ما العلاقة بين أحدث الاكتشافات العلمية (الجينوم البشري أو مشروع دراسة التركيب الوراثي للإنسان) وعالِم اللغة العربي أبو الفتح عثمان بن جني الذي مضى على وفاته أكثر من ألف عام (توفي 392هـ)؟! وكيف تؤيد أحدث إنجازات العلم ما قرره عالمنا العربي قبل مئات السنين؟
تحتاج الإجابة بعض التفصيل وأن نشرح القصة من بدايتها.
يحكي لنا هيرودوت الملقب بـ”أبو التاريخ” في كتابه “التواريخ” عن قصة أولئك الكهنة المصريين، سدنة العلم في هذا العصر، والذين أرادوا أن يثبتوا أن لغتهم هي أصل كل اللغات أو اللغة الأم أو كما يسميها اللغويون المحدثون لغة “أور” نسبة لمدينة أور في بلاد ما بين النهرين التي يقال إنها الموطن الأصلي لخليل الله إبراهيم.
أخذ أولئك الكهنة طفلا رضيعا ووضعوه في حجرة مغلقة، وكانت ترضعه امرأة صماء بكماء ومنعوا اتصاله بالبشر، أو بأي وسيلة من وسائل المحاكاة أو النطق، وعندما بلغ سن النطق فتحوا الباب ذات يوم فوجدوه يقول كلمة، عندما بحثوا وجدوا أنها تعني “خبز” بلغة “فريجيا”.. ويعقب هيرودوت: “وهنا تبخر غرور المصريين، وعرفوا أن لغتهم ليست أقدم اللغات!!”
ما أصل اللغات؟
ربما كانت تلك التجربة -لو حدثت- أقدم التجارب التي أجراها العلماء للبحث في هذا الموضوع المثير.. ما أصل اللغة؟ أو كيف تكلم الإنسان؟ أو بالأحرى كيف استطاع الإنسان إيجاد أو ابتكار نسق من الرموز يمكّنه من التواصل وحفظ خبراته ونقلها للأجيال التالية، ويمكنه أيضا من الثرثرة واللغو وغير ذلك؟!
سؤال شائك وموضوع مثير شغل العلماء منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا. علماء من كل المجالات: أطباء ولغويين ونحاة.. علماء تشريح وعلماء رياضيات.. فلاسفة ومناطقة… ولم تخرج الإجابات عن اختيارين: اللغة ابتكار إنساني، أو نتاج لخصائص وراثية معينة يتميز بها بنو آدم عن غيرهم من المخلوقات!!
كان من بين العلماء العرب الذين شغلتهم تلك المسألة العالم اللغوي الكبير أبو الفتح عثمان بن جني صاحب كتاب “الخصائص” الذي كتب في هذا الموضوع مقالا بعنوان “القول على أصل اللغة.. إلهام هي أم اصطلاح؟”، كان من أهم ما قاله فيه: “هذا موضع محوج إلى فضل تأمل، غير أن أكثر أهل النظر على أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي وتوقيف”.
بعبارة أخرى: يرى ابن جني أن موضوع أصل اللغة موضوع شائك وملغز، ولا يمكن الفصل فيه بمقال حاسم، بل يحتاج إلى مزيد من البحث والتأمل، لكنه يستدرك قائلا: معظم العلماء يرون أن اللغة اصطلاح؛ أي ابتكار إنساني.
ويناقش ابن جني آراء الفريقين: الفريق الذي يرى أن اللغة وضع إنساني، والفريق الذي يرى أن اللغة إلهام. فيقول: إن من يرى أنها إلهام يحتج بقوله سبحانه “وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا”. لكن ابن جني يرد على هذا الفريق وهذه الحجة بالقول بأن الآية قد يكون تفسيرها هو “أقدر آدم على أن واضَع عليها” أي أعطى الله آدم القدرة على ابتكار الأسماء ووضعها.
ويسأل ابن جني بعد ذلك: لماذا الأسماء بالذات؟ فيقول: “فاللغة فيها أسماء وأفعال وحروف، وليس يجوز أن يكلم المعلم من ذلك الأسماء دون غيرها مما ليس بأسماء؛ فكيف خص الأسماء وحدها؟”، ويجيب على تساؤله قائلا: “اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى القُبُل الثلاثة ولا بد لكل كلام مفيد من الاسم، وقد تستغني الجملة المستقلة عن كل واحد من الحرف والفعل، فلما كانت الأسماء من القوة الأولية في النفس والرتبة على ما لا خفاء به جاز أن يكتفى بها مما هو تال له ومحمول في الحاجة إليها عليها”.
