بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :-
المصافحة بين الجنسين إذا صاحبتها شهوة واستمتاع، أو خيف أن يحدث منها ذلك فلا خلاف في حرمتها .
أما إذا خلت المصافحة من كل معاني الشهوة والاستمتاع فقد اختلف فيها العلماء ما بين محرم ومجيز ، وجمهور العلماء ومنهم المذاهب الأربعة ، بل الثمانية على التحريم دون تفرقة بين إحراج، أو غيره. أو شهوة أو غيرها.
وقد رأى الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي جواز المصافحة عند الاضطرار وأمن الفتنة، كما إذا بدأ الرجل فمد يده، لكن ليس للمرأة أن تبدأ بذلك، كما استحسن الشيخ القرضاوي أن يقتصر الجواز على الأهل والأقارب، فليس من المعقول أن تظل المرأة مادة يدها تصافح بها كل غاد ورائح.
والأفضل للمسلم والمسلمة أن يمتنعا عن المصافحة في كل حال، فإن القائل بالتحريم جمهور الأمة، ولهم أدلتهم ، ويمكن للمضطر منهما أن يقلد من قال بالجواز في أضيق الحدود.
وقد ناقش الشيخ القرضاوي أدلة كل اتجاه في بحث ضاف، إليك نصه،
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :-
قبل الدخول في البحث والمناقشة أود أن أخرج صورتين من مجال النزاع أعتقد أن حكمهما لا خلاف عليه بين متقدمي الفقهاء فيما أعلم :.
الأولي: تحريم المصافحة للمرأة إذا اقترنت بها الشهوة والتلذذ الجنسي من أحد الطرفين: الرجل أو المرأة، أو خيفت فتنة من وراء ذلك في غالب الظن، وذلك أن سد الذريعة إلى الفساد واجب، ولا سيما إذا لاحت علاماته، وتهيأت أسبابه.
ومما يؤكد هذا ما ذكره العلماء أن لمس الرجـل لإحـدى محـارمه، أو خلوته بها وهي من قسم المباح في الأصل تنتقل إلى دائرة الحرمة إذا تحركت الشهوة، أو خيفت الفتنة (انظر: الاختيار لتعليل المختار في فقه الحنفية 4/155)، وخاصة مع مثل بنت الزوجة أو الحماة أو امرأة الأب، أو أخت الرضاع، اللائي ليس لهن في النفوس ما للأم أو البنت أو الأخت أو العمة أو الخالة أو نحوها.
الثانيـة : الترخيص في مصافحـة المرأة العجوز التي لا تشـتهى، ومثلها البنت الصغيرة التي لا تشتهى ؛ للأمـن مـن أسـباب الفتنة، وكذلك إذا كـان المصافـح شـيخًا كبيرًا لا يشتَهي.
وذلك لما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يصافح العجائز، وعبد الله بن الزبير استأجر عجوزًا تمرضه، فكانت تغمزه وتفلي رأسه. (المرجع السابق ص 156، 155).
ويدل لهذا ما ذكره القرآن في شأن القواعد من النساء، حيث رخص لهن في التخفف من بعض أنواع الملابس ما لم يرخص لغيرهن: (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحًا فليس عليهن جناح أن يـضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يسـتعففن خير لهن والله سميع عليم). (النور: 60).
ومثل ذلك استثناء غير أولي الإربة من الرجال، أي الذين لا أرب لهم في النساء، والأطفال الذين لم يظهر فيهم الشعور الجنسي لصغر سنهم من نهي المؤمنات عن إبداء الزينة: (أو التابعين غير أولي الإرْبَةِ من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء). (النور 31).
وما عدا هاتين الصورتين، فهو محل الكلام، وموضع البحث والحاجة إلى التمحيص والتحقيق.
فالذين يوجبون على المرأة أن تغطي جميع جسمها، حتى الوجه والكفين، ولا يجعلونهما من المستثنى المذكور في قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) بل يجعلون ما ظهر منها الثياب الظاهرة، كالملاءة والعباءة ونحو ذلك، أو ما ظهر منها بحكم الضرورة، كأن ينكشف منها شيء عند هبوب ريح شديدة أو نحو ذلك.
