قبل التعرف على ألب أرسلان لابد من التعريج على نجاح السلاجقة في النصف الأول من القرن الخامس الهجري في إقامة دولة قوية في خراسان وبلاد ما وراء النهر على حساب الدولة الغزنوية، وأن يعلنوا تبعيتهم للخلافة العباسية، ثم لم تلبث هذه الدولة أن اتسعت بسرعة هائلة؛ فسيطرت على إيران والعراق، وتوج “طغرل بك” إنجازاته العسكرية بدخول بغداد في (25 من رمضان 447هـ = 23 ديسمبر 1055م)، وبدأ عصر جديد للدولة العباسية، أطلق عليه المؤرخون عصر نفوذ السلاجقة؛ حيث كانت السلطة الفعلية في أيديهم، ولم يبقَ للخليفة سوى بعض المظاهر والرسوم.

ويُعَدُّ طغرل بك من كبار رجال التاريخ؛ فهو المؤسِّس الحقيقي لدولة السلاجقة، نشأت على يديه، ومدت سلطانها تحت بصره، وغدت أكبر قوة في العالم الإسلامي، ونفخت الرُّوح في جسد الدولة العباسية الواهن؛ فدبت فيه الحياة، بعد أن أوشكت على الموت، منذ أن أعلن “البساسيري” أحد قادة الجند تبعية بغداد للدولة الفاطمية في مصر، في سابقة لم تحدث في تاريخها.

ولاية ألب أرسلان

ماهي الظروف التي سبقت فترة ألب رسلان ؟


تُوفِّي طغرل بك في سنة (455 هـ = 1063م) دون أن يترك ولدًا يخلفه على سدة الحكم، فشب صراع على الحكم، حسمه ابن أخيه ألب أرسلان لصالحه بمعونة وزيره النابه نظام الملك، المعروف بالذكاء وقوة النفوذ، وسعة الحيلة، وتنوع الثقافة.

وكانت سوابق ألب أرسلان تزكِّي اختياره للحكم؛ فهو قائد ماهر، وفارس شجاع، نشأ في خراسان، حيث كان والده “جغري” حاكمًا عليها، وأُسندت إليه قيادة الجيوش في سن مبكرة، فأظهر شجاعة نادرة في كل المعارك التي خاض غمارها، وبعد وفاة أبيه تولى هو إمارة خراسان خلفًا له.

ولم تسلم الفترة الأولى من عهده من الفتن والثورات، سواء من ولاته، أو من بعض أمراء البيت الحاكم؛ فقضى على فتنة ابن عم أبيه “شهاب الدولة قتلمش سنة (456هـ الموافق 1064م)، وكانت فتنة هائلة كادت تقضي على ألب أرسلان بعد أن استولى على “الري” عاصمة الدولة، وأعلن نفسه سلطانًا، وأحبط محاولة عمه “بيغو” للاستقلال بإقليم هراة سنة (457 = 1065م)، وبعد سنوات من العمل الجاد نجح ألب أرسلان في المحافظة على ممتلكات دولته، وتوسيع حدودها، ودانت له الأقاليم بالطاعة والولاء، وأُخمِدَت الفتنة والثورات، وتصاعد نفوذه، وقويت شكوته، حتى أصبحت دولته أكبر قوة في العالم الإسلامي في سنة (463هـ = 1070م) مما شجَّعه على التفكير في تأمين حدود دولته من غارات الروم.

فتح بلاد الروم

اطمأن ألب أرسلان إلى جبهته الداخلية المستقرة؛ فبدأ يتطلع إلى ضم المناطق النصرانية المجاورة له؛ بهدف نشر الإسلام فيها؛ فأعد جيشًا بلغ أربعين ألف جندي لهذا الغرض، وتمكن به من فتح بلاد الأرمن، وجورجيا، والأجزاء المطلة على بلاد الروم، وكان لهذه الانتصارات أثرها؛ فتحرك قيصر الروم الذي أدرك أن بلاده معرضة للهجوم من ألب أرسلان، وأن القتال معه وشيك لا محالة؛ فخرج على رأس جيش كبير لمواجهة غزو السلاجقة لممتكلاته، وذلك في سنة (463هـ = 1070)؛ لتطويق الجيش السلجوقي، واستولى على حلب، وكان حاكمها يتبع الخليفة الفاطمي في مصر.

فطن ألب أرسلان إلى محاولات القيصر؛ فبعث ابنه”ملكشاه” على رأس قوة من جيشه؛ لاسترداد حلب من الروم، وتأمين الحدود الشمالية لبلاد الشام؛ فنجح في مهمته، واستولى على حلب، وأصبحت تابعة للسلاجقة، وضم القدس أيضًا، وأجزاء من بلاد الشام.

موقعة ملاذ كرد

كيف انتصر ألب أرسلان في موقعة ملاذ كرد ؟

لم يجد قيصر الروم بدًا من الهجوم على جيش ألب أرسلان بعد أن فشلت خطته

في تطويق جيش المسلمين؛ فخرج بجيوشه الجرارة التي ضمت أخلاطًا من الروس والبلغاريين واليونانيين والفرنسيين إلى المنطقة التي يعسكر فيها جيش السلاجقة في “ملاذكرد”، وكان جيش ألب أرسلان صغيرًا إذا ما قُورِنَ بجيش القيصر، الذي يبلغ عدده مائتي ألف جندي، ويفوقه أسلحة وعتادًا.