بمعنى أن الأسماء في ذاتها هي التي تدل على اللغة، ومن ثم تكفي الإشارة لها لتدل على اللغة كلها.
كيف يضع البشر لغاتهم؟
بعد هذا العرض والاستدلال ينتقل ابن جني ليناقش حجة من قالوا بأن اللغة وضع واصطلاح. ويطرح ابن جني نظريتين لتفسير هذه الأطروحة: النظرية الأولى هي وجود موقف أولي اجتماعي يتطلب توضيح معاني الأشياء المعلومة أو ما يسميه أريك جانز الموقف الأصلي (Original Situation) حيث “يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدا فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات؛ فيضعون لكل واحد منها سمة ولفظا إذا ذكر عرف ما مسماه؛ ليمتاز عن غيره، وليغني بذكره عن إحضاره إلى مرآة العين”.
ومن ثم يفترض ابن جني أن أولئك الذين يطرحون فكرة أن اللغة وضع واصطلاح إنما يفترضون وجود لحظة أولية انبثقت عنها اللغة، وهو الرأي الذي يطرحه عالم الأنثروبولوجيا أريك جانز.
النظرية الثانية التي يطرحها ابن جني لتفسير قول من قالوا بوضع اللغة هي نظرية التقليد أو المشابهة memisis التي يتبناها الفيلسوف رينيه جرار والتي تقول بأن اللحظة الأولى لوضع اللغة تعود إلى لحظات مشابهة قلد فيها الناس بعضهم. وهكذا استقرت اللغة بدافع من رغبة البشر في التقليد والاستحواذ على الأشياء، وتحول الاهتمام من الشيء المراد تقليد الفعل تجاهه كمادة إلى الإشارة التي صارت تعبر عن هذا الشيء لتقليل أي عنف قد ينشأ عندما يصبح الشيء موضع رغبة التقليد موحدا؛ بمعنى: يرى شخص شخصا آخر يأكل تفاحة، ويأكل هو تفاحة مثلها لتقليد الأول، بيد أنه يفكر في أن ربما ما أكله أقل مما يأكله الآخر، فيتنازعان، ثم يصلان إلى قرار مشترك بأن ما يأكلانه واحد هو التفاح، وهكذا يطلقون الأسماء على الأشياء.
اللغة وضع ووحي!
بيد أن ابن جني يحتج على نظرية الوضع كلية بعد أن يعرضها انطلاقا أيضا من الآية الكريمة؛ حيث يرى أن نظرية الموقف الأصلي الاجتماعي ونظرية التقليد تؤديان إلى وجوب ربط الإشارة الدالة بالشيء المدلول عليه، ومن ثم وجود علاقة أسماها “التواضع بالمشاهدة والإيماء”؛ حيث إن “القديم سبحانه لا يجوز أن يوصف بأن يواضع (أي يتفق مع) أحدا من عباده على شيء؛ إذ قد يثبت أن المواضعة لا بد معها من إيماء أو إشارة بالجارحة نحو المومأ إليه والمشار نحوه، والقديم سبحانه لا جارحة له”. ومن ثم رفض ابن جني النظرية جزئيا على الأقل.
وينتهي ابن جني إلى تكافؤ النظريتين، ومن ثم القول بأن الوضع والوحي مشتركان في أصل اللغة.
ابن جني يعود من جديد
أهمية كلام ابن جني تزداد اليوم بعد مئات السنين من خلال آخر الاكتشافات العلمية الحديثة، أو من خلال ما عرفه العالم باسم مشروع الجينوم البشري، أو دراسة التركيب الوراثي للإنسان الذي تم إعلان نتائجه الأخيرة هذا العام.
تشارك في الكشف عن هذا التركيب مشروعان: أحدهما حكومي وهو المشهور باسم مشروع الجينوم، والآخر خاص بشركة سيليرا جينوميكس (Celera Genomics )وصاحبها هو كريج فنتر Venter.
فبعد اكتشاف أن عدد الجينات الوراثية البشرية لا يزيد عن 30000 جين (أي أكثر قليلا من ضعف عدد الجينات في ذبابة الفاكهة)، قال فنتر: “نحن لا نملك ما يكفي من الجينات لتأكيد صحة فكرة الحتمية البيولوجية”، أو أن كل شيء وراثي.
ورغم أن العلماء أقروا بأن المهم هو عدد البروتينات الناتجة من هذه الجينات والذي يقدر على الأقل بحوالي 300 ألف بروتين؛ فإن فكرة الحتمية البيولوجية قد أصيبت بضربة قوية.
