يأتي شهر ذي الحجة فيفد المسلمون من أنحاء الأرض إلى الأراضي المقدسة ليؤدوا فريضة الحج وليشهدوا منافع لهم، ومن المعاني التي يبعثها الحج في نفوسهم وحدة الصف والهدف والتعاون والتكامل والتكافل، وكلها من الضرورات الحيوية لأمن الأمة وسلامتها في حاضرها ومستقبلها.
وإذا كان علماء النفس والاجتماع يتفقون على أن من أهم أسباب “تماسك الجماعة” هو “أن تكون الاتجاهات الفكرية لأفرادها موحدة، وتتركز في مبادئ وعقائد عامة يعتنقونها جميعًا” فإن الإسلام يتجاوز هذه الأفكار إلى مبادئ تتميز “بالعمق والأصالة والإحكام”:
عقيدة التوحيد
إن التوحيد هو مبدأ الإسلام وجوهره الذي يتغلغل في كيان المؤمن، ويعمر به قلبه ونفسه ووجدانه، وهو ـ في الوقت نفسه ـ “الأساس الأصيل” لوحدة الجماعة الإسلامية، وتماسكها حيث يقول الله تعالى: “قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ” (الأنبياء: آية 108)، “وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً” (النساء: آية 125).
وقد فسر الله سبحانه وتعالى معنى التوحيد وإسلام الوجه لله حينما جعل ذروته في شخص رسول الله -ﷺ- إذا يقول: “قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ” (الأنعام: 162-163).
والحج توحيد خالص، ووحدة للصف والهدف، فهو تلبية من أول لحظاته، تلبية هي استجابة لله وحده، استجابة كاملة للأمر ونفي الشريك: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”.
وقد حرص الإسلام على بث روح المساواة بين الناس وجعل المقياس الذي يتفاضلون به أمرًا آخر وراء اختلاف الألوان والألسنة والمواطن ألا وهو “التقوى” كما يقول الله تعالى: “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات: آية 13)، وكما يقول الرسول ـ ﷺ ـ “ليس لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى” وهذه المساواة ليست شعارًا فارغ المضمون، ولكنها “مساواة عملية” فقد آخى الإسلام بين عمر بن الخطاب وبلال الحبشي، وصنع من الموالي أمراء وقادة أمثال زيد بن حارثة، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، ولقد فطن المفكرون الغربيون إلى عقيدة التوحيد السامية فقال الفيلسوف برتراند راسل في كتابه “الثقافة والنظام الاجتماعي”: “إن الإسلام دين موجه للجماعة، يتوغل في حياة الفرد والمجموع توغلا كاملا”، وقال أرنولد توينبي: “إن عقيدة التوحيد التي جاء بها الإسلام هي أروع الأمثلة على فكرة توحيد العالم وإن في بقاء الإسلام أمل العالم كله”.
التضامن والتعاون
وقد بين الله تبارك وتعالى أننا خلقنا للمودة والتعارف فقال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات: آية 13).
وبذلك جعل الفرد إذا وقف بين يدي الله ناجاه وناداه “باسم الجميع”: “.إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ” الفاتحة: آية 5، وإذا طلب منه الهداية طلبها للجميع “اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” (الفاتحة: آية 6).
ومن أجل هذا الموقف الجماعي في صورة الفرد العابد يحذرنا الخالق جلت قدرته من التفرق فيقول: “وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ” (آل عمران: آية 105).
وعلى ذلك فإن ائتلاف القلوب والمشاعر واتحاد الغايات والوسائل من أوضح توجيهات الإسلام، وإن كانت كلمة التوحيد باب الإسلام، فإن توحيد الكلمة والتعاون من أجلها سر البقاء والنجاح، تلبية لأمر الله: “تَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ” (سورة المائدة: آية 2)، ومنهج هذا التعاون هو الاتصال بحبل الله عن طريق الاعتصام، به حيث قال جل شأنه “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا” (آل عمران: آية 103)، ثم تتمثل الوحدة والتضامن والتعاون في أرفع صورها في قول الله تعالى: “إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ” (الصف: آية 4)، وأصل لفظ مرصوص التماسك بعضه ببعض بالرصاص، والمراد متقن كأنه قطعة واحدة، وقال الرسول ـ ﷺ ـ “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا”. متفق عليه عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ.
وحدة الصف والهدف قوة ردع
ولقد شاءت إرادة الله عز وجل أن تكون الأمة الإسلامية أمة قوية مرهوبة الجانب، فأَمَرها بإعداد القوة والمرابطة على النحو الذي “يوقع الرهبة” في قلوب الأعداء ويخيفهم من عاقبة عدوانهم فقال جل شأنه: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ” (الأنفال: آية 60).