هؤلاء، لا عجب أن تكون المصافحة عندهم حرامًا لأن الكفين إذا وجبت تغطيتهما كان النظر إليهما محـرمًا، وإذا كان النظر محـرمًا كان المس كذلك من باب أولى، لأن المس أغلظ من النظر، لأنه أقوى إثارة للشهوة، ولا مصافحة دون أن تمس البشرة البشرة.
ولكن من المعروف أن أصحاب هذا القول هم الأقلون، وجمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، يجعلون المستثنى في قوله تعالى: (إلا ما ظهـر منها) الوجه والكفين.
فما الدليل عندهم على تحريم المصافحة إذا لم تكن لشهوة ؟.
الحقيقة أنني بحثت عن دليل مقنع منصوص عليه، فلم أعثر على ما أنشده.
وأقوى ما يستدل به هنا، هو سد الذريعة إلى الفتنة، وهذا مقبول من غير شك عند تحرك الشهوة، أو خوف الفتنة بوجود أماراتها، ولكن عند الأمن من ذلك وهذا يتحقق في أحيان كثيرة ما وجه التحريم ؟.
ومن العلماء من استدل بترك النبي -ﷺ- مصافحة النساء عندما بايعهن يوم الفتح بيعة النساء المشهورة، على ما جاء في سورة الممتحنة.
ولكن من المقرر أن ترك النبي -ﷺ- لأمر من الأمور لا يدل بالضرورة على تحريمه.. فقد يتركه لأنه حرام، وقد يتركه لأنه مكروه، وقد يتركه لأنه خلاف الأولى، وقد يتركه لمجرد أنه لا يميل إليه، كتركه أكل الضب مع أنه مباح.
وإذن يكون مجرد ترك النبي -ﷺ- للمصافحة، لا يحمل دليلاً على حرمتها، ولابد من دليل آخر لمن يقول بها.
على أن ترك مصافحته، -ﷺ- للنساء في المبايعة ليست موضع اتفاق، فقد جاء عن أم عطية الأنصارية -رضي الله عنها- ما يدل على المصافحة في البيعة، خلافًا لما صح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حيث أنكرت ذلك وأقسمت على نفيه.
روى البخاري في صحيحه عن عائشة: أن رسول الله -ﷺ- كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية: يقول الله تعالى: (يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يُبَايِعْنَك على أن لا يُشْرِكن بالله شيئًا ولا يَسْرِقن ولا يَزْنِينَ ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين بِبُهْتان يَفْترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يَعْصِينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم) (الممتحنة :12)، قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله -ﷺ- : ” قد بايعتك ” كلامًا ولا والله ما مسـت يده يد امرأة قط في المبايعـة، ما يبايعهن إلا بقوله: ” قد بايعتك على ذلك ” (رواه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه ـسورة الممتحنة باب : (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات).
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) في شرح قول عائشة ” ولا والله ” إلخ: فيه القسم لتأكيد الخبر، وكأن عائشة أشارت بذلك إلى الرد على ما جاء عن أم عطية. فعند ابن حبان، والبزار، والطبري، وابن مردويه، من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن جدته أم عطية في قصة المبايعة، قالت: فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: ” اللهم اشهد”.
وكذا الحديث الذي بعده يعني بعد الحديث المذكور في البخاري حيث قالت فيه: (فقبضـت امرأة يدها) (المصدر السابق، باب : (إذا جاءكم المؤمنات يبايعنك) فإنه يشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن.
قال الحافظ: ويمكن الجواب عن الأول: بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقـوع المبايعة وإن لم تقع مصافحة.. وعـن الثاني: بأن المراد بقبض اليد: التأخـر عن القبول.. أو كانت المبايعة تقع بحائل، فقد روى أبو داود في المراسيل عن الشعبي أن النبي -ﷺ- حين بايع النساء أتى ببرد قطري فوضعه على يده، وقال: (لا أصافح النساء) وفي مغازي ابن إسحاق: أنه كان -ﷺ- يغمس يده في إناء وتغمس المرأة يدها معه.
قال الحافظ: ويحتمل التعدد، يعني أن المبايعة وقعت أكثر من مرة، منها ما لم يمس يد امرأة قط لا بحائل ولا بغيره إنما يبايع بالكلام فقط، وهو ما أخبرت به عائشة.. ومنها ما صافح فيه النساء بحائل، وهو ما رواه الشعبي.
