الأخت السائلة أهلا وسهلا بك، وشكرا على متابعتك، كما أحيي فيك حرصك على إخراج عم أبنائك وأخي زوجك من محنته التي لا يملك حيالها غير الاستسلام كما يبدو من إفادتك.
والمشكلة التي تواجهني أنا كمستشار نفسي هي أنني لا أستطيع أبدا الوصول إلى نتائج صلبة من خلال وصفك للحالة، وحتى لو وصلت إلى انطباع مبدئي أو تشخيص تفريقي، فماذا يمكنني أن أفعل سوى أن أنصحك أو أرشدك إلى خطوات معينة من الواضح أن ظروف وملابسات حياتك وحياة الأطراف المختلفة لا تسمح أصلا بها!.
لقد قلت في آخر ردي السابق عليك بعدما وضعت الانطباع المبدئي عن حالته ما بين الوسواس القهري والفصام، وكنت أميل إلى الوسواس القهري قليلا، المهم كان ما يتوجب عليك عمله هو ما ذكرته في آخر ردي عليك.
فقد كانت الخاتمة كما تذكرين:
“ونصل في النهاية إلى ما يتوجب عليك فعله، ففي رأينا أن إشراك زوجك في الأمر وربما إشراك آخرين من العائلة أمر لا بد منه، كما أن هناك ضرورة لمواجهته بانحراف سلوكه عن السلوك القويم وحاجته للعلاج النفسي والعقاري، وذلك بعد أن يتم تشخيص الحالة من قبل طبيب نفسي متخصص، فنحن لم نقدم لك سوى بعض الاحتمالات التي قد تصدق وقد لا تصدق. وأهلا وسهلا بك دائما”.
وطبعا أنت لم تفعلي شيئا من ذلك لأنك لا تستطيعين، ولا أعني أنك مقصرة، فأنت على الأقل مهتمة بحالة ذلك المريض (غريب الأطوار كما يراه البعض ويكتفون بذلك).
وسأناقش هنا موقف مريض باضطراب نفسي عميق ومزمن حين يعيش وحيدا، أي إنه يعزل نفسه عن كل احتمال لمحاولة ضبط السلوكيات ولو وقتيا لأنه يعيش وسط الناس، وهذه إحدى دعائم العلاج النفسي الهادف إلى إيصال المريض على الأقل إلى درجة أفضل، من الأداء والقدرة على مواجهة صعوبات الحياة.
والعيش مع أناس مقبولين نعمة لهؤلاء المرضى، والعيش في وسط مجتمع فيه من يقبل المريض وفيه من يعامله بحذر وفيه من يقبل سلوكه على أنه فقط سلوك شخص غريب الأطوار، هذا العيش في حد ذاته نعمة؛ لأنه على الأقل يسمح بمحاولة الضبط الاجتماعي للأعراض، ولو مؤقتا. وهذا جزء داعم لكل أنواع العلاج النفسي.
ومع الوحدة وعدم العلاج، كثيرا ما يصل المريض إلى حالة من التعايش المريح مع الأعراض المرضية، وربما يكون الاكتئاب أحد عواقب ذلك في بعض الحالات، ورغم أن المرضى يكونون قد اختاروا الانعزال بإرادتهم تماما، فإنهم أيضًا يكتئبون لأنها فطرة الله التي فطر الإنسان عليها، وهي أن يعيش مع الآخرين.
ولا تنسي أن الأعراض المرضية التي أعنيها غالبا ما تكون غير منطقية أو منافية للواقع، فضلا عن منافاتها للطبيعة، ويتخذ هذا الكلام أهمية خاصة عندما نتذكر أن أحد أهم معوقات التغيير في أعراض المرضى هو اعتيادهم على الحياة بشكل لا يقدرون على تغييره، سواء أكانوا غير مكتئبين؛ لأنهم يكونون في رعب من التغيير، أم كانوا مكتئبين؛ لأن الاكتئاب يحرمهم من الدافع.
ثم أناقش بعد ذلك موقف زوجك، فهو واحد كغيره من أساتذة الجامعة الذين تعلموا أصلا في بلاد عربية، ونشئوا في ثقافة تتخذ موقفا معاديا للطب النفسي، وتصمه بكثير من السلبيات، بعضها حق ومعظمها باطل، لكنه كان ممن انتقلوا إلى ثقافة أخرى، لا أراها حتى الآن دفعته في اتجاه مراجعة أفكاره.
أقول ذلك لأنني أعرف أن زوجك في موقفه ذلك من معاناة أخيه، إنما يمثل نموذجا شائعا لمن يفترض وينتظر منهم أن يفهموا ويتوجهوا التوجه الصحيح، إلا أنهم لظروف كثيرة لا يفعلون. وإنما “يكبرون أدمغتهم” كما يقولون في مصر، ويهدئون أنفسهم بمقولات مثل: غريب الأطوار، أو هو هكذا من يومه، أو أن الله خلقه هكذا… إلخ، وهم واقعون تحت تأثير مفاهيم مغلوطة عن الطب النفسي مثل:
مقال: أ.د. وائل أبو هندي