يتعرض كثير من الناس في أنحاء متفرقة من العالم لكوارث طبيعية كالمجاعات والفيضانات والأمراض الوبائية، أو مصائب إنسانية كفقدان الوظيفة بسبب العجز أو الاستبعاد من العمل نتيجة سياسة الخصخصة، ويؤدي ذلك إلى انقطاع مصادر رزقهم وتدهور مستوى معيشتهم، وربما فقدانهم المأوى والمأكل والملبس والرعاية الصحية، ولا يكون بمقدورهم دفع الضرر عن أنفسهم دون مساعدة الآخرين.. هذه الظواهر في جملتها تشكل أهم الدواعي التي تبرر حاجة الإنسان لتأمين حياته لمواجهة ظروف كارثية، أو عندما تعترضه مشاكل في تدبير شئون معيشته لسبب طارئ أو مستديم.

وعليه يمكن تعريف الأمن الاقتصادي ليشمل تدابير الحماية والضمان التي تؤهل الإنسان للحصول على احتياجاته الأساسية من المأكل والمسكن والملبس والعلاج خاصة في الظروف التي يواجه فيها كارثة طبيعية أو ضائقة اقتصادية وضمان الحد الأدنى لمستوى المعيشة، وهذه التدابير الاقتصادية هي التي تصب في النهاية في خلق “الأمان الاقتصادي للناس” الذي ينطوي على بُعد نفسي للإنسان إضافة للبعد المادي الذي يوفره الأمن الاقتصادي.

وأكثر الفئات الاجتماعية حاجة للأمن الاقتصادي هم الذين يبلغون الشيخوخة، والعجزة، والمعاقون، والأطفال، والأشخاص الذين يعانون من وطأة الفقر المدقع، والعاطلون عن العمل بسبب من الأسباب الخارجة عن إرادتهم.

ومن المنظور الاقتصادي لا يمكن أن يتصف أي اقتصاد بالفعالية وبالإنسانية ما لم تتوفر فيه تدابير وإجراءات كافية للأمن الاقتصادي ونظم جيدة للضمان الاجتماعي؛ حيث يكون بمقدور الناس أن يستجيبوا لتحديات الحياة، ويتكيفوا مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تحيط بهم، ويدرءوا عن أنفسهم خطر الكوارث والآفات، ويتمكنوا من تنمية إمكاناتهم البشرية لتوفير حياة أفضل وسبل معيشة أكثر أمانا واستقرارا.

كيف نلبي الأمن؟

لكن السؤال المطروح هو كيف نلبي الحاجة للأمن الاقتصادي للناس؟ في الحقيقة لا يمكن أن يتحقق الأمن الاقتصادي والضمان الاجتماعي دون النجاح في تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة من خلال:

– تحسين وزيادة مستويات المعيشة والارتقاء بنوعية حياة الناس.

– توفير فرص العمل وضمان المساواة في الوصول إلى الوظائف والدخول.

– إيجاد نظم وشبكات فعالة للضمان الاقتصادي والتكافل الاجتماعي.

– تنمية مهارات قوة العمل بالتدريب والتأهيل المستمر حتى تستطيع هذه القوة مواكبة أي تطور في اقتصاد الدولة، ولعلنا كم رأينا تزايد البطالة في اقتصاديات في دول العالم الثالث حينما تحولت إلى اقتصاديات السوق، حيث إن تدني مهارات العمال المسرحين من القطاع العام لم تسعفهم في دخول سوق العمل مرة أخرى. وتحقيق هذه العناصر الأساسية يستدعي تضافرا من قبل ثلاث جهات هي: الحكومة، والقطاع الأهلي، والأفراد.

دور الحكومات

من المهم أن تقوم الحكومات برعاية وتشجيع التأهيل المهني للسكان، وذلك من أجل زيادة إنتاجية ومهارة قوة العمل. وتجتهد في وضع السياسات المناسبة للوصول إلى تأمين وحماية حياة السكان. وعليه لا بد من سياسات للعمالة تيسر للجميع إمكانية الوصول إلى الوظائف والدخول، وذلك بغرض الحد من الفقر وعدم التساوي، ومن أجل الاستفادة التامة من القدرات البشرية في مجال خلق فرص الدخل والثروة.