ومنها: الصورة التي ذكرها ابن إسحاق من الغمس في الإناء، والصورة التي يدل عليها كلام أم عطية من المصافحة المباشرة.
ومما يرجح احتمال التعدد: أن عائشة تتحدث عن بيعة المؤمنات المهاجرات بعد صلح الحديبية، أما أم عطية فتتحدث فيما يظهر عما هو أعم من ذلك وأشمل لبيعة النساء المؤمنات بصفة عامة، ومنهن أنصاريات كأم عطية راوية الحديث.. ولهذا ترجم البخاري لحديث عائشة تحت عنوان باب: (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) ولحديث أم عطية باب: (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك).
والمقصود من نقل هذا كله: أن ما اعتمد عليه الكثيرون في تحريم المصافحة من ترك النبي -ﷺ- لها في بيعة النساء، ليس موضع اتفاق، كما قد يظن الذين لا يرجعون إلى المصادر الأصلية، بل فيه الخلاف الذي ذكرناه.
وقد استدل بعض العلماء المعاصرين على تحريم مصافحة المرأة بما أخرجه الطبراني والبيهقي عن معقل بن يسار عن النبي -ﷺ- قال: ” لأن يطعن في رأس أحدكم بِمخْيَط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له “، قال المنذري في الترغيب: ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح.
والمخيط: آلة الخياطة كالإبرة والمسلة ونحوها.
ويلاحظ على الاستدلال بهذا الحديث ما يلي:.
1ـ أن أئمة الحديث لم يصرحوا بصحته، واكتفى مثل المنذري أو الهيثمي أن يقول: رجاله ثقات أو رجال الصحيح.. وهذه الكلمة وحدها لا تكفي لإثبات صحة الحديث لاحتمال أن يكون فيه انقطاع، أو علة خفية، ولهذا لم يخرجه أحد من أصحاب الدواوين المشهورة، كما لم يستدل به أحد من الفقهاء في الأزمنة الأولى على تحريم المصافحة ونحوه.
2 -أن فقهاء الحنفية، وبعض فقهاء المالكية قالوا: إن التحريم لا يثبت إلا بدليل قطعي لا شبهة فيه، مثل القرآن الكريم والأحاديث المتواترة ومثلها المشهورة، فأما ما كان في ثبوته شبهة، فلا يفيد أكثر من الكراهة مثل أحاديث الآحاد الصحيحة.. فكيف بما يشك في صحته ؟!.
3ـ على فرض تسليمنا بصحة الحديث، وإمكان أخذ التحريم من مثله، أجد أن دلالة الحديث على الحكم المستدل عليه غير واضحة ؛ فكلمة ” يمس امرأة لا تحل له ” لا تعني مجرد لمس البشرة للبشرة، بدون شهوة، كما يحدث في المصافحة العادية.. بل كلمة ” المس ” حسب استعمالها في النصوص الشرعية من القرآن والسنة تعني أحد أمرين:.
1 ـ أنها كناية عن الصلة الجنسية ” الجماع ” كما جاء ذلك عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (أو لامستم النساء) أنه قال: اللمس والملامسة والمس في القرآن كناية عن الجماع.. واستقراء الآيات التي جاء فيها المس يدل على ذلك بجلاء، كقوله تعـالى على لسان مريم: (أنى يكـون لي ولد ولم يمسسني بشـر) (آل عمران: 47).(وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن). (البقرة: 237).
وفي الحديث أن النبي -ﷺ- كان يدنو من نسائه من غير مسيس.
2ـ أنها تعني ما دون الجماع من القبلة والعناق والمباشرة ونحو ذلك مما هو مقدمات الجماع، وهذا ما جاء عن بعض السلف في تفسير الملامسة:.
قال الحاكم في كتاب ” الطهارة ” من ” المستدرك على الصحيحين”.
“قد اتفق البخاري ومسلم على إخراج أحاديث متفرقة في المسندين الصحيحين يستدل بها على أن اللمس ما دون الجماع.
أ – منها: حديث أبي هريرة: ” فاليد زناها اللمس…”.
