واشتهر آل المعلوف في لبنان بنبوغهم اللافت في الأدب، فعميدها عيسى إسكندر المعلوف من نوابغ الرجال في التاريخ والأنساب واللغة، وشاءت الأقدار أن يكون له 3 أبناء قالوا الشعر وجودوه، وعاشوا جميعا في بلاد المهجر، أكبرهم فوزي المعلوف صاحب ملحمة “على بساط الريح”، وأخوه شفيق المعلوف صاحب “ملحمة عبقر” المعروفة ودواوين أخرى، وأصغرهم هو “رياض المعلوف”. وإلى جانب هؤلاء قدمت الأسرة للشعر العربي عددا كبيرا من الشعراء.
ولا تزال هذه الأسر العريقة تقدم للحياة الثقافية النابغين في الأدب، وآخر فرع من هذه الشجرة الباسقة الكاتب المعروف أمين معلوف الذي بدأ حياته كاتبا بالعربية ثم تحول إلى الكتابة بالفرنسية بعد أن استقر في باريس، ونالت رواياته نجاحا كبيرا وحققت له شهرة واسعة.
النشأة والتكوين
ولد عيسى إسكندر المعلوف في (28 من ذي الحجة 1285هـ = 11 من إبريل 1869م) في قرية “كفر عقاب” من قرى لبنان، ونشأ في أسرة عريقة في المجد تعود بجذورها الأولى إلى الغساسنة.
تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة قريته، ثم درس بمدرسة الشوير، وكانت تقوم عليها الإرسالية الإنجليزية، وتقع بالقرب من قريته، غير أنه لم يدرس بها سوى عام واحد، مؤثرا الانكباب على قراءة أمهات الكتب العربية، وكانت له نفس شغوفة بالمعرفة، نهمة للعلم، مثابرة على البحث، لا تعرف طعما للملل والسأم.
وهذه الروح الوثابة مكنته من تعليم نفسه 8 لغات حية تعلمها بنفسه هي العربية والإنجليزية والفرنسية واللاتينية واليونانية والتركية والفارسية والعبرية، ولم يذكر من ترجموا له إذا ما كان قد تعلم هذه اللغات في حياته الأولى أم على امتداد عمره المديد، وأيا ما كان الأمر فإن الشغف بتعلم هذه اللغات يكشف عن عصامية مفرطة وجلد شديد.
في حقل التعليم
كان أول عمل زاوله إسكندر المعلوف هو التدريس في مدرسة كفر عقاب للآباء اليسوعيين بضع سنوات، ثم عمل في سنة (1311هـ = 1893م) معلما للأدب العربي في مدرسة كفتين الأرثوذكسية بشمال لبنان، وأمضى بها 4 سنوات، شهدت خلالها ميلاد بعض مؤلفاته، وكتابة 3 روايات شعرا.
ثم استقر المعلوف بعد زواجه في “زحلة” وزاول التجارة، ولم يدم ذلك طويلا فانتدب في سنة (1318هـ = 1900م) للتدريس في الكلية الشرقية بزحلة، وقام بتدريس العربية والإنجليزية والرياضيات، وظل يقوم بعمله حتى اشتعال الحرب العالمية الأولى.
وفي أثناء عمله بالكلية أسس بها في سنة (1321هـ = 1903م) جمعية أدبية باسم جمعية النهضة العلمية لتدريب الطلاب على الخطابة وقرض الشعر، وتزويد المجتمع بنماذج مدربة لنشر العلم والثقافة وتطوير الحياة وتحسين سبلها، وقد نجح المعلوف في مسعاه، فقد كان الإصلاح هو شاغله الأكبر، وكان التدريس أداة في تحقيق ذلك، حتى إنه بعد لزوم بيته ظل يدرس لبعض تلامذته ممن توثقت صلته بهم.
في ميدان الصحافة
وإلى جانب اشتغاله بالتدريس عمل بالصحافة في سن صغيرة، فحرر وهو في العشرين من عمره في جريدة لبنان التي كانت تصدر بمدينة “بعبدا” مقر الحكومة وقتذاك ونشر بها عدة مقالات أدبية وتاريخية وعمرانية.
وحين انتقل إلى دمشق لإدارة المدارس الأرثوذكسية سنة (1326هـ = 1908م) شارك في تحرير مجلتي العصر الجديد التي كان يصدرها المحامي ناصيف أبو زيد، ومجلة النعمة التي أنشأها عمر يغوريوس حداد بطريرك الكرسي الإنطاكي، وعلى صفحات هذه المجلة كتب المعلوف مقالات علمية وأدبية واجتماعية، ونشر فصولا في التعريف بالمخطوطات العربية، وكان شديد الشغف بها يقتني في خزانته الخاصة كثيرا من نوادرها، كما كتب تاريخ الصحافة من أول نشأتها حتى سنة (1326هـ = 1908م).