اللغة خصوصية بشرية
والواقع أنه في السنوات الأخيرة كان تطور كل علوم اللغويات مبنيا على نظريات المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي أحد مؤيدي فكرة أن اللغة خاصية خاصة بالبشر وموجودة في الدماغ البشري، ولا تتشابه إطلاقا مع أي من أنساق الاتصال الحيواني.
تلامذة تشومسكي مدوا هذا الخط على استقامته، وقام بينكر بالوصول لاستنتاج؛ مفاده أن اللغة أصلها وراثي، بل وقال بوجود ما أسماه “عضو اللغة”؛ أي مناطق متخصصة في الدماغ تختص بوظيفة اللغة.
رغم أن وجود مثل هذه المناطق قد ثبت (منطقة بروكا على سبيل المثال) فإن البحث العملي أثبت أيضا قدرة هذه المناطق على الترحال عند الإصابة بمرض أو جرح، أي الرحيل إلى منطقة أخرى في المخ. وثبت أيضا أن الأطفال المصابين بمرض منذ الولادة في هذه المناطق يمكنهم كذلك تعلم اللغة بدون عوائق!!
وفي 1997 طرح البروفيسور تيرنس ديكون نظرية مثيرة في أصل اللغة تعتمد على العلاقة بين تطور المخ واللغة فيما يعرف باسم التطور الإسهامي؛ أي أن تطور شيء يسهم في تطور وارتقاء شيء آخر يلزمه. وكان هذا في كتابه المسمى الأجناس الرمزية (The Sympolic Species).
يرى ديكون أن الخطوة التطورية التي أدت لنشوء اللغة عند البشر فقط كانت انتقال البشر من الوجبة النباتية إلى الوجبة الحيوانية؛ أي من عملية جمع الثمار إلى عملية الصيد والقنص، وأن هذه الخطوة هي التي أدت لإيجاد المجتمعات أو الأسرة، ومن ثم اللغة كوسيلة للحفاظ على الكيان الاجتماعي والتفاهم.
رغم حلاوة نظرية ديكون والتفاصيل الكثيرة التي يذكرها ويقدمها لدعم كلامه؛ فإن ثمة اعتراضات كثيرة على كلامه، من بينها كيفية التعلم عند الأطفال الآن والتي تدل على أن الطفل يتعلم من خلال أمثلة قليلة ولكنه ينتج لغة لا نهائية.
بين الخريطة الجينية وابن جني
مؤخرا حدث اكتشاف علمي جديد يتعلق بالخريطة الوراثية للإنسان صحيح أن لدى بني آدم 30 ألف جين فقط، إلا أن هذه الجينات لا تعمل دائما بنفس الطريقة في كل الظروف؛ بمعنى أن الجين ليس حتما سيؤدي إلى حدوث شيء معين؛ ففي ظروف محددة يظهر شيء، وفي غياب هذه الظروف يظهر شيء آخر.. كيف؟؟
اكتشف الباحثون وجود فقرات جينية قصيرة أسموها المحفزات أو المقويات Enchancers لا يزيد عدد القواعد الداخلة فيها عن 300 إلى 1200 قاعدة. هذه المحفزات أو المقويات لا تنشط ولا تعمل إلا من خلال ظروف بيئية أو اجتماعية أو محيطة معينة. ومن ثم فعند نشاط هذه المحفزات قد يتغير عمل الجين أو ينشط جين خامل أو يثبط جين نشط، ومن ثم تظهر خاصية إلى الوجود أو يتفاعل الإنسان مع الظروف أو البيئة المحيطة بشكل مختلف.
كان أول مجالات تطبيق هذا الاكتشاف هو مجال العلاقة بين السرطان كمرض والجينات الوراثية. فمثلا مرض سرطان القولون ثبت وجود جين يساعد على ظهوره، لكن هذا الجين لا يعمل إلا في وجود سموم أو محفزات بيئية من طعام أو مواد كيميائية أو غير ذلك تؤدي في النهاية إلى ظهور سرطان.
وظهرت مجالات عديدة لتطبيق هذا الاكتشاف، مثلا علم النفس والعلاقة بين الوراثة والبيئة، والتفوق وعلاقته بالوراثة والتربية… وهكذا.
أحد مجالات هذا الاكتشاف هو اللغة والبحث في أصل اللغة؛ حيث يقترح العلماء مؤخرا مفهوما تكامليا للعلاقة بين الأصل الوراثي الثابت للغة والتأثير العام والتطوري للمجتمع والبيئة.
بعبارة أخرى: اللغة هي نتاج جدلي للوراثة والبيئة. وهو ما سبق إليه ابن جني حين قال: “هي توفيق ما بين الوضع والتوقيف”. ورحم الله ابن جني.
د. أسامة الفقاش