الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
يقول الأستاذ الدكتور محمد سليمان الأشقرأستاذ الشريعة بجامعة الكويت
إن الأحاديث المذكورة نوعان رئيسيان: أولهما: ما يعتبر
شرعا يتبع، ويعمل به، كسائر الأحاديث الواردة عنه ـ ﷺ ـ في شؤون الاعتقادات والعبادات والمعاملات والأحكام المختلفة التكليفية والوضعية.
والثاني: مالا يعتبر شرعا، ولا يلزم العمل به، وسبيله سبيل الشؤون الدنيوية ،يعتبر قول النبي ـ ﷺ ـ فيها كقول سائر الناس
النوع الأول وهو ما ورد من الأحاديث في الطب ويعتبر شرعا يتبع: ويشمل فئات: ـ
الفئة الأولى: أ- ما كان من الأحاديث الواردة في حكم أصل العمل بالطب والمعالجات وتناول الأدوية. فهذا النوع شرع يتبع، لأن الطب فعل من أفعال المكلفين، والشرع جاء ليحكم أفعال المكلفين ببيان ما يوجبه الله منها وما يحرمه، أو يستحبه أو يكرهه، أو يجيزه بلا تفضيل لفعله على تركه ولا عكسه، وهي الأحكام التكليفية الخمسة: الواجب، والمحرم، والمستحب، والمكروه، والمباح، ولا يخرج عنها أي فعل من أفعال المكلفين.
وقد وردت في أصل العمل بالطب أحاديث منها: حديث الأمر بالتداوي، وأن الله تعالى ما أنزل داء إلا أنزل له دواء، غير داء واحد، اختلفت الأحاديث في تعيينه، ففي بعضها: هو الهرم، وفي بعضها: هو الموت. فمن ذلك حديث أسامة بن شريك أن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: ” يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد: الهرم “. رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة. وحديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: ” إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا السام، وهو الموت ” رواه الحاكم. وبمعناه من حيث الجملة روى من طريق أنس ، وأبي هريرة، وأم الدرداء ، وابن مسعود ، وجابر. ورواه البخاري من حديث أبي هربرة مرفوعا مختصرا هكذا ” ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ” وفي صحيح مسلم من حديث جابر ” لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى ” وفي الموطأ مرسلا ” أن النبي ـ ﷺ ـ قال لرجل: أيكما أطب ؟ قالا: يا رسول الله، وفي الطب خير؟ فقال: أنزل الداء الذي أنزل الدواء ” .
قال ابن حجر: في هذه الأحاديث الإشارة إلى أن الشفاء متوقف على الإصابة بإذن الله، وفيها الإشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد ، وفيها إثبات الأسباب، وأن العمل بالطب لا ينافي التوكل على الله، لقوله ” بإذن الله ” والتداوي لا ينافي التوكل كما لا تنافيه سائر الأسباب، كدفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكتجنب المهلكات، وكالدعاء بطلب العافية، ودفع المضار، ونحو ذلك.
وقد أخرج ابن ماجه حديث أبي خزامة عن أبيه قال ” قلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، هل يرد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله “. ومثلها الأحاديث الواردة التي تفيد أن النبي ـ ﷺ ـ كان إذا مرض يتداوى، وربما سأل الأطباء عن دواء مرضه، وكانت وفود العرب تصف له الأدوية، فكانت عائشة رضي الله عنها تعالج له تلك الأدوية أي تمزجها وتهيئها، ومن ثم كان لها علم بالطب. وكان إذا مرض غيره وصف له دواء، وربما أرشده إلى طبيب ليداويه، فكل ذلك يشير إلى أن الطب من حيث الأصل مشروع، والتداوي مطلوب شرعا، فليس هو حراما ، ولا يخالف عقيدة الإسلام ولا شريعته. وذلك واضح من القواعد الشرعية العامة أيضا، فإن الشريعة تأمر بالسعي في أسباب المصالح، ودرء المفاسد، وتوقي الأضرار والمهلكات الفئة الثانية: أحاديث فيها توجيهات شرعية متعلقة بعملية التداوي وشؤون المرضى : أ- من ذلك حديث البخاري عن الصحابية ربيع بنت معوذ ، قالت ” كنا نغزو مع رسول الله-حب نسقي القوم، ونخدمهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة ” وفي رواية ” ونداوى الجرحى “. ففيه جواز مداواة المرأة للجرحى من الرجال. قال ابن حجر : يجوز عند الضرورة، وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجس باليد وغير ذلك . وهذا الذي قاله عندي فيه نظر، فليس في الحديث إشارة إلى أي ضرورة، بل هي الحاجة إلى العلاج، والحاجة أخف من الضرورة. وقد كان يمكن تفريغ بعض الرجال لذلك العمل، لو كان في الأصل محرما.