غير أن أهم إنجازاته في عالم الصحافة إنشاؤه مجلة شهرية أسماها “الآثار” وكانت جديدة في بابها حيث عنيت بالمباحث الأثرية، وكانت البوابة التي نفذ منها إلى الشهرة الواسعة التي تمتع بها، فقد تجلت في كتاباته ثقافته الواسعة وعلمه الغزير، وإحاطته بالتاريخ والآثار، ولم تعمر هذه المجلة الراقية أكثر من 5 سنوات.
الخزانة المعلوفية
وقد ولع المعلوف بجمع الكتب ونوادر المخطوطات، وأنفق في سبيل اقتنائها ثروة كبيرة، وطاف من أجلها كثيرا من مدن سوريا ولبنان، وحوت مكتبته العامرة نحو 1200 مخطوطة نادرة و20 ألف كتاب مطبوع في الأدب والتاريخ والفلسفة والدين والفلك وغيرها، ولشدة ولعه بالكتب قال مرة لأحد أصدقائه:
اجعلوا إن مت يوما كفني
ورق الكتب وقبري المكتبة
وادفنوني وادفنوا الكتب معي
وانشروا الأوراق حول المرتبة
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى قرر المعلوف السفر إلى البرازيل حيث يقيم أولاده هناك فأودع مخطوطاته الثمينة النادرة في مكتبة الجامعة الأمريكية ببيروت، وتقاضى مبلغا نظير ذلك، وبعد عودته حاول استعادة مخطوطاته فامتنعت إدارة الجامعة عن تلبية طلبه.
وقد نشرت الجامعة في سنة (1345هـ = 1926م) رسالة عنوانها “مخطوطات الخزانة المعلوفية في الجامعة الأمريكية” وفيها وصف مختصر لخمسمائة كتاب من نفائس المخطوطات العربية، بينها بعض الكتب الفارسية والتركية والسريانية واليونانية.
ولم يكن يكتفي بجمع الكتب بل أنفق سنوات طويلة في قراءتها، وضبط بعضها، وكتابة تعليقات واستدراكات عليها، وهو في ذلك يشبه العلامة أحمد تيمور فيما كان يصنعه بآلاف الكتب والمخطوطات التي كانت تضمها مكتبته العامرة.
المؤرخ والنسابة
وجاءت شهرة عيسى إسكندر المعلوف من معرفته الواسعة بالتاريخ والأنساب، وكتب في هذين الميدانين خير كتبه، ويأتي في مقدمة أعماله التاريخية كتابه “الأخبار المدونة في أنساب الأسر الشرقية” قضى في تأليفه سنوات طويلة يجمع مادته العلمية التي بلغت 14 مجلدا، وصدره بمقدمة طويلة عن علم الأنساب وأنواعه والنسابين ومؤلفاتهم، وبين العوامل التي أدت إلى الهجرات واندماج الأسر، ولم يرتب كتابه على أحرف المعجم مثلما فعل “السمعاني” في كتابه “الأنساب”، بل رتبه ترتيبا زمنيا، وختم الكتاب بمجلد كامل للفهارس، يمكن الباحث من الوصول إلى ما يريد من خلال أسماء الأسر بحسب أصولها وفروعها وبطونها وأفخاذها، أو من خلال أسماء البلدان والمدن والقرى التي سكنها أسلافهم وأعقابهم من بعدهم، أو من خلال أسماء المشهورين من العلماء والأدباء والأعيان.
وكان الدافع وراء تأليف هذا الكتاب الذي لا يزال مخطوطا حتى الآن هو اعتقاده بأن تاريخ الوطن هو تاريخ سكانه، ولا يقتصر على البارزين في العلوم والفنون والآداب أو الساسة والزعماء، بل يضم أيضا الذين اشتهروا “بالأخلاق الطيبة والأعمال الخطرة والصناعات والبسالة والإدارة وطيب الأحدوثة وحسن السلوك”.
وامتدت عنايته وشغفه بالتاريخ والحضارة إلى دراسة أحوال العرب قبل الإسلام وبعده، ودراسة الطب العربي، والأسر التي اشتهرت بالاشتغال به، ووضع عدة مؤلفاته عن تاريخ لبنان وأسره.