ب – وحديث ابن عباس: ” لعلك مسست “.
جـ – وحديث ابن مسعود: ” وأقم الصلاة طرفي النهار… ” (يشير إلى ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن مسعود، وفي بعض رواياته: أن رجلاً أتى النبي -ﷺ-، فذكر أنه أصاب من امرأة، إما قبلة أو مسًا بيده، أو شيئًا. كأنه يسأل عن كفارتها، فأنزل الله عز وجل.. يعني آية : (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) (هود: 114) رواه مسلم بهذا اللفظ في كتاب التوبة برقم 40).قال: وقد بقى عليهما أحاديث صحيحة في التفسير وغيره.. وذكر منها:.
د ـ عن عائشة قالت: ” قَلَّ يوم، إلا وكان رسول الله -ﷺ- يطوف علينا جميعًا تعني نساءه فيقبل ويلمس ما دون الوقاع، فإذا جاء إلى التي هي يومها ثبت عندها”.
هـ وعن عبد الله بن مسعود قال: (أو لامستم النساء) هو مادون الجماع وفيه الوضوء”.
و ـ وعن عمر قال: ” إن القبلة من اللمس فتوضأ منها “. (انظر المستدرك 1/135).
ومن هنا كان مذهب مالك، وظاهر مذهب أحمد: أن لمس المرأة الذي ينقض الوضوء هو ما كان بشهوة، وبه فسروا قوله تعالى: (أو لامستم النساء) وفي القراءة الأخرى: (أو لامستم النساء.).
ولهذا ضعف شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه قول من فسروا الملامسة أو اللمس في الآية بمجرد مس البشرة البشرة ولو بلا شهوة.
ومما قاله في ذلك:.
(فأما تعليق النقض بمجرد اللمس، فهذا خلاف الأصول، وخلاف إجماع الصحابة وخلاف الآثار، وليس مع قائله نص ولا قياس.
فإن كان اللمس في قوله تعالى: (أو لامستم النساء) إذا أريد به اللمس باليد والقبلة ونحو ذلك كما قاله ابن عمر وغيره فقد علم أنه حيث ذكر ذلك في الكتاب والسنة، فإنما يراد به ما كان لشهوة، مثل قوله في آية الاعتكاف : (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) ومباشرة المعتكف لغير شهوة لا تحرم عليه، بخلاف المباشرة لشهوة.
وكذلك قوله: (ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) وقوله: (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن)، فإنه لو مسها مسيسًا خاليًا من غير شهوة لم يجب به عدة، ولا يستقر به مهر، ولا تنتشر به حرمة المصاهرة باتفاق العلماء.
فمن زعم أن قوله: (أو لامستم النساء) يتناول اللمس وإن لم يكن لشهوة فقد خرج عن اللغة التي جاء بها القرآن، بل وعن لغة الناس في عرفهم، فإنه إذا ذكر المس الذي يقرن فيه بين الرجل والمرأة علم أنه مس الشهوة، كما أنه إذا ذكر الوطء المقرون بين الرجل والمرأة، علم أنه الوطء بالفرج لا بالقدم).ا.هـ (انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ط الرياض 21/223، 224).
وذكر ابن تيمية في موضع آخر: أن الصحابة تنازعوا في قوله تعالى: (أو لامسـتم النسـاء) فكان ابن عباس وطائفة يقولون: الجماع، ويقولون: الله حيي كريم، يُكَنِّي بما شاء عما شاء.
قال: وهذا أصح القولين.
وقد تنازع العرب والموالي في معنى اللمس: هل المراد به الجماع أو ما دونه ؟ فقالت العرب: هو الجماع، وقالت الموالي: هو ما دونه، وتحاكموا إلى ابن عباس فصوب العرب، وخطأ الموالي. (انظر المرجع السابق).
والمقصود من نقل هذا الكلام كله أن نعلم أن كلمة ” المس ” أو ” اللمس ” حين تستعمل من الرجل للمرأة، لا يراد بها مجـرد وضـع البشـرة على البشرة، بل المراد بها إما الجماع، وإما مقدماته من التقبيل والعناق، ونحـو ذلك من كل مس تصحبه الشهـوة والتلذذ.