وأيضا ما ورد أن رفيدة الأسلمية كان لها خيمة بالمسجد تداوي فيها الجرحى، ينفي وجوب الاقتصار على قدر الضرورة.
ب- ومنها أحاديث الأمر بعيادة المريض ، وأن النبي ـ ﷺ ـ كان يعودهم، حتى ” إن غلاما يهوديا كان يخدم النبي ـ ﷺ ـ ، فمرض، فأتاه النبي ـ ﷺ ـ يعوده فقال: أسلم. فأسلم ” وكان إذا عاد المريض ربما وضع يده على جبهته، ومسح على صدره وبطنه، ودعا له. نقل البخاري أنه ـ ﷺ ـ فعل ذلك عندما زار سعدا. وربما رقى المريض. ففي صحيح البخاري من حديث عائشة: ” أن النبي ـ ﷺ ـ كان إذا أتى مريضا، أو أتى إليه به قال: “أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما ”
ج – ومنها حديث النهي عن التداوي بالمحرمات: كحديث أنه ـ ﷺ ـ سئل عن الخمر يتداوى بها فقال: ” إنها ليست بدواء ولكنها داء ” رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي . وكحديث: ” أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ” رواه عبد الرزاق والطبراني مرفوعا. ورواه الحاكم عن ابن مسعود موقوفا. وكحديث ” إن الله جعل لكل داء دواء، فتداووا ، ولا تتداووا بحرام ” فهذه الأحاديث هي من قبيل الشرع، لأنه ـ ﷺ ـ ناط الحكم بمعنى شرعي، وهو التحريم، فما كان من المواد محرما لم يجز التداوي به. ولا يعني هذا أنه لا يجوز استعماله عند الضرورة، مع عدم وجود دواء آخر غير الدواء المحرم، بل إن الضرورة تبيح المحظور، فيعود حلالا لذلك المضطر، لقوله تعالى: ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) فإذا عاد حلالا لم يكن داخلا في قوله (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ) ومن هذا القبيل التداوي بالنجاسات. وفي كل من النوعين خلاف يعرف بالرجوع إلى كتب الفقه.
الفئة الثالثة: أحاديث أبطلت أنواعا من المعالجات، كانت سائدة في الجاهلية، تنافي صحة الاعتقاد الإيماني، لأنها ليست أسبابا حقيقية للشفاء: أ- من ذلك ما و رد أن النبي ـ ﷺ ـ ” دخل عليه رجل وفي يده حلقة من صفر. فقال ما هذا؟ فقال: من الواهنة. فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، وأنت لو مت وأنت ترى (أي تعتقد) أنها تنفعك لمت على غير الفطرة ” رواه أحمد والطبراني من حديث عمران بن حصين. ورواه الطبري. (الواهنة ريح تأخذ في المنكبين عند الكبر. وقيل مرض يأخذ في عضد الرجل. كذا في لسان العرب).
ب- ومنها ” أن عبد الله بن عكيم الجهني الصحابي رضي الله عنه خرج به خراج، فقيل له. ألا تعلق عليه خرزا؟ فقال: لو علمت أن نفسي تكون فيه ما علقته. ثم قال: إن نبي الله ـ ﷺ ـ نهانا عنه ” رواه ابن جرير وصححه .
ج- ومنها قوله ” إن الرقى والتمائم والتولة شرك ” رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديث ابن مسعود. ومثله حديث: ” من علق تميمة فقد أشرك ” والمراد بالرقى الرقى المجهولة، وما كانت الاستعاذة فيها بغير الله تعالى، بخلاف الرقية بالفاتحة والمعوذتين والأدعية المشروعة. والمراد بالتمائم الأحجبة التي تعلق على الأطفال والبيوت والسيارات ونحو ذلك، يزعم الجهلة أنها ترد العين، أو تمنع المرض والحوادث. والتولة شيء كانوا يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها.
الفئة الرابعة: أحاديث أمرت بأدوية ومعالجات ربطتها بأحكام تعبدية وشعائر دينية. أ- من ذلك حديث أحمد والنسائي عن عائشة مرفوعا: ” السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ” وفي صحيحي البخاري أيضا ” لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة “.
ب- ومنها أحاديث الاسترقاء ، منها ما في صحيح البخاري من حديث عائشة قالت: كان رسوله الله ـ ﷺ ـ إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد والمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به.
ج- ومنها أحاديث الدعاء للمريض ، كقوله ـ ﷺ ـ ” اللهم رب الناس، مذهب البأس ، اشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما “.