مع المجامع اللغوية
وحين أنشئت المجامع اللغوية في بعض بلدان العالم العربي للارتقاء باللغة كانت الأنظار تتجه إليه، فاختير في سنة (1337هـ = 1918م) عضوا في لجنة الترجمة والتأليف في دمشق التي ما لبثت أن تحولت إلى مجلس للمعارف، ولم تمض عدة شهور حتى تحول إلى “المجمع العلمي العربي”، وانتخب عضوا فيه، وشارك محمد كرد علي وعبد القادر المغربي وطاهر الجزائري في تأسيس هذا الصرح العلمي، وإنشاء المكتبة الظاهرية المعروفة، وإصدار مجلة المجمع العلمي العربي.
وخلال إقامته بدمشق ألقى إسكندر المعلوف عدة محاضرات بالغة الأهمية في قاعة المجمع العلمي، تدور كلها حول جوانب جديدة في التاريخ والحضارة رأى أن يثير انتباه الناس إليها، فحاضر في الصناعات الدمشقية القديمة، والتراسل بالحمام الزاجل، والزلازل في سوريا، وتأثير الشعر الأندلسي في الشعر الغربي.
ونظرا للجهود المضنية التي بذلها عيسى المعلوف في تلك الفترة اعتلت صحته، فآثر الرجوع على زحلة سنة (1344هـ = 1925م)، وانغمس في التأليف وتنظيم مكتبته العامرة.
وفي سنة (1346هـ = 1927م) قرر المجلس النيابي اللبناني إنشاء “المجمع العلمي اللبناني” للقيام بأمر اللغة العربية، وكان المعلوف من أهم مؤسسيه مع عبد الله البستاني الذي اختير رئيسا له، والشيخ مصطفى الغلاييني، ومحمد جميل بيهم، وبشارة الخوري الشاعر المعروف بالأخطل الصغير.
غير أن هذا المجمع الذي ضم فحول اللغة والأدب والتاريخ لم تمتد به الحياة سوى عامين بعد أن صدر قرار بإلغائه ووقف مخصصاته المالية بدعوى التوفير.
ولما صدر الرسوم الملكي في مصر بإنشاء مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة (1352هـ = 1933م) اختير المعلوف مع 20 علما من جهابذة اللغة والأدب؛ ليكون واحدا من المؤسسين، وكان مجمع اللغة العربية عالمي التكوين، لم تقتصر العضوية فيه على المصريين، بل اتسعت لتشمل العرب والمستشرقين.
وتخطت شهرته العالم العربي إلى بلاد المهجر، فاختير في سنة (1355هـ = 1936م) عضوا في “أكاديمية التاريخ والآداب” في مدينة “نيتوراي” عاصمة ولاية “ريودي جانيرو” البرازيلية، بناء على ترشيح من الشاعر البرازيلي “فنتوريلي سوبر ينيو”.
وفي سنة (1356هـ = 1937م) عين المعلوف عضوا في المؤتمر العام للأدب العربي في تونس، لكنه لم يتمكن من حضور جلساته، واكتفى بالمراسلة.
الإنتاج الفكري والعلمي
يعد المعلوف من أغزر العلماء العرب إنتاجا ومن أكثرهم تأليفا في الأدب والتاريخ وفي الوقت نفسه من أكبر الكتاب الذين لا يزال معظم إنتاجهم مخطوطا لم ير النور بعد وقد تجاوزت كتبه المخطوطة الخمسين، بعضها يقع في عدة مجلدات.
من أشهر كتبه المطبوعة
– دواني القطوف في تاريخ بني معلوف، وهو كتاب تاريخي اجتماعي يحتوي على الوقائع والعادات والأخلاق والشئون العمرانية وأصول الأسر الشرقية وفروعها ومشاهيرها. وهو يعد مرجعا في أحوال لبنان في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وطبع هذا الكتاب في المطبعة العثمانية في بعبدا سنة (1907م).
– تاريخ مدينة زحلة، وهو كتاب يبحث في أحوال زحلة الجغرافية قديمها وحديثها، ووقائعها وأسرها وعمرانها، وطبع سنة 1911م.
– تاريخ الأمير فخر الدين الثاني المعني، وهو حاكم لبنان من سنة 1590-1635م ونشر في سنة 1934م.
– الغرر التاريخية في الأسر اليازجية، ونشر في جزأين سنتي 1944-1945م.
– ترجمة الأمير سيف الدولة بن حمدان.
– الأسر العربية المشتهرة بالطب العربي وأشهر المخطوطات العربية الطبية، وهي محاضرة ألقيت في الجامعة الأمريكية سنة 1925م، ثم نشرت مطبوعة في كتاب سنة 1935م.