أسرع ألب أرسلان بقواته الصغيرة، واصطدم بمقدمة الجيش الرومي الهائل، ونجح في تحقيق نصر خاطف، يحقق له التفاوض العادل مع القيصر؛ لأنه كان يدرك أن قواته الصغيرة لا قِبَل لها بمواجهة هذا الجيش العظيم، غير أن القيصر رفض دعوة ألب أرسلان إلى الصلح والهدنة، وأساء استقبال مبعوثه؛ فأيقن ألب أرسلان ألاَّ مفرَّ له من القتال، بعد أن فشلت الجهود السلمية في دفع الحرب؛ فعمد إلى جنوده يشعل في نفوسهم الروح والصبر عند اللقاء، ووقف الإمام “أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري” يشد من أزر السلطان، ويقول له: “إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره، وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح”.

وحين دنت ساعة اللقاء صلَّى بهم الإمام أبو نصر البخاري، وبكى السلطان؛ فبكى الناس لبكائه، ودعا، ودعوا معه، ولبس البياض وتحنَّط وقال: “إن قُتِلت فهذا كفني”، والتقى الفريقان، وحمل المسلمون على أعدائهم حملة صادقة، وأبلوا بلاءً حسنًا، وهجموا عليهم في جرأة وشجاعة، وأمعنوا فيهم قتلاً وتجريحًا، وما هي إلا ساعة من نهار حتى انكشف غبار المعركة عن جثث الروم تملأ ساحة القتال، ووقع قيصر الروم “رومانوس ديوجينس” أسيرًا في أيديهم، وحلَّت الهزيمة بهذا الجيش الجبَّار في (ذي القعدة 463هـ = أغسطس 1071م).

ما بعد ملاذ كرد

افتدى الروم قيصرهم بفدية كبيرة قدرها مليون ونصف المليون من الدينارات، وعقدوا صلحًا مع السلاجقة مدته خمسون عامًا، وتعهدوا بدفع جزية سنوية طوال هذه المدة، واعترفوا بسيطرة السلاجقة على المناطق التي فتحوها من بلاد الروم، وتعهدوا بعدم الاعتداء على ممتلكات دولة السلاجقة.

وكان من نتائج هذا النصر العظيم أن تغيرت صورة الحياة والحضارة في هذه المنطقة؛ فاصطبغت بالصبغة الإسلامية بعد أن أشرقت عليها شمس الإسلام، ودخل سكانها في الإسلام، وتعلموا مبادئه وشرائعه.

ألب أرسلان .. سلطان السلاجقة وبطل ملاذ كرد
لوحةمصغرة تبرز ألب أرسلان في مجلسه (المصدر:متحف توبكابي)

الوزير نظام الملك

ماهي أدوار الوزير نظام الملك في عهد ألب أرسلان ؟

وما كان للسلطان ألب أرسلان أن يحقق كل هذه الإنجازات بدون جهود وزيره العظيم نظام الملك، الذي لم يكن وزيرًا لامعًا وسياسيًّا ماهرًا فحسب؛ بل كان داعيًا للعلم والأدب محبًّا لهما،

أنشأ المدارس المعروفة باسمه “المدارس النظامية”، وأجرى لها الرواتب، وجذب إليها كبار الفقهاء والمحدثين، وفي مقدمتهم حجة الإسلام “أبو حامد الغزالي.

وقد ارتفع شأن ألب أرسلان بعد انتصاره الباهر، وصار مرهوب الجانب في الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، وحقق شهرة واسعة هو ووزيره نظام الملك الذي أسهم في وضع سياسة السلاجقة، وأشرف على تنفيذها، غير أن السلطان ألب أرسلان لم يهنأ كثيرًا بما حققه، ويجني ثمار نصره، ويواصل فتوحاته، فقد قُتِلَ بعد عام ونيف من موقعة ملاذ كرد على يد أحد الثائرين عليه، وهو في الرابعة والأربعين من عمره في (10 من ربيع الأول 465 هـ = 29 من نوفمبر 1072م”، وخلفه ابنه ملكشاه صاحب الإنجازات العسكرية والحضارية في القرن الخامس الهجري.

  أحمد تمام باحث مصري في التاريخ والتراث.


هوامش ومصادر:

در الدين الحسيني – أخبار الدولة السلجوقية – تحقيق محمد إقبال – لاهور – 1933م.

عبد النعيم محمد حسنين – إيران والعراق في العصر السلجوقي – دار الكتب الإسلامية – القاهرة – 1402 هـ = 1982م.

عصام عبد الرؤوف الفقي – الدول الإسلامية المستقلة في الشرق – دار الفكر العربي – القاهرة – 1987م.

حسن إبراهيم حسن – تاريخ الإسلام الديني والسياسي والثقافي – دار الجيل – بيروت – 1991م