ويلاحظ في العديد من اقتصاديات الدول الإسلامية وجود مجموعات من العمال شديدة التأثر بعدم المساواة في سوق العمل، مثل: العمال الأكبر سنا الذين يفقدون وظائفهم المنتظمة والمحمية، كثيرا ما يستبعدون مبكرا من العمل، أو ينتهي بهم الأمر في أعمال غير مستقرة. ويواجه العمال المعوقون بالمثل مشاكل خطيرة.

ومن الجوانب التي يجب أن توليها الحكومات اهتماما في إطار توفير الأمن الاقتصادي: تقديم قروض متناهية الصغر للعمال الفقراء، وإعادة تأهيلهم المهني، وكذلك دعم المشاريع الصغيرة والحرفية المحلية الطابع التي تفيد الفئات الضعيفة والفقيرة في المجتمع.

كما أن القطاع التعليمي يجب ألا يكون منفصلا عن القطاع الاقتصادي، فمخرجات العملية التعليمية يجب أن تصب في مصلحة الأنشطة الاقتصادية، وهذا يوجب على الجامعات ومعاهد التعليم العالي والتعليم المهني والتقني أن توثق صلاتها بشركات القطاع الخاص وباتحادات العمل من خلال تقديم خدمات في مجال الأبحاث والتطوير والخدمات المختبرية لتحسين جودة الإنتاج.

ومما يؤسف له أن أكثر الجامعات شهرة في العالمين العربي والإسلامي هي تلك الجامعات التي ترتبط بجامعات أجنبية وتؤهل طلابها المتفوقين للهجرة خارج الوطن. وبذلك تفقد بلداننا قدرات بشرية ماهرة وذات كفاءة علمية وتقنية عالية، الأمر الذي يساهم في انخفاض الإنتاجية وضعف الأداء الاقتصادي العام؛ وهو ما يؤدي بدوره إلى عدم خلق فرص العمل الكافية، ويزيد بلداننا فقرا. وهذه حلقة مفرغة يجب التغلب عليها للخروج من حالة التهميش والضعف.

من ناحية أخرى يجب أن يزال عدم مواءمة مخرجات التعليم مع حاجة سوق العمل. ففي الوقت الذي تتزايد فيه أعداد الخريجين من مختلف مراحل التعليم في البلاد العربية والإسلامية وبالتالي زيادة عدد الداخلين الجدد لسوق العمل تتفاقم مشكلات البطالة.

وقد أشارت الدراسات الإحصائية إلى وجود خلل في طبيعة التخصصات لمعظم هؤلاء الخريجين وعدم حاجة الاقتصاد لها؛ وهو ما أدى إلى زيادة في نسب المتعطلين عن العمل وهو ما يستدعي إعادة النظر في السياسات التعليمية في العديد من الدول العربية والإسلامية لتتواءم مخرجاتها مع حاجة سوق العمل وقدرته الاستيعابية.

المجتمع قبل الخصخصة

أما سياسات الإصلاح الاقتصادي وبرامج الخصخصة المدعومة من صندوق النقد الدولي، والتي نفذتها العديد من الدول العربية والإسلامية للتغلب على مشكلاتها الاقتصادية، فقد أدت إلى تقليص سياسة التوظيف في قطاع الحكومة، والاتجاه نحو إعادة هيكلة مؤسسات وشركات القطاع العام؛ وهو ما أدى إلى تراجع قدرة القطاع العام على استيعاب موظفين جدد في الوقت الذي بدأ فيه بالاستغناء عن أعداد كبيرة من الموظفين، وإحالة العديد منهم إلى التقاعد ودفعهم لتقديم استقالاتهم من الوظائف الحكومية من خلال تقديم حوافز مالية.

إنه لا يمكن التضحية بالأهداف الاجتماعية نظير الوصول إلى توازنات مالية في الاقتصاد الكلي، كما لا يمكن تطبيق سياسات إصلاحية دون وضع أي اعتبار لخصوصية الاقتصاد القومي ومراعاة طبيعته ومصالحه العامة.

