة العلمية.. والإيمان

* هل ترقى الحقيقة العلمية إلى المستوى الإيماني الذي يجب أن يتحلى به كل فرد؟

لا، أنا لا أؤمن بالحقيقة العلمية، إنها شيء مختلف. أنا أؤمن بالله والنبي محمد صلى الله عليه وسلم والتعاليم والوحي الإلهي. إن ذلك مختلف تماماً.

الإيمان هو الثقة بقدرة الوحي الإلهي للوصول به إلى النجاة وللمعرفة، والعمل بالمعرفة. لذلك فهذه نظرة ثقافية للواقع ولا يمكن إثباتها. فعلى سبيل المثال لن نقوم بإثبات الدين كما لو كنا نود إثبات نظرية رياضية. ولهذا السبب يكون من الصعب على بعض الأفراد أن يؤمنوا، ومن الصعب على الفرد أن يجعل شخصاً آخر يؤمن. (لا إكراه في الدين) كما جاء في القرآن.

لا يوجد إجبار أو إكراه في الدين؛ لأنها مسألة إيمان في القلب، والله – وحده – هو القادر على تغيير قلوب البشر. في بعض الأحيان تتحرك مشاعر وتستشعر هذا الإيمان. يجب علينا أن نكون في غاية الامتنان لله لإنعامه علينا بهذه الهبة.

ليس من الضروري أن تكون مؤمنًا بالعلم إن كنت تودّ التحليق بالطائرة. والأفضل لك أن تتعلم علم الديناميكا الهوائية وعلم الميكانيكا وإلا فلن تحلق طائراً وستسقط في الماء. العالم يخضع لهذا المنطق. إنه خلق الله، وقوانين الطبيعة متواضعة إلى ما لا نهاية. هذا التناسق الذي نراه في الطبيعة هو من إرادة الله.

إننا نقرأ في سورة الرحمن (الشمس والقمر بحسبان)، هذه الآية القرآنية ذات أهمية عظيمة؛ لأنها تُظهر التناسق والنظامية في الكون المسيّر بإرادة الله. لذا علينا أن نتعلم تلك النظم الرياضية التي أعطاها الله للعالم.

على سبيل المثال، في حالة ما إذا أردنا أن نصبح مزارعين (وذلك كي يكون الفرد الخليفة الصالح في الأرض كما أراد لنا الله)، وإن أردنا أن نكون صادقين في رعاية الفواكه والأشجار فيجب أن نتعلم كيف تنمو هذه المزروعات والأشجار في الحديقة والتي نتخذها نموذجاً على سبيل المثال للتوضيح. علينا أن نتعلم القوانين التي تعمل بها الأرض والطبيعة، ولذا علينا دراسة الظواهر، ولا يوجد شيء صعب أو غامض من هذه الظواهر.

إن أحد الأشياء التي يجب على العلماء أن يقوموا بها هو التخلص من الغموض في العلم. بالطبع يمكن أن يكون العلم معقداً جدًّا، وأنا لا أفهم من العلم إلا الجزء الصغير الخاص بمجال بحثي. ولكن ليس هناك شيء غامض، هناك فقط جمال الكون والحياة وقدرة العقل البشري على البحث عن هذا الجمال. ولذلك فمنذ أن دعانا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم للتزود من المعرفة وجب علينا استكشاف جميع حقول المعرفة.

وعندما دعينا للصين لم يكن ذلك لسبر أغوار القرآن والعلم، أو لتعلم القرآن الكريم. إنها دعوة للذهاب إلى الصين واستكشاف العالم، ولنعرف كيف تعمل الأشياء وإيجاد التقنية. لقد أخذ العرب الكثير من التقنيات من الصين. لا يجب علينا النظر إلى جهاز التسجيل هذا على أنه صندوق أسود. يجب علينا بحثه والتعرف على طريقة عمله. إن ذلك ليس غامضاً، إنها قدرة الله التي تخلق العقل البشري للاستقصاء والبحث عن هذه الأشياء، وألا نكون خاضعين للعلم.

* هناك محاولات بحثية في الغرب تقوم على محاولة إثبات صحة الكتاب المقدس من خلال العلم، وهو النهج الذي يتم محاكاته لدى بعض المسلمين من خلال ما سُمي بالإعجاز العلمي، فما هو رأيك في هذه الطرق المتخذة؟

أعتقد أن ذلك يعد خضوعًا أعمى للعلم. بالنسبة لي، فإنني أفهم إمكانية العلم والسبب في ذلك يرجع إلى الدين، ولا أستطيع شرح لماذا يكون العلم ممكناً؟ ولماذا نحن قادرون على فهم العالم إن لم نكن نحن مخلوقين بواسطة الله. لذا فإيماني الديني هو الذي يجعل العلم ممكناً. بينما السؤال يقول: إنه يوجد البعض في الاتجاه المعاكس لاعتقادي، وهم يحاولون فهم الدين من خلال العلم. بالنسبة لي فهذا شيء محيّر جدًّا. أنا لا أعلم لماذا يقومون بذلك، أنا غير مندهش، فمثلاً في القرن التاسع عشر اعتاد بعض الناس أن يقولوا عن الإنجيل -على سبيل المثال- إنه أساطير ولا يوجد به شيء صحيح. ثم بعد ذلك أظهر لنا علم آثار الحضارة أن الحقائق التي ذكرت في الإنجيل صحيحة. أنا لست مندهشاً؛ فالله يعلم الواقع والحقيقة.

