تختلف الأسر المسلمة في طريقة احتفالها بالمولود الجديد، ويتقرب البعض إلى الله بإحياء سنة “العقيقة“، يشكرونه أن وهبهم الذرية، ويسألونه صلاح أبنائهم. و”العقيقة” هي اسم لما يذبح عن المولود يوم سابعه، وهي سنة مؤكدة – فعلها الرسول ﷺ، وحث صحابته الكرام على فعلها- ومن الأفضل أن يذبح عن الولد شاتان متقاربتان شبها وسنا، وعن البنت شاة، والذبح يكون يوم السابع بعد الولادة إن تيسر، وإلا ففي اليوم الرابع عشر وهكذا.
يأتي الطفل إلى الدنيا حاملا “هدية” ربانية إلى أسرته، تسعد بابتسامته المغردة قلوب الأهل والأحباب، يحمل من المستقبل بشرى الخير، يرطب بلمسته الناعمة على آلام والديه، يملأ الدنيا مرحا بحركاته العفوية وضحكاته البريئة.
ويجعل “العضو الأسري الجديد” أبويه يصدقان على قول الواهب سبحانه وتعالى: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدنْيَا} (الكهف: 46)، ويأملان بأن يكون وليدهما غرسا لحصاد الآخرة: “إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له. (رواه مسلم).
ولكن هل يدرك المسلمون ماهية سنة “العقيقة”؟، وهل حافظوا على السنة النبوية في الاحتفال بأبنائهم؟، أم هجروها وانساقوا وراء عادات وطقوس هي أبعد ما تكون عن تعاليم ديننا؟، هل ما زالت العقيقة بيننا باقية أم تاهت بين غياهب العادة والتعود؟ أسئلة عديدة نطرحها لنتعرف على مكانة هذه السنة العطرة بيننا الآن.
“عقيقة” أم “سبوع”؟
فمن المغرب، يحكي لنا أحمد سعيد- طالب مغربي يقول: “العقيقة من السنن المتبعة لدينا في المغرب، وتبدأ خطواتها مع بداية اليوم السابع لولادة الطفل، حيث يقوم الأب بذبح خروف، خال من العيوب، ويدعو إليه جميع أفراد العائلة”.
ويضيف سعيد: “يسود المكان في ذلك اليوم فرحة غامرة، من كل أفراد الأسرة، فالكل يهيئ نفسه للاحتفال الذي يتم الإعداد له جيدا. ويوجد في تراثنا العديد من الأغنيات التي أعدت خصيصا لهذه المناسبة، حتى يخيل لك أنك في مناسبة عرس”.
ومن عاداتنا هنا أن يصاحب العقيقة بعض العادات البسيطة، فالأم ترتدي أجمل ملابسها وكذلك الصغير، وتجلس هي والنساء في مجلس منفصل عن الرجال، الذين ما إن ينتهوا من تناول العقيقة، حتى يسارعوا في إحياء تلك الليلة بقراءة القرآن الكريم.
ومن العراق، يصف أحمد أبو حذيفة – باحث إعلامي، طريقة الاحتفال بالمولود الجديد في أسرته: “العقيقة سنة أصيلة، معروفة عندنا، إلا أن الظروف السيئة والأوضاع المجتمعية الضاغطة التي يحياها الشعب بسبب الاحتلال، كثيرا ما تمنعنا من إحياء مثل هذه السنن”.
ويضيف أبو حذيفة: “الأوضاع الاقتصادية صعبة، والأمور متردية، مما دفع بالكثيرين إلى إهمال عادات كثيرة رائعة كان يتميز بها الشعب العراقي، ولا يتوانى أحد في إحياء هذه السنة إن استطاع، فلقد عققت عن أبنائي الثلاثة، ولله الحمد. وغمرتني السعادة حينئذ لرزق الله، وإحياء سنة نبوية.
ومن الصومال، تؤكد ميمونة محمود- طالبة: “لا توجد لدينا عادات للاحتفال بالمولود تنافس التعاليم الدينية. فنؤدي العقيقة بكل تفاصيلها المعروفة، ويصاحب ذلك احتفالات كثيرة تشارك فيها العائلة كاملة وبعض الأهل والجيران. ولا أذكر أن لدينا عادات مميزة سوى أننا في اليوم الأربعين من مولد الطفل، نحمله ونطوف به جنبات الحي الذي نسكن به تعبيرا عن فرحتنا وسعادتنا به”.
