إن الموقف من التفسير العلمي يؤول إلى تأييده إذا روعيت ضوابطه، نعم هذا الكلام قد يصح على فئة، ولكنه لا يصح على فئة أخرى لأسباب منهجية ومعرفية. ولعل الحكم الفيصل في هذا النقاش هو الإجابة عن التساؤلات السابقة من خلال ملاحظة تطبيقات المؤيدين باعتبارها المنطلق الرئيسي المسوغ للقول بهذه الأسبقية من عدمها، والكشف عن مدى استطاعة المفسر العلمي في الاستدلال على هذه الأسبقية.
سبق أم تعليل علمي للظاهرة ؟
يبين “زهير رابح قرامي” الأسباب العلمية للأعراض الطبية التي أصابت زكريا عليه السلام، والتي ذكرت في سورة مريم في قوله تعالى: (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبكَ عَبْدَهُ زَكَرِيا * إِذْ نَادَى رَبهُ نِدَاء خَفِيا * قَالَ رَب إِني وَهَنَ الْعَظْمُ مِني وَاشْتَعَلَ الرأْسُ شَيْبا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَب شَقِيا * وَإِني خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَب رَضِيا * يَا زَكَرِيا إِنا نُبَشرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيا * قَالَ رَب أَنى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنْ الْكِبَرِ عِتِيا ) [مريم: 2-8] فالآيات ذكرت خمسة أعراض طبية هي: وهن العظم، شيب الرأس، الخوف، ضعف الخصوبة، الكبر الشديد، وهي تصيب أي إنسان ممن تقدم به العمر.
يرى “قرامي” أن هناك علاقة فيما بين هذه الأعراض، تتمثل في تناسقها الهرموني، لذا اختيرت دون غيرها؛ فاستمرار الخوف يسبب زيادة هرمون الكورتيزون الذي يؤدي إلى وهن العظام، ويزداد إفرازه عند التوتر والقلق، كما يسبب نقصا في الخصوبة. وبسبب التوتر تفرز من النهايات العصبية في الشعر مادة ضارة لخلايا التلوين، وهي من نوع الهرمونات أحادي الأمين، وتسمى الأدرينالين. وكذلك بسبب التوتر يحصل في الخصية أيضا إفراز لأحادي الأمين من نوع آخر يسمى السيروتونين، وهو مضر بإنتاج الحيوانات المنوية، ويرتفع كلا الهرمونين في حالة التوتر. “والنتيجة هي زيادة معتبرة وعالية في هرمون التوتر (الكورتيزون وهرمونات أحادية الأمين) وكذلك نقص شديد بسبب الشيخوخة في هرمون التوستيستيرون والهرمون المنشط لخلايا التلوين، وهذه الهرمونات الأربعة -وبتغييراتها المذكورة- تؤثر سلبيا في عملية إنتاج الحيوانات المنوية”. ويكفي وجود عامل واحد لتعطيل هذا الإنتاج “فكيف إذا اجتمعت هذه العوامل الأربعة وتحت تأثير تصعيدي متبادل لسببيهما: هما الشيخوخة والخوف؟” ثم يقول : “فمن