إن الوعي بالأماكن المقدسة التي تتم فيها شعائر الحج الأكبر أمر ضروري؛ إذ فيه ربط بين الماضي والحاضر، واستشعار لعمق هذه الشعائر، فهذه الأماكن التي يذهب إليها الحاج، وتلك الشعائر التي يزاولها تحمل معاني عميقة ودلائل عظيمة.. فعندما يذهب الحاج إلى العقبة لرمي الجمرات؛ فإنه يتذكر بيعة العقبة التي كانت نواةً للدولة الإسلامية الأولى، وكانت بمثابة جمعية تأسيسية لإقامة الدولة المنشودة.
وقال النبي ـ ﷺ ـ لهؤلاء القوم: “اختاروا منكم اثني عشر نقيبًا. فبالشورى، والاختيار، والاقتراع وُلِدَت أولى المؤسسات الدستورية في الدولة الإسلامية. وفي الغالب فإن الناس يهتمون ويتذكرون مكان أول برلمان، فالناس يذهبون إلى اليونان ويقولون: هنا كانت أكاديمية أفلاطون، وهنا كان سقراط يلتقي بتلاميذه، فهنا معنى المكان، فما بالك بالمكان الذي أُسِّسَت به أولى دول الإسلام في العهد النبوي؟!
وكذلك عند الطواف ينبغي للحاج أن يتسلح بشئ من الوعي بالأماكن المقدسة وأن يتذكر أنه حول هذا البيت العتيق طاف الرسول- عليه السلام- والأنبياء من قبله.. وكذلك الناس يذهبون إلى مسجد الرسول ـ ﷺ ـ وإلى الروضة الشريفة، ونحفظ حديث النبي: “ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة” (متفق عليه)، والناس يحرصون على الصلاة في الروضة، ويعرفون أن الصلاة في هذا المكان لها أجرها العظيم وثوابها الكبير، ولكنني في الحقيقة أشير إلى معنى آخر، ففي هذه الروضة كانت مدرسة النبوة التي تخرج فيها الجيل الفريد الذي غيَّر مجرى التاريخ والحضارة..
وهذا “ربعي بن عامر” عندما يذهب إلى “رستم” قائد الفرس ويسأله: ما الذي جاء بكم؟ فيقول: جئنا لنخرج مَن شاء الله مِن عبادِهِ من عبادةِ العباد إلى عبادةِ ربِّ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
فما أحسن أن نلتفت إلى “فقه المكان” فعندما أقف ـ مثلاً ـ وأنظر إلى مثوى رسول الله ـ ﷺ ـ فهذه لحظة نورانية. وأحس أنه حي، وأنني أناجيه، وأنه يسمعني.. وأنا آسف وأحزن عندما يهتم المسلمون بالشكل لا بالمضمون، وبالمظهر لا بالجوهر، وتأمّل فعندما يتحدث الإسلام أو القرآن عن الصلاة لا يقول أداء الصلاة إنما يقول “إقامة الصلاة“.. فنحن نريد إقامة مناسك الحج والعمرة؛ فنعرف فقه المكان، وفقه الزمان، وفقه المناسك.. ونربط الماضي بالحاضر، ونتزود من ذلك بالدروس والعبر العظيمة.. ولاحظ أن المولى- تبارك وتعالى- عندما تحدث عن الزاد في الحج بيَّن أنه التقوى فقال: “وتزودا فإنَّ خيرَ الزَّادِ التَّقْوَى”، وعندما تحدث عن الذبائح قال: “لن ينالَ اللهَ لحومُهُا ولا دماؤُهَا ولكن ينالُهُ التَّقْوى منكم”.
د. محمد عمارة