د- ومنها حديث ” داووا مرضاكم بالصدقة ” .
الفئة الخامسة: أحاديث مبنية على النص القرآني: أ- فمن ذلك أحاديث التداوي بالعسل، منها حديث البخاري عن جابر بن عبد الله أن النبي ـ ﷺ ـ قال ” إن كان في شيء ، من أدويتكم خير ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء. ولا أحب أن أكتوي “. وإنما قلنا إنها حجة لكونها أخذا بنص القرآن: ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ).
ب – ومنها ما روى عمر بن الخطاب عند أحمد والترمذي والحاكم أن النبي ـ ﷺ ـ قال ” كلو! الزيت وادهنوا به، فإنه من شجرة مباركة ” فإنه ينظر إلى قوله تعالى: ( وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ) .
الفئة السادسة: أحاديث فيها ذكر أدوية أو معالجات يخبر النبي ـ ﷺ ـ أنه علمها بطريق الوحي ، أو إخبار الملائكة، أو أن الله يحبها، أو يكرهها، و نحو ذلك. وإنما كان هذ ا النوع من الأدوية صحيحا ومشروعا لأنه منسوب إلى الله تعالى أو ملائكته. وقد تقدم قول النبي ـ ﷺ ـ في حديث تأبير النخل ” ما حدثتكم عن الله فخذوا به، وما حدثتكم من رأي فإنما أنا بشر أخطىء وأصيب ” فهذه الفئة منضمة إلى ما حدثنا به النبي ـ ﷺ ـ عن الله تعالى من سائر أمور الدين، فلزمنا العمل به، سواء كان نهيا، فيمنع التداوي به، أو أمرا فيكون دواء مقبولا.
أ- فمن ذلك أحاديث الأمر بالتداوي وأصل العمل بالطب كما تقدم في الفئة الأولى لأن فيه ” أن الله ما أنزل من داء إلا ” أنزل له شفاء ” فأسند ذلك إلى الله تعالى، ومنها أحاديث النهي عن التداوي بالمحرمات كما تقدم في الفئة الثانية ، كما في رواية ” إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم “.
ب- ومنها ، حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود والحاكم أن النبي ـ ﷺ ـ قال: ” إن كان في شيء مما تتداوون به خير فالحجامة ” في رواية ابن مسعود أنه قال: ” ما مررت ليلة أسري بي بملأ من الملائكة إلا قالوا: يا محمد بشر أمتك بالحجامة ” رواها الترمذي. وروى مثلها أحمد والحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا. وأحاديث الأمر بالحجامة كثيرة ، ولكن ليس في شيء منها إسناد الخبر عنها إلى الملائكة، إلا رواية ابن مسعود، فإن صحت رواية ابن مسعود، وإلا تكون أحاديث الحجامة كلها من النوع الثاني، وهو ما لا حجة فيه.
ويشترط في هذه الأحاديث التي وردت في هذه الفئة كي تكون حجة في باب الطب أن يكون الحديث على درجة عالية من الصحة، لأن تطبيقه على الأجسام الإنسانية قد يكون فيه ضرر كبير، فإن وقع الضرر فلا يكون للطبيب عذر أن يتبين كون العلاج مبنيا على حديث صحيح ظاهرا لكنه في الحقيقة موهوم أو مكذوب .
النوع الثاني وهو مالا حجة فيه من أحاديث الطب وهو سائر الأحاديث النبوية الواردة في الطب والعلاج ، وليس فيها ما يشعر أنها من قبل الله تعالى، أو أنها من قبيل الشرع، ونحن نذكر جملة من تلك الأحاديث على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر: ا- فمنها حديث: ” أصل كل داء البردة ” رواه ابن السني وأبو نعيم في ” الطب ” والدار قطني في ” العلاج “، من حديث علي وأبي سعيد وأنس بن مالك. البردة : برودة المعدة.
2- ومنها حديث مقدام بن معد يكرب عند أحمد والترمذي مرفوعا “ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وتلث لنفسه. ” ومنها حديث…. عند الإمام أحمد مرفوعا ” كلوا الرمان بشحمه فإنه دباغ المعدة ”
3- ومنها أحاديث الحجامة، كما تقدم في الفئة السادسة من النوع الأول، إن لم يصح الحديث بأن الملائكة أمروا النبي ـ ﷺ ـ بها . فمنها قوله ـ ﷺ ـ ” إذا اشتد الحر فاستعينوا بالحجامة … ” رواه الحاكم الحاكم من حديث أنس .