وهناك جملة من الإجراءات يمكن أن تقوم بها الحكومات لتوفير الأمن الاقتصادي للناس وتتمثل في تشجيع مشاريع التشغيل الذاتي من خلال صناديق تستهدف تحقيق التنمية المحلية. وكذلك توجيه جهود التدريب المهني والتشغيل من خلال تأمين التسهيلات التدريبية للعمالة المحلية ومتابعة تشغيلها بعد اكتسابها المهارات المطلوبة. وتحديد الحد الأدنى للأجور في الدولة بحيث يلبي احتياجات الحياة الأساسية.

كما يجب أن تشجع الحكومة المصارف والمؤسسات المالية على تقديم قروض ميسرة للمواطنين للقيام بالمشاريع الصغيرة، وفي الوقت نفسه تشجيع الاستثمار وجذب رءوس الأموال الأجنبية للاستثمار مما يُوجِد فرص عمل جديدة ويؤدي إلى تنشيط عجلة الاقتصاد المحلي.

بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يقوم نظام المساعدات الاجتماعية الذي ترعاه الدولة على فلسفة تنطلق من ضرورة رعاية الأفراد، والعمل على تأهيلهم وإعادتهم عاملين منتجين يسهمون في النشاط الاجتماعي والاقتصادي، ويشمل ذلك رعاية الطفولة والأمومة، وحماية القصَّر وغيرهم من العاجزين عن الرعاية بسبب المرض أو العجز أو الشيخوخة أو البطالة الإجبارية.

دور الشركات والقطاع الأهلي

يتحدد دور القطاع الخاص ممثلا في الشركات والمصانع والمؤسسات التجارية والصناعية والخدمية من خلال دورها في تنشيط عمليات الإنتاج والتصدير وزيادة الاستثمارات؛ وهو ما يؤدي إلى إيجاد فرص عمل جديدة بما يسهم في دعم الأمن الاقتصادي للمجتمع.

أما الهيئات التطوعية والخيرية والمنظمات غير الحكومية فلها دور بارز ما تزال تقوم به في توفير الحماية والأمن الاقتصادي لفئات عديدة من المجتمع، فقد لعبت العديد من المنظمات غير الحكومية، وصناديق الإقراض الصغيرة دورا في تشجيع المشاريع الفردية الصغيرة وتقديم الحوافز للعاملين في هذا المجال.

وقد أثبت الواقع نجاح هذه المؤسسات في مساعدة الأسر الفقيرة والمحتاجة وساهمت بفعالية في تقليل دفع الأطفال للعمل في سن مبكرة أو الحد من ظاهرة التسول والتشرد وغيرها من الظواهر السالبة التي أفرزتها المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة والمزمنة.

وفي سياق دور القطاع الخاص تقوم النقابات المهنية كاتحادات العمال مثلا بدور لا يمكن إنكاره. ويتحدد دورها وبشكل خاص في زيادة مشاريع التدريب والتأهيل للعمالة المحلية، ومتابعة تشغيل هذه العمالة في المصانع والشركات التي تطلب عمالا ومهارات محددة، والمطالبة بحقوق العمال وزيادة الامتيازات التي يحصلون عليها، وضمان الحد الأدنى للأجور وزيادة شبكات الضمان الاجتماعي وزيادة تعويضات إصابات العمل.

التأمين التكافلي والأفراد

من المداخل الأخرى لتحقيق الأمن الاقتصادي ما يعرف في المجتمعات الصناعية بالتأمين وهو يشكل صورة لنظام الضمان الاجتماعي المعاصر، كان لنمو الوعي التأميني في الدول المتقدمة الدور الكبير في اتساع دائرة نشاط التأمين وتعدد مجالاته وتنوع طرقه، وتقوم أكثر نظم التأمين على تلبية احتياجات الأفراد والمنشآت بتعويضهم عن الخسائر التي تلحق بهم وفي دفع حركة النشاط الاقتصادي ككل بفضل الأموال التي تضخ في سوق التأمين.