أشهر كتب ابن سعد المخطوطة
– الأخبار المدونة والمروية في أنساب الأسر الشرقية، وتقع في 14 مجلدا كبيرا.
– مغاوص الدرر في أدباء القرن التاسع عشر.
– لبنان واللبنانيون في مجلدين.
– نوابغ النساء، وهو في مجلد يتضمن أبحاثا عن المرأة وتراجم الأديبات في الشرق والغرب.
– المكتبة التاريخية والمؤرخون والفنون التاريخية ويقع في مجلدين.
– تاريخ سوريا المجوفة، وهو يعالج تاريخ وتراجم بلاد البقاع وبعلبك.
– نفائس المخطوطات، في 10 مجلدات، تتضمن وصف ما رآه من المخطوطات ومؤلفيها والنسخ الموجودة في المكتبات، وما طبع منها وما ترجم.
– التذكرة المعلوفية، في 10 مجلدات تتضمن بحوثا في التاريخ والآداب والفنون والاجتماع والعمران والآثار.
– تاريخ حضارة دمشق وآثارها. ويقع في مجلد واحد.
– تاريخ إنطاكية الديني والمدني. ويشمل على وصف إنطاكية ومدنها وقراها، وذكر لتواريخها الدينية والمدنية بطوائفها المختلفة.
وإلى جانب هذا النشاط التاريخي له عناية بالمعجمات لا تزال هي الأخرى مخطوطة، منها:
– معجم الألفاظ العربية العامة والدخيلة، وهو مرتب على حروف الهجاء، وله مقدمة في اللغة العامية وآدابها وفنونها، ونشرت مجلة الأديب جزءا منه في عامي 1944، 1945م.
– معجم المصطلحات العامة، يتناول فيه ما ورد في التواريخ والأخبار من الكلمات والعبارات التي لم تذكرها المعاجم، وشرحها وبين أصولها ومعانيها ومصطلحاتها.
– معجم تحليل الأشخاص، وهو يفسر فيه أسماء الأعلام الشخصية وأصولها ومعانيها من اللغات الشرقية والغربية، ونشر قسم منه في مجلة المشرق في السنوات 1964م، 1965، 1966م.
وللمعلوف مقالات وبحوث عديدة نشرها في أمهات الصحف والمجلات مثل الهلال والمقتطف والضياء ومجلة سركيس، ومجلة المجمع العلمي العربي، ومجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وقد جمعت كثير من هذه المقالات في 17 مجلدا بعد أن اقتطعت من الصحف والمجلات.
الوفاة
رزق الله المعلوف ما يندر أن يجتمع لشخص واحد، فكان شاعرا ناثرا بليغا، ومحاضرا بارعا وخطيبا مرتجلا، ومؤلفا غزير الإنتاج، متنوع الاتجاهات، وفوق ذلك رزقه الله بأولاد نبغ 3 منهم في الشعر وأغنوا الأدب العربي والمهجري بشعرهم الرفيع، وهم: شفيق المعلوف، وفوزي المعلوف، ورياض المعلوف.
وفي أخريات عمره لازمه المرض وكان مصابا بالربو، فلزم منزله منذ أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، وعكف على مكتبته قارئا وعلى أوراقه كاتبا، يمد المجلات والصحف بفيض من مقالاته، ويضع المؤلفات في التاريخ والأنساب حتى وافاه الأجل في فجر يوم (23 من ذي القعدة 1375هـ = 2 من يوليو 1956م) عن تسعين عاما، ففقد به الأدب العربي عملاقا عز نظيره، وخسرت به المعرفة شيخا رفيع المكانة والعروبة.
أحمد تمام5>
مصادر الدراسة:5>
مجموعة من الباحثين بإشراف الدكتور مسعود ضاهر – مؤرخون أعلام من لبنان – دار النضال – بيروت – 1997م.
الفيكونت فيليب دي طرازي – تاريخ الصحافة العربية – دار صادر – بيروت – طبعة مصورة عن المطبعة الأدبية سنة 1913م.
محمد مهدي علام – المجمعيون في خمسين عاما – الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية – القاهرة 1406هـ = 1986م.
منصور فهمي – كلمة في تأبين عيسى إسكندر المعلوف – محاضر جلسات المجمع في الدورة الثالثة والعشرين – القاهرة – 1402هـ = 1982م.
حامد عبد القادر – كلمة عن عيسى إسكندر المعلوف – محاضر جلساته المجمع في الدورة العشرين – القاهرة – 1398هـ = 1978م).