4- ومنها حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود مرفوعا ” إن كان في شيء مما تتداوون به خير فالحجامة ” . في أحاديث مختلفة جمعها صاحب كنز العمال ، أن الحجامة تذهب الدم ، وتجلو البصر، وتجف الصلب، وتنفع من وجع الرأس و الأضراس ، والنعاس، والبرص ، والجنون.
وروى عبد الرزاق من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن يهودية قدمت للنبي ـ ﷺ ـ في خيبر طعاما مسموماً فأكل منه ، وأكل منه بعض اصحابه . وفي القصة أن الوحي أخبره بالسم ن فاحتجم النبي ـ ﷺ ـ ثلاثة على الكاهل ، وأمر أصحابه أن يحتجموا ، فاحتجموا فمات بعضهم .
5 – ومنها حديث ابن عباس عند الترمذي والحاكم ، وحديث ابن مسعود عن الترمذي وأبي نعيم في الطب ” إن خير ما تداويتم به اللدود والسعوط والحجامة والمشي ، وخير ما اكتحلتم به الإثمد ، فإنه يجلو البصر وينبت الشعر ” . اللدود : هو الدواء الذي يسقاه المريض من أحد جانبي الفم . والمشي : الإسهال . والمراد أخذ المسهل .
6- ومنها حديث أنس عند مالك وأحمد مرفوعا ” أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري ” . (القسط البحري : عود يجاء به من الهند ، يتبخر به النساء والأطفال. وقيل هو العود المعروف (كذا في لسان العرب) أي هو عود الطيب الهندي ).
7- ومنها. حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا عند أحمد والبخاري ومسلم وأبي داود ” من تصبح كل يوم بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر. ” وحديث عائشة مرفوعا عند مسلم ” إن في عجوة العالية شفاء ، وإنها ترياق أول البكرة .” (العالية القرى والحوائط التي بجوار المدينة المنورة من جهتها العليا من جهة نجد ، والسافلة ما كان من أسفلها من قبل البحر ، والترياق دواء السم ) . وحديث عائشة مرفوعا أيضا عند ابن عدي وأبي نعيم في ” لطب ” : ” ينفع من الجذام أن تأخذ سبع ثمرات من عجوة المدينة كل يوم ، تفعل ذلك سبعة أيام ” .
8 – ومنها حديث سعد مرفوعا عند أبي داود ” إنك رجل مقؤود ، ائت الحارث ابن كلدة أخا ثقيف ، فإنه رجل يتطبب ، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة ، فليجأهن بنواهن ، ثم ليدلك بهن ” .
9 – ومنها حديث ابن عباس مرفوعا ، عند أحمد والبخاري ومسلم ” الحمى من فيح جهنم فابردوها بالماء ” وروى مثله عن ابن عمر وعائشة ورافع بن خديج وأسماء بنت أبي بكر . 10 – وحديث عائشة أنه ـ ﷺ ـ في مرض موته ” صب عليه من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن” .
فهذه الأحاديث المذكورة في هذا النوع الثاني، ونحوها من الأحاديث التي تدخل في صلب الأمور الطبية والعلاجية، لا ينبغي أن تؤخذ حجة الطب والعلاج ، بل مرجع ذلك إلى أهل الطب ، فهم أهل الاختصاص في ذلك، وقد يتبين في شيء من هذه الأحاديث الخطأ من الناحية الطبية الصرفة، وكما قال القاضي عياض: ليست في ذلك محطة ولا نقيصة، لأنها أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجعلها همة وشغل بها، ولذا يجوز على النبي ـ ﷺ ـ فيها ما ذكرنا- يعني الخطأ والصواب
إثبات فاعلية هذه الأدوية والمعالجات: إنه وإن قلنا في أحاديث هذا النوع الثاني وأمثالها إنها ليست حجة في الأمور الطبية، فإنه لا ينبغي مع ذلك إطراحها بالكلية ، بل ينبغي أن تثير احتمالا بالصحة، كسائر الأقوال الطبية المأثورة عن أهل التجارب والمعرفة من غير أهل الاختصاص، بل هي أولى منها ، للشبهة في أنها قد تكون مبنية على الوحي، ولو كانت شبهة ضعيفة، ولذا أرى أن تخضع للتحليل وللتجارب على الأسس المتعارفة عند أهل الاختصاص. فإن و جدت صالحة أدخلت حيز العمل ، و يكون التحليل والتجريب هو الحجة في صلاحيتها، دون كونها مما ورد عن النبي ـ ﷺ ـ، وخاصة وأن الكثير منها لا يثبت من حيث الرواية بطريق القطع أو شبهه على الوجه الذي تقدم بيانه في آخر الكلام على أحاديث النوع الأول، فالحاجة إلى إثبات صلاحيتها أو عددها قائمة أيضا لهذا المعنى .
