قيض الله للغة العربية من أبنائها من نصبوا أنفسهم للدفاع عنها والحفاظ عليها من تسلل اللحن والخطأ إلى لغة القرآن الكريم، وجعلوا معظم همهم وجُل همتهم في تنقيتها من هجوم اللحن عليها، وحفظ صحيح اللسان من أخطاء وأوهام العوام، وكان من هؤلاء أبو بكر الزبيدي.

لم تسلم اللغة العربية في أي عصر من العصور من التعرض للتصحيف والتحريف، وزحْف العامية إلى الفصحى، ومحاولة اقتحام الأعجمية حصونها المنيعة. وكانت العربية تنتصر دائمًا لنفسها بما عُرف عنها من المرونة واليسر، فكانت تفتح أبوابها لدخول الكلمات والألفاظ الجديدة والمصطلحات الحديثة التي تجدد بها شبابها في كل عصر، ولكنها لم تهمل- كغيرها من اللغات- جذورها القديمة الأصيلة، وإنما حملتها معها عبر وصلة حياتها الطويلة لتصل الحاضر بالماضي في عبقرية مدهشة جعلت العربية تتسع وتتنامى مع مرور العصور والأزمان دون أن تفقد شيئا من تراثها اللغوي ومعجمها العربي الأصيل.

ميلاده ونشأته

ولد “أبو بكر محمد بن الحسن بن عبد الله بن مدجج بن محمد بن عبد الله بن بشر الزبيدي” في مدينة “إشبيلية” بالأندلس سنة (316 هـ = 928م).

و أبو بكر الزبيدي نسبة إلى “زبيد”، وهو “منية بن صعب بن سعد العشيرة” رهط “عمرو بن معدي كرب”، وكان أجداده قد نزلوا حمص من بلاد الشام قبل أن ينزح آباؤه مع جموع الفاتحين من المسلمين إلى بلاد الأندلس.

وعاش في إشبيلية فترة طويلة من نشأته وشبابه؛ حيث تلقى العلم على أيدي عدد كبير من علمائها وشيوخها الأعلام، وكان لنبوغه وذكائه أثر كبير في تفوقه على كثير من أقرانه؛ حتى ذاعت شهرته، وطار صيته لما عرف به من تمكنه من علوم اللغة والنحو والأدب والسِيَر والأخبار، فكان أخبر أهل زمانه وأوحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة.

شيوخه وأساتذته

تلقى أبو بكر الزبيدي العلم على يد عدد كبير من أعلام عصره في الأدب واللغة والنحو، وكانت علاقته بهؤلاء الشيوخ وثيقة العُرَى، تشهد بذلك ترجماته لهم في كتابه الرائع “طبقات النحويين واللغويين”، ومنهم:

1- “أبو علي إسماعيل القاسم القالي”، المتوفَّى سنة (356 هـ = 967م)، صاحب “البارع في اللغة”، و”الأمالي والنوادر”، و”الممدود والمقصور”، وقد أخذ عنه أبو بكر الزبيدي اللغة والنوادر ولازمه طويلا، وينقل عنه كثيرًا في كتابه “لحن العامة”.

2- “أبو عبد الله محمد بن يحيى الرباحي”، المتوفَّى سنة (358 هـ = 969 م)، وكان يمارس التدريس والتأديب في داره بقرطبة، فلازمه الزبيدي وتتلمذ عليه، وقد استأدبه الخليفة “الناصر” لولده “المغيرة”، ثم وكل إليه المستنصر بالله شؤون الدواوين، ويصفه الزبيدي بأنه كان قدوة لمؤدبي العربية في عصره، وكانت بينهما مساجلات شعرية لطيفة ذكرها الزبيدي في معرض ترجمته له.

3- “أبو محمد البياني قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف بن ناصح القرطبي“، المتوفى سنة (340 هـ = 951م)، كان محدثًا، وقد وصل إلى مكة وبغداد والكوفة، وقد أخذ عنه السير والتاريخ، وروى عنه في مواضع عدة من كتبه.

4- “أبو عثمان سعيد بن فحلون بن سعيد”، المتوفى سنة (341 هـ = 952م)، وهو من علماء الحديث، روى عن “عبد الرحمن النسائي” و”محمد بن وضاح” و”بقي بن مخلد” وغيرهم، وقد روي عنه الزبيدي في بعض كتبه.

5- “أبو عمر أحمد بن سعيد بن حزم بن يونس الصدفي”، المتوفى سنة (350 هـ = 961م). وكان من علماء السنن والأثر، عُني بجمع الحديث، وأكثر من الرحلة في طلب العلم على شيوخ وأعلام مصر ومكة والقيروان، وصنف كتابًا في تاريخ المحدثين، وقد روى عنه الزبيدي في مواضع كثيرة من مصنفاته.

الزبيدي في قرطبة

بلغت شهرة “الزبيدي” الخليفة “المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن”، المتوفى سنة (366 هـ = 977م)، فاستدعاه إلى قرطبة، وكان يحب العلم ويرعى العلماء، وقد امتلأ بلاطه بالعلماء والأدباء والشعراء، ونال الزبيدي عنده حظوة ومكانة عالية؛ حتى إنه اختاره ليكون مؤدبًا لابنه وولي عهده “هشام بن الحكم”.

وأقبلت الدنيا على “الزبيدي في قرطبة، فنال بها دنيا عريضة في كنف الخليفة الأندلسي، وصارت له شهرة واسعة جاهًا رفيعًا.

وبالرغم مما حققه أبو بكر الزبيدي في قرطبة من الشهرة والجاه والرياسة فإنه كان دائم الحنين إلى إشبيلية مسقط رأسه، واشتد به الشوق إلى موطن طفولته وملاعب صباه، فاستأذن الخليفة المستنصر في العودة إلى إشبيلية، ولكن الخليفة تمسك به ولم يأذن له بالرجوع، ودعاه إلى البقاء معه، فكتب الزبيدي في ذلك أبياتًا من الشعر تفيض وجدًا وتقطر بالحزن والأسى:

العودة إلى إشبيلية

تحققت أمنية أبو بكر الزبيدي في العودة إلى إشبيلية بعد أن أدى مهمته في تعليم وتأديب ابن الخليفة، وقد كافأه الخليفة على ذلك بأن ولاه منصب القضاء في إشبيلية.

وظل يمارس التدريس إلى جانب عمله في القضاء حتى تُوفي الخليفة المستنصر بالله، وما لبث الخليفة الجديد “هشام بن الحكم” أن جعله على خطة الشرطة، فلم ينقطع الزبيدي- صاحب الشرطة- عن العلم والأدب، وله موقف طريف في ذلك مع الوزير “أبي الحسن جعفر بن عثمان المصحفي”، وكان قد كتب كتابًا إلى الزبيدي فلاحظ الزبيدي أنه أخطأ في تصحيف لفظ فيه، فنبهه إلى ذلك شعرًا دون تصريح، وهو ما يدل على براعته الفائقة في النظم وتمكُّنه من اللغة وفصاحته.

أبو بكر الزبيدي شاعرًا

يشير الذين ترجموا للزبيدي إلى شاعريته وتمكُّنه من الأداة الشعرية، ويمتدحون شعره وينوهون إلى كثرته، فيقول عنه “أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي”، المتوفى سنة (488 هـ = 1095 م)، و”أحمد بن يحيى بن أحمد الضبي”، المتوفى سنة (599 هـ = 1203م): إنه كان شاعرًا كثير الشعر. غير أن الثعالبي يقول: إن الشعر كان أقل أدواته.

ومن شعره في أبيات إلى “أبي مسلم بن فهد”:

ومن شعره في الزهد:

ومن شعره في الاغتراب في سبيل المال:

وله أشعار أخرى في وصف “النيلوفر”، وفي النصح والإرشاد، وفي تكذيب المنجمين، كما أن له عددًا من المنظومات اللغوية والمقطوعات المتضمنة غريب اللغة والأحاجي اللغوية والمساجلات النحوية.

مكانته العلمية واللغوية وثناء العلماء عليه

يُجمِع الذين ترجموا للزبيدي على فضله وريادته ومكانته العلمية الرفيعة.

يقول عنه “أبو منصور الثعالبي” صاحب يتيمة الدهر: “كان أحفظ أهل زمانه للإعراب والفقه واللغة والمعاني والنوادر”.

ويقول عنه “الحميدي” صاحب “جذوة المقتبس”: إنه “من الأئمة في اللغة والعربية”.

ويقول “ابن الفرضي” صاحب “تاريخ علماء الأندلس”: “كان واحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة”.

ويضيف “ابن خلكان” صاحب “وفيات الأعيان”: “وكان أخبر أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر، إلى علم بالسير والأخبار، ولم يكن بالأندلس في فنه مثله في زمانه”.

ويقول عنه “الفتح بن خاقان” صاحب “مطمع الأنفس”: “إمام اللغة والإعراب، كعبة الآداب.. نجم الأندلس في إقبالها”.

أهم مؤلفات أبو بكر الزبيدي

وللزبيدي عدد غير كبير من المؤلفات لا يتجاوز السبعة، منها مؤلفان مطبوعان، وثلاثة مخطوطة، واثنان مفقودان، أما المطبوعان فهما:

  • “طبقات النحويين واللغويين”: وقد حققه “محمد أبو الفضل إبراهيم” لأول مرة سنة (1373 هـ = 1954م)، ثم أعاد تحقيقه مرة أخرى في سنة (1392 هـ = 1973)، بعد ظهور مخطوطات أخرى لم يكن اطلع عليها. وهو كتاب في تراجم النحويين واللغويين، ألفه الزبيدي بناء على تكليف من الخليفة “المستنصر بالله” على نحو ما ذكر في مقدمة الكتاب.
  • “لحن العامة”: وقد حققه د. عبد العزيز مطر كجزء من رسالته لنيل درجة الدكتوراه من كلية دار العلوم سنة (1384 هـ = 1964م).

ويذكر أبو بكر الزبيدي في مقدمة الكتاب أن الذي دعاه إلى تأليف هذا الكتاب هو الخليفة المستنصر بالله أيضا.

أما مؤلفاته الثلاثة المخطوطة فهي:

  • الواضح في علم العربية: وتوجد منه نسخ في القاهرة وصنعاء والأسكوريال.
  • مختصر كتاب العين: وتوجد منه نسخ في القاهرة وبرلين وباريس ومدريد.
  • أبنية الأسماء والأفعال أو الاستدراك على سيبويه في كتاب الأبنية:

وتوجد منه نسخ في الفاتيكان وجاديت.

وأما الكتابان المفقودان فهما:

  • هتك ستور الملحدين: وهو في الرد على ابن مسرة وجماعته. وقد ذكره ابن خلكان في وفيات الأعيان، وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب، والسيوطي في بغية الوعاة.
  • استدراك الغلط الواقع في كتاب العين: وذكره السيوطي في المزهر، كما ذكره القفطي في إنباه الرواة بعنوان “الانتصار للخليل فيما رُدّ عليه في العين.

من أبرز تلاميذه

وقد تتلمذ على الزبيدي عدد كبير من طلاب العلم والدارسين الذين حملوا لواء العلم من بعده، وصاروا نجومًا يشار إليهم بالبنان في العلم والمعرفة، ومن هؤلاء التلاميذ:

1- ابنه أبو الوليد محمد، المتوفّى سنة (440 هـ = 1048م)، ومما درسه على أبيه “مختصر العين”، كما سمع منه في اللغة والنحو، وقد استوطن “المرية”، وولي القضاء بها.

2- أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا الزهري، المعروف بابن الإفليلي، المتوفى سنة (441 هـ = 1049م)، وكان عالمًا بالنحو واللغة، وله شرح ديوان المتنبي، وقد ولي الوزارة للمستكفي بالله.

3- أبو عبد الله محمد بن عطاء الله النحوي القرطبي، المتوفى سنة (394 هـ = 1004م)، وكانت له منزلة لطيفة من أستاذه الزبيدي، وكان بصيرًا بالنحو مقدمًا فيه.وغيرهم كثيرون

وفاته

توفي أبو بكر الزبيدي- رحمه الله- الخميس (غرة جمادى الآخرة 379 هـ = 9 من سبتمبر 989م) بمسقط رأسه “إشبيلية” عن عمر بلغ ثلاثة وستين عامًا، وصلى عليه ابنه الأكبر “أحمد الزبيدي”.


 سمير حلبي