وقد جاء لفظ قوة “مطلقًا بغير تحديد” لكي يرشد إلى أن القوة التي يريدها الإسلام هي “القوة الشاملة” التي تضم كل مصادر القوة كالقوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعنوية إلى جانب القوة العسكرية.
هذه المصادر المتعددة للقوة لا يكون لها أثرها وفعاليتها “إلا إذا جمعتها الوحدة” في الأهداف والخطط لتحقيق غاية واحدة، وذلك أول دعائم القوة، ثم يمتد مفهوم القوة تحت ظل الوحدة ليشمل جوانب عديدة من كيان الأمة الإسلامية: فوحدة الأمة الإسلامية كلها قوة، والوحدة والتعاون بين دول الإسلام قوة، والوحدة والتلاحم، بين أبناء الشعب الواحد في كل دولة قوة، والجيوش في ميدان القتال تستمد إرادتها القتالية وروحها المعنوية من وحدة شعوبها ووقوفها صفًا واحدًا وراءها.
والحق أن وحدة الصف والهدف هي في تقدير الإسلام “قوة ردع” تؤدي دورها في ردع الأعداء مع غيرها من مصادر القوة الأخرى، ذلك أن العدو إذا وجد أنه إذا اعتدي على المسلمين فسوف يواجه قوة عسكرية وراءها أمة متحدة متضامنة، وقادرة على مسندتها بكل الوسائل المادية والمعنوية، وعلى تحمل أعباء المعركة مهما طال أمد الصراع، ومهما كانت التضحيات، فإنه سوف يتخلى عن فكرة العدوان أصلا، أو عن الاستمرار في القتال.
شهادة التاريخ
وقد أكد الرسول ـ ﷺ ـ على فضل الوحدة في الصف والهدف ومكانتها الكبرى في تقدير الإسلام حين جعل الوحدة بين أبناء مجتمع المدينة عقب الهجرة “أساسًا” لبناء ذلك المجتمع وبناء الدولة الإسلامية، فوحد صف الأنصار من أوس وخزرج في ظل الإسلام، وربط المهاجرين بالأنصار برباط الإخاء، وربط بين المسلمين وبين المشركين واليهود من أهل المدينة بمعاهدة نظمت لهم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، وجعلتهم جميعًا ـ على اختلاف دينهم ـ “يدًا واحدة” على أعدائهم.
وقد سجل التاريخ أن المدينة كانت “قاعدة وطيدة للإسلام” وجبهة صلبة استطاعت مواجهة أقوى التحديات من عدوان مباشر ومؤامرات وغدر، وقهرت المدينة كل ذلك، وحاربت أكثر من عدو في أكثر من جبهة، فواجهت المشركين واليهود والروم، وحارب المسلمون أغلب معاركهم عدوا أكثر منهم عددًا وعدة، وحاربوا أحيانًا وهم جرحى ومرضى.
وفي غزوة بدر “أول معركة حاسمة” بين المسلمين والمشركين كانت وحدة الصف والهدف من أهم ما عوض النقص في موازين القوى: بينهم وبين المشركين، انظر إلى قول المقداد بن عمرو عن المهاجرين: “يا رسول الله، امضِ لما أمرك الله فنحن معك..” وقول سعد بن معاذ عن الأنصار: “امش لما أردت فنحن معك”.
وفي هذه الغزوة خرج المسلمون “وبعدوا عن المدينة” أكثر من 150 كيلو مترًا دون أن يخشوا أن تأتيهم “ضربة من خلف”؛ إذ كانوا مطمئنين إلى أن وراءهم جبهة صلبة وقاعدة وطيدة وأمينة.
فإذا ما نظرنا إلى الجانب الآخر وجدنا أن المشركين دخلوا تلك المعركة يحملون عوامل هزيمتهم، فقد غابت عنهم وحدة الصف والهدف من قبل المعركة، وحل محلها التردد وتضارب الآراء وطغيان الأنانية الفردية على المصلحة العامة، فمنهم من رجع إلى مكة ومنهم من أراد القتال لأهداف جاهلية عبر عنها قول أبي جهل: “والله لا نرجع حتى نرد بدرًا فنقيم عليه ثلاثة ننحر الجذور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف لنا القيان وتسمع بنا العرب بمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها”.
وتحت أعلام الحج ووحدة الصف والهدف الوحدة سجل المسلمون أعظم انتصاراتهم على مدى التاريخ ضد الصليبيين وضد المغول الذين كانت هزيمتهم على يد قوم عرفوا قدر الوحدة وفضلها.
محمد جمال الدين محفوظ