وإن لم تثبت صلاحيتها أو ثبت ضررها فلا مانع من بيان ذلك للجمهور لئلا يستمر العمل بها.
تناول الأدوية المأثورة على أساس الاعتقاد الإيماني : إن ابن: خلدون رحمه الله بعد كلامه من أن الطب المنقول في الشرعيات عن النبي ـ ﷺ ـ لا ينبغي أن يحمل على أنه مشروع، وأنه ليس هناك ما يدل على ذلك ، تابع كلامه قائلا ” إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني ، فيكون له أثر عظيم في النفع ، وليس ذلك في الطب المزاجي ، وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية ” . وقال ابن ، حجر ” استعمال كل ما وردت به السنة بصدق ينتفع به من يستعمله، وبدفع الله عنه الضرر بنيته، والعكس بالعكس ” ولعله يعني بالعكس أن من استعمل الأدوية المذكورة مع عدم تصديق بها ولا يحصل بفائدتها لا يحصل له انتفاع بها.
وفي بعض كلام ابن حجر في فتح الباري تشبيه ذلك بالشفاء القرآني لما في الصدور، كما قال الله تعالى ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) أي. فكما أن مواعظ القرآن لا ينتفع بها إلا من كان مؤمنا بالقرآن وهدايته، فكذلك الأدوية النبوية للأجسام لا ينتفع بها إلا من كان مؤمنا بنفعها لصدورها عن النبي ـ ﷺ ـ. والذي نقوله أنه لا شك أن من فضائل النبي ـ ﷺ ـ أنه يجوز التبرك بآثاره، والاستشفاء بها، فقد نقل أنه ـ ﷺ ـ دعا بقدح فيه ماء ، فغسل يديه ووجهه ومج فيه، ثم قال لأبي موسى وبلال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما. وتوضأ وصب على جابر.
ثبت ذلك في صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث أسماء بنت أبي بكر. وحنك بعض صبيان الأنصار بالتمر. وكل هذا من خصائصه ـ ﷺ ـ فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يتبركوا بأفاضلهم. وليس في الأمة بعد نبيها أفضل من أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، فلم ينقل عن أحد من الصحابة، ولو حادثة واحدة، أنهم تبركوا بهؤلاء الأولياء الأربعة أو غيرهم فهذا إجماع منهم على الترك . إذا علم هذا ، فهل يكون ما ورد من النبي ـ ﷺ ـ من المعالجات الطبية هو من جنس آثاره وملابسه ونحو ذلك ، حتى يستشفى بها ؟ يبدو أن في هذا نظرا ، فإنه لما ثبت أن النبي ـ ﷺ ـ نبه على أن ما يصدر عنه في مثل ذلك هو مجرد رأي يراه ، وأنه بشر يخطيء ويصيب ، وأن الناس يأخذون من كلامه في الشؤون الدنيوية بما حدث به عن الله تعالى ، وأما ما حدث به من قبل نفسه فهم أعلم بدنياهم ، فكيف يتساوى ما نبه على عدم نفعه من الشؤون التي قالها من عند نفسه ، مع ما أذن فيه من التبرك بآثاره ـ ﷺ ـ. ثم إن الصحابة الذين تركوا تأبير النخل إنما تركوه تصديقا لرسول الله : ـ ﷺ ـ وإيمانا به ، وعملا بقوله ، ومع ذلك خرج ثمره ذلك العام شيصا ، أي تالفا غير صالح، ولم يأت إيمانهم وتصديقهم كافيا ليصلح به الثمر، لأنه ليس في الحقيقة سببا لذلك . ولذلك فإن النبي ـ ﷺ ـ صحح لهم اعتقادهم ، وأعلمهم أنهم ما كان لهم أن يأخذوا بقوله في ذلك، فإن ذلك من شؤون الدنيا وهم بها أعلم. فكذلك هذه الأمور الطبية الصرفة ، هي من صميم الأمور الدنيوية ، لا يكفي فيه مجرد الإيمان- التصديق مع كونها ليست أسبابا في حقيقة الأمر . وأما القياس على الشفاء القرآني بالمواعظ فهو قياس فاسد ، فإن مواعظ القرآن من لم يصدق بها لا يستمع إليها ، وإن استمع إليها فإنه لا يقبلها ولا يعمل بها، فكيف تنفعه؟ كالدواء المادي إذا لم يتناوله المريض لا ينفعه. أما إن تناوله فإن تأثيره في الأجسام لا يختلف بالتصديق وعدمه.
والله أعلم
أ.د / محمد سليمان الأشقر