توجد إشارات إلى هذا الواقع في الكتب السماوية، وعلينا ألا نذهب إلى أبعد من ذلك، وإلا تكون خطة خطيرة جدًّا، حيث إننا سنود أن نثبت أن هناك ديانة أفضل من الديانات الأخرى. في هذه الحالة ستكون العملية شيقة، ولكننا سنُخضِع الديانة الفائزة إلى المحاسبة العلمية، وهكذا نخضع الديانة للعلم، وهذا ليس بالأمر الصحيح لترتيب الأشياء؛ لأن الشيء المادي المحسوس يخضع لغير الملموس ولغير المحسوس، وليس العكس. لذلك فأنا أشك، ولدي بعض القلق تجاه هذا التناول، وآمل أن الدراسات العلمية اللاحقة وفلسفة العلم والتداخلات العلمية تساعد الأفراد على التمييز بين هذين التناولين في المستقبل.

عندما أقول “نفرق أو نميز” فهذا يشير إلى وجود لفظ يدل على أن الأشياء منفصلة تماماً، لأن الانفصال التام لا يوجد في الفكر الإسلامي الذي يبحث عن الانسجام والتوحد، هذا هو “التوحيد. كل مزاولة لها قواعدها وقوانينها الخاصة بها، وأود أن أحمي الدين من سوء الفهم، خاصة من سوء الفهم الناتج عن موافقة العلم؛ حيث يخضع الدين لحكم العلم في معرفة مدى صحة هذا الدين.

هذه الحياة الروحانية تم تدميرها بالكامل بالتناول العلمي الذي يسعى فقط لاكتشاف الحقيقة. نحن لا نبحث عن الحقيقة في الدين. نحن نبحث عن التغييرات الداخلية في الأنفس، وعن الفاكهة التي ستكون في الدار الآخرة إن شاء الله.

* أنت عالم فرنسي وقد اعتنقتَ الإسلام، هل من الممكن أن يكون العلم سبباً في الإيمان أو الإسلام تحديدًا؟

يمكن أن يكون كذلك، أقول إن هذا هو مكر الله؛ لأنه هو الذي يعلم ما يهديك للإيمان. أحياناً يحدث هكذا، وأحياناً يكون فقط للزواج فيدخل الأفراد في الإسلام وبعد ذلك يكتشفون الحياة الروحانية. الاهتمام بالعلم يمكن أن يكون طريقاً للإسلام، لكن يمكن أن يكون العلم حاجزاً دون ذلك أيضًا؛ إذا ما حدد الفرد فهم الإسلام على الوجه العلمي. الإسلام يذهب مداه إلى أبعد من هذا النوع من التداخل العلمي.

الحقيقة أننا قد أرهقنا -إلى حد ما- النظرية المادية وقوة العلم في وصف الواقع، وبعد إعطاء الانطباع أن هناك شيئاً وراء ما هو ظاهر تجدنا نبحث عن الروحانيات ونبحث عن ما وراء الطبيعة وعن الإجابة على أسئلة عويصة تحتاج إلى تفكير عميق. “لماذا أنا هنا؟”، “ما هو مصيري؟”، “ماذا أفعل للخير؟”، كل هذه الأسئلة هي مفاتيح للتفكير بالعودة إلى الإسلام؛ لأن الانطباع الذي يولد عند الدخول في الإسلام هو أنك رجعت إلى بيتك. هذا الانطباع شديد وقوي جدًّا. هذا الشعور مدهش، ويمكن أن يؤكد الاهتمام بالعلم.

أعتقد أن أعمق شيء هو صوت الفطرة التي توجد لدى كل فرد. فبالرغم من التعليم المبني على النظرية العلمية (التعليم المادي) الذي يتلقاه الأفراد في أوروبا أو الغرب على وجه العموم، نجد أن الفطرة موجودة، واحتياجات الأفراد الروحانية لا يمكن إشباعها إلا عن طريق الدين. إن الأديان الموجودة في الغرب قد تعرضت لتأثير القوى المادية لعدة قرون مما أدى إلى أن هذه الأديان فقدت شفافيتها المعتادة التي يتمتع بها الإسلام والمرحلة الأولى للوحي الإلهي. هذا هو السبب في انجذاب الكثير من الغربيين إلى الإسلام.

أعداد أكثر يمكن أن تنجذب للدخول في الإسلام لولا هذه الأحداث المتمثلة في العنف الذي نراه على شاشاتنا، فمن جانبٍ نجد للإسلام الحق قوة جذب هائلة، ومن الجانب الآخر، ارتكب بعض المسلمين أعمالاً خاطئة أو حتى شريرة وهذا مزعج جدًّا بالنسبة لي.

عندما اعتنقت الإسلام منذ عشرين عاماً مضت، لم تكن مثل هذه المشاكل موجودة. أشعر أننا الآن منجذبون للإسلام، ولا أدري لماذا يفعل البعض هذه الأشياء باسم الإسلام. هذا شيء غامض مثل غموض الحرية البشرية؛ لأننا أحرار في أن نفعل الخير أو نفعل الشر. أعتقد أن الدين الإسلامي لديه القدرة على احتواء كل هذه الوجهات في الحياة ليعطي تماسكاً وتناسقاً للعالم المجزأ حاليًّا، لكن ذلك ليس فقط للعالَم، وإنما لنا نحن أيضاَ؛ لأننا أيضا مجزؤون جدًّا في نشاطاتنا، فالحياة كذلك. الإسلام هو طريق قوي للتوحيد، وعلينا أن نتوحد إذا ما أردنا أن نفهم ونتأمل بعمق هذا العالم. وهذا هو الطريق الذي أتبعه بعون الله.


أجرى الحوار: معتز الخطيب في 29 مايو 2006م. ترجمة: السيدة أمينة وافي