على أننا لو نظرنا في صحيح المنقول عن رسول الله -ﷺ- لوجدنا ما يدل على أن مجرد لمس اليد لليد بين الرجل والمرأة بلا شهوة ولا خشية فتنة، غير ممنوع في نفسه، بل قد فعله النبي -ﷺ- والأصل في فعله أنه للتشريع والاقتداء : (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). (الأحزاب :21).
فقد روى البخاري في كتاب ” الأدب ” من صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة، لتأخذ بيد رسول الله -ﷺ-، فتنطلق به حيث شاءت”.
وفي رواية للإمام أحمد عن أنس أيضًا قال:.
“إن كانت الوليدة يعني الأمة من ولائد أهل المدينة لتجيء، فتأخذ بيد رسول الله -ﷺ-، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت”. وأخرجه ابن ماجة أيضًا.
قال الحافظ في الفتح: (والمقصود من الأخذ باليد لازمه، وهو الرفق والانقياد، وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع، لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمم بلفظ ” الإماء ” أي أمة كانت، وبقوله ” حيث شاءت ” أي مكان من الأمكنة، والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة، والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة لساعد على ذلك.
وهذا دليل على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر -ﷺ-). (فتح الباري جـ 13).
وما ذكره الحافظ -رحمه الله- مسلم في جملته، ولكن صرفه معنى الأخذ باليد عن ظاهره إلى لازمه وهو الرفق والانقياد غير مسلم ؛ لأن الظاهر واللازم مرادان معًا.. والأصل في الكلام أن يحمل على ظاهره، إلا أن يوجد دليل أو قرينة معينة تصرفه عن هذا الظاهر، ولا أرى هنا ما يمنع ذلك.. بل إن رواية الإمام أحمد، وفيها: ” فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت “، لتدل بوضوح على أن الظاهر هو المراد، وأن من التكلف والاعتساف الخروج عنه.
وأكثر من ذلك وأبلغ ما جاء في الصحيحين والسنن عن أنس أيضًا ” أن النبي -ﷺ- قال من القيلولة عند خالته خالة أنس أم حرام بنت ملحـان زوج عبـادة بن الصامت، ونام عندها، واضعًا رأسه في حجرها وجعلت تفلي رأسه… “إلخ ما جاء في الحديث.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن حجر في بيان ما يؤخذ من الحديث، قال: (وفيه جواز قائلة الضيف في غير بيته بشرطه كالإذن وأمن الفتنة..، وجواز خدمة المرأة الأجنبية للضيف بإطعامه والتمهيد له ونحو ذلك.
وفيه خدمة المرأة الضيف بتفلية رأسه وقد أشكل هذا على جماعة، فقال ابن عبد البر: أظن أن أم حرام أرضعت رسول الله -ﷺ-، أو أختها أم سليم، فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة، فلذلك كان ينام عندها، وتنال منه ما يجوز للمحرم أن يناله من محارمه.. ثم ساق بسنده ما يدل على أن أم حرام كانت منه ذات محرم من قبل خالاته، لأن أم عبد المطلب جده كانت من بني النجار… إلخ.
وقال غيره: بل كان النبي -ﷺ- معصومًا، يملك إربه عن زوجته فكيف عن غيرها مما هو المنزه عنه ؟ وهو المبرأ عن كل فعل قبيح، وقول رفث، فيكون ذلك من خصائصه.
ورد ذلك القاضي عياض بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، وثبوت العصمة مسلم لكن الأصل عدم الخصوصية، وجواز الاقتداء به في أفعاله، حتى يقوم على الخصوصية دليل.
وبالغ الحافظ الدمياطي في الرد على من قال بالاحتمال الأول، وهو ادعاء المحرمية، فقال:.