إن مبدأ التأمين التكافلي يساهم في تقليل الخسائر الناتجة عن تحقق المخاطر التي يمكن أن تواجه الأفراد والشركات دون أن يتعارض ذلك مع أحكام الشريعة. حيث إن هذا المبدأ يتماشى مع مبادئ التعاون والمشاركة في المجتمع لتحمل المسئوليات.

ويختلف التأمين التكافلي عن التأمين التقليد، الذي يحتوي على عناصر غير مشروعة ضمن عقد التأمين كالغرر والمقامرة، وذلك نتيجة لوجود بنود غير واضحة ووجود الفوائد في الأنشطة الاستثمارية التي بدورها تتنافى مع أحكام الشريعة الإسلامية الغراء. بينما يوفر التأمين التكافلي طريقة بديلة للتأمين التقليدي، وقام مجمع الفقه الإسلامي في مكة في عام 1985 باعتماد النظام التكافلي كنظام تعاوني متوافق مع الشريعة الإسلامية.

وأسست أول شركة تكافل عام 1979، وهي شركة التأمين الإسلامية في السودان، ويوجد اليوم أكثر من 28 شركة تكافل مسجلة في العالم تقوم بعقد الاتفاقيات مباشرة وأكثر من 10 وكالات لتسويق التأمين التكافلي. ينمو التأمين التكافلي بمعدل يبلغ 10 – 20% سنويا، مقارنة مع معدل نمو التأمين التقليدي في العالم والذي يصل إلى 5% سنويا.

لقد أصبح النشاط التأميني ضروريا في حياتنا المعاصرة نسبة لتكاثر المخاطر المحدقة بإنسان هذا العصر، ولقد تزايد الاهتمام بالتأمين في الدول النامية والإسلامية في الآونة الأخيرة وسعى إلى إشاعة نوع من التأمين يتفق وتعاليم الشريعة الإسلامية السمحاء، وهو ما يطلق عليه التأمين الإسلامي أو التكافل كما هو سائد في ماليزيا ودول جنوب شرق آسيا.

وللأفراد أيضا دور رئيسي في توفير الأمن الاقتصادي للمجتمع، فإذا نظرنا إلى الإسلام كدين شامل لمناحي الحياة المختلفة نجد هناك نظاما اقتصاديا فريدا يجمع بين الأمن الاقتصادي والضمان الاجتماعي في سياق مؤتلف. حيث يمكن أن تتعدد الوسائل لتحقيق هذا النظام وتأخذ صورا متنوعة منها على سبيل المثال الزكاة التي يدفعها الأفراد، المساعدات الإنسانية (الصدقة)، الميراث، عون وكفالة المحتاجين كالأيتام والأرامل والضعفاء.

خلاصة القول: إن التصور الإسلامي للأمن الاقتصادي المؤدي للأمان والراحة النفسية للمجتمعات ينتظم في ثلاث دوائر، أولها تبدأ من الفرد، حيث مجد الإسلام قيمة العمل، وجعلها أساس التقويم وضرب لنا الأنبياء وفي مقدمتهم رسولنا الكريم المثل الأعلى في مزاولة المهن الشريفة والسعي للعمل. أما الدائرة الثانية هي دائرة المجتمع إذ حث الإسلام جميع أفراد المجتمع على التعاون والتكافل فيما بينهم، ويتم ذلك عن طريق جبري كالزكاة أو طوعي كالصدقات. والدائرة الثالثة هي الدولة والتي يفترض فيها أن ترعى شئون سكانها بغض النظر عن النوع والعرق والدين.

ومن خلال هذه الدوائر الثلاثة توضع الوسائل والأساليب المفضية إلى تحقيق الأمن الاقتصادي الذي هو جزء مما يعين الإنسان على القيام بمهمته وأداء رسالته في الحياة. لذلك امتن المولى عز وجل على الناس بنعمتي الأمن من الجوع والأمن من الخوف حين دعاهم إلى عبادته “فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ”.


د. محمد شريف بشير