ومن مصر، حدثتنا داليا إبراهيم – ربة منزل، قالت:” أنا الآن جدة، وعندما أنجبت ابنتي لم أعمل لها عقيقة للأسف، ربما لضيق ذات اليد وقتها، أو لعدم معرفتنا بالثقافة الدينية حينها”.
وأضافت داليا: “حاولت أن أعوض هذا في تنبيه ابنتي لأهمية الاحتفال بأبنائها بعمل عقيقة لهم، ولكنها انساقت وراء العادات، وأصرت على عمل “سبوع” لابنتيها الأولى والثانية، ولكن زوجها فضل عمل عقيقة بدلا من السبوع للمولود الثالث”.
إسلامي 100%
يحرص أبو محمد- مدرس مصري- على التماس السنة، ويصر علي أن تكون طريقته الوحيدة في الاحتفال بقدوم أبنائه، بل كانت العقيقة ضمن أمور عديدة اتفق عليها مع زوجته قبل الزواج، فقد اتفقا على أن يكون احتفالهما بالمناسبات “إسلاميا 100%”.
ولكنه أشار إلى استنكار بعض الأهل لهذه الطريقة الجديدة علي عاداتهم في الاحتفال بالمولود، وأضاف: ” لدينا في مصر عادات متأصلة ومتغلغلة للجذور، كدق الهون بجانب أذن الطفل لتنبيهه، ووضع سبع حبات من حبوب مختلفة بجانب الطفل ليلا. وعندما علمت بأنها عادات لم يأت بها الشرع، نويت تنفيذ ما ورد في ديننا عن نبينا وحبيبنا محمد ﷺ.
ويقول أبو محمد: “عندما قمت بعمل العقيقة لابني، شعرت بالراحة لأنني أطبق سنة الحبيب ﷺ. فهناك فرق شاسع بين أن يشعر الإنسان بأنه يفعل شيئا ما ليسعد به الناس، وبين أن يفعله ليحيي سنة يرضي بها رب الناس”. مشيرا إلى أن “العقيقة تؤلف بين قلوب الأهل والأصدقاء الذين يحضرون الاحتفال بالمولود”.
عبادات تحولت لعادات
وعن الآثار الاجتماعية التي تحدثها العقيقة في المجتمع، تقول الدكتورة حنان سالم – مدرس علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة عين شمس: “رغم عدم شيوع العقيقة في الأوساط الاجتماعية الإسلامية، فإن لها أهمية بالغة في المجتمع المسلم، إذ يجمع المولود الجديد الأهل والأقارب والأرحام، ويصل بين قلوبهم، ويعيد ترميم العلاقات المتصدعة. ولكن السلبي في الأمر أن يكون الاحتفال بالعقيقة على سبيل العادة، وعدم إقامتها على أنها سنة، فمن المهم أن يدرك المسلم أهمية تغلغل السنة في كل أموره، وخاصة الاحتفالات المبهجة.
وللأسف صارت عادات الشعوب وثقافتها الاجتماعية هي الأكثر سيطرة على حياتنا، ولكن العودة للسنن النبوية فيما يتعلق بالعقيقة أمر مؤثر على تربية الأبناء، وليس بمعزل عن طريقة تربيتهم، فالسنن تشد بعضها بعضا، ومن يأخذ بالسنة في الاحتفال بالمولود، يحاول أن يلتزم بتعاليم النبي في تربية الأبناء، والإحسان إليهم، وتربيتهم على المنهج الإسلامي القويم، فالسنة كنز دفناه ولم ننتبه لخطورة تركها”.
وفي المقابل ترى الدكتورة إجلال إسماعيل حلمي– أستاذة علم الاجتماع الأسري بجامعة عين شمس، أن “تطبيق سنة العقيقة أصبح يتزايد في مجتمعاتنا الإسلامية، نظرا لزيادة الوعي الديني، ومحاولة التقريب والمواءمة بين العادات الاجتماعية والسنن الإسلامية”.
شكر عملي
وعن الحكمة الشرعية من هذه السنة، يحدثنا الشيخ جمال قطب عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف قائلا: حثنا الرسول ﷺ على سنة العقيقة للتقريب بين الناس، وشكرا للمنعم الواهب على المولود، وتعليما للأمة أن الشكر يكون عمليا، وذلك بالإنفاق والعطاء دون الاكتفاء بشكر اللسان.
فحينما شرع دعوة الأقارب والأهل إلى الطعام، قصد ﷺ احتفاء العائلة والحي بهذا المولود، وانضمام فرد جديد إلى هذه القوة، مما يقرب بين الجماعة ويشدد أواصرها، ويخلف ذكريات، يسعد المولود بسماعها عندما يكبر.
ويشير الشيخ جمال إلى أن العائلة حينما تهم بتقديم قربان العقيقة إلى الله سبحانه وتعالى، فإنما تبذل مالا وتزهق روحا وتسيل دما. فتشعر نفسيا بأنها قد افتدت وليدها وقدمت بديلا عنه، مما يريح النفس، ويذهب الخوف. فضلا عن أنه عندما يأكل المدعوون من العقيقة، يشعر الوالدان بالسرور لأن طفلهما كان سببا في تجميع الناس وفي إطعامهم، بل وفي توفيقهما لشكر الله بهذه الطريقة.
“تأمين على المولود”
أما الدكتور عبد الله بركات عميد كلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة فيبحر بنا في أعماق السنة النبوية المطهرة مبينا أن: التزام سنة النبي ﷺ هو سلوك المتقدمين ودأب الصالحين، وسبيل تحصيل محبة رب العالمين.
ففي الحديث القدسي الذي رواه النبي عن رب العزة: “ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به و يده التي يبطش بها و رجله التي يمشي بها” (رواه الإمام البخاري في صحيحه).
وما النوافل إلا سنة الحبيب التي هي من جنس ما فرض الله على المسلم، ففيها قرة عينه وتحقيق ذاته، وبسببها يتم التواصل مع مولاه، فيتحقق قول الله وأمره: {قُلْ إِن صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَب الْعَالَمِينَ} (الأنعام: 162).
ويواصل بركات: “يدرك المتأمل لسنة الحبيب آثارها على ذاته وعلاقاته بالكون من حوله، وتحقيق إيمانه الكامل بمولاه، ولأجل ذلك أمر الله أولياءه بالتزام كل ما يصدر عنه. ولكن تبدو في الآفاق أحيانا مشكلة ترتبط بالنفس، فإنها إذا اعتادت شيئا فقدت معايشته وإدراك أسراره بفعل العادة.
وتجدد في العبادات المشاعر الإيمانية الشوق والسعادة، كأن فاعلها يقوم بها لأول مرة في كل مرة. ومن يلمس في نفسه هذا الشعور، يدرك أن إيمانه موصول، وسبيله في وصل الله غير مقطوع. أما من فقد هذا الإحساس فهو يأتي أشكالا لا مضمون لها، وعادات فقدت أجمل ما فيها من المفهوم التعبدي”.
ويختم دكتور عبد الله بركات حديثه بتعديد فضائل تطبيق سنة العقيقة فيذكر منها:
– شكر المنعم الذي له الخلق والأمر، فمن يؤمن بأن الله أكرمه وأعطاه ولو شاء لحرمه، يدرك حتمية شكر الله الواهب على ما وهب.
– إشراك الأحبة والأقرباء والأصدقاء بالفرحة.
– الوقاية من حسد من حرموا نعمة الإنجاب. فمن شكر الله لم يُحسد، وتقديم الأطعمة يذوب المشاعر السلبية.
– التأمين على المولود، ففي الحديث: “كل غلام رهين بعقيقة تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى فيه، ويحلق رأسه” (رواه أبو داود)، وفي هذا الإخبار ما يجعلنا نحرص على العقيقة حماية لتلك الهبة، وأملا في خير يعود من ورائها.
– يحبب اجتماع الناس على طاعة رسول الله في هديه.
وفي الختام، ورغم التأثر الواضح بطقوس تفرضها بعض العادات التي تختلف من مجتمع لآخر، وعدم قدرة البعض عن التخلي عنها، فإن هناك من حاولوا نبذ العادات البعيدة عن تعاليم الدين والاكتفاء بـ “العقيقة” رافعين شعار “العقيقة سنة خارج المنافسة”.
نهال محمود مهدي – نشرت في 17/03/2006