ذهل كل من زعم أن أم حرام إحدى خالات النبي -ﷺ- من الرضاعة أو من النسب، واللاتي أرضعنه معلومات، ليس فيهن أحد من الأنصار ألبتة، سوى أم عبد المطلب، وهي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وأم حرام هي بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر المذكور.. فلا تجتمع أم حرام وسلمى إلا في عامر بن غنم جدهما الأعلى.. وهذه خئولة لا تثبت بها محرمية، لأنها خئولة مجازية، وهي كقوله -ﷺ- لسعد بن أبي وقاص : (هذا خالي)، لكونه من بني زهرة، وهم أقارب أمه آمنـة، وليس سـعد أخًا لآمنة، لا من النسب، ولا من الرضـاعة، ثم قال: وإذا تقرر هذا فقد ثبت في الصحيح: أنه -ﷺ- كان لا يدخل على أحد من النساء إلا على أزواجه، إلا على أم سليم، فقيل له أي سـئل في ذلك فقال: “أرحمها، قتل أخوها معي “.يعني حرام بن ملحان.. وكان قد قتل يوم بئر معونة.
وإذا كان هذا الحديث قد خص أم سليم بالاستثناء، فمثلها أم حرام المذكورة هنا.. فهما أختان وكانتا في دار واحدة، كل واحدة منهما في بيت من تلك الدار، وحرام بن ملحان أخوهما معًا، فالعلة مشتركة فيهما كما ذكر الحافظ ابن حجر.
وقـد انضاف إلى العلة المـذكورة أن أم سليم هي أم أنس خـادم النبي -ﷺ-، وقد جرت العادة بمخالطة المخدوم خادمه، وأهل خادمه، ورفع الحشمة التي تقع بين الأجانب عنهم.
ثم قال الدمياطي: على أنه ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بأم حرام، ولعل ذلك كان مع ولد، أو خادم، أو زوج، أو تابع.
قال ابن حجر: وهو احتمال قوي، لكنه لا يدفع الإشكال من أصله، لبقاء الملامسة في تفلية الرأس، وكذا النوم في الحجر.
قال الحافظ: وأحسن الأجوبة دعوى الخصوصية، ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل لأن الدليل على ذلك واضح). (انظر: فتح الباري 13/230 ،231 بتصرف).
ولا أدري أين هذا الدليل، غامضًا كان أو واضحًا ؟.
والذي يطمئن إليه القلب من هذه الروايات أن مجرد الملامسة ليس حرامًا.. فإذا وجدت أسباب الخلطة كما كان بين النبي -ﷺ- وأم حرام وأم سليم، وأمنت الفتنة من الجانبين، فلا بأس بالمصافحة عند الحاجة كمثل القادم من سفر، والقريب إذا زار قريبة له أو زارته، من غير محارمه، كابنة الخال، أو ابنة الخالة، أو ابنة العم، أو ابنة العمة أو امرأة العم، أو امرأة الخال أو نحو ذلك، وخصوصًا إذا كان اللقاء بعد طول غياب.
والذي أحب أن أؤكده في ختام هذا البحث أمران:.
الأول: أن المصافحة إنما تجوز عند عدم الشهوة، وأمن الفتنة، فإذا خيفت الفتنة على أحد الطرفين، أو وجدت الشهوة والتلذذ من أحدهما حرمت المصافحة بلا شك.
بل لو فقد هذان الشرطان عدم الشهوة وأمن الفتنة بين الرجل ومحارمه مثل خالته، أو عمته، أو أخته من الرضاع، أو بنت امرأته، أو زوجة أبيه، أو أم امرأته، أو غير ذلك، لكانت المصافحة حينئذ حرامًا
بل لو فقد الشرطان بين الرجل وبين صبي أمرد، حرمت مصافحته أيضًا.. وربما كان في بعض البيئات، ولدى بعض الناس، أشد خطرًا من الأنثى.
الثاني: ينبغي الاقتصار في المصافحة على موضع الحاجة، مثل ما يكون بين الأقارب والأصهـار الذين بينهم خلطـة وصلة قوية، ولا يحسـن التوسع في ذلك، سدًا للذريعة، وبعدًا عن الشبهة، وأخذًا بالأحوط، واقتداءً بالنبي -ﷺ-، الذي لم يثبت عنه أنه صافح امرأة أجنبية قط . وأفضل للمسلم المتدين، والمسلمة المتدينة ألا يبدأ أحدهما بالمصافحة، ولكن إذا صوفح صافح.
وإنما قررنا الحكم ليعمل به من يحتاج إليه دون أن يشعر أنه فرط في دينه، ولا ينكر عليه من رآه يفعل ذلك ما دام أمرًا قابلاً للاجتهاد .
والله أعلم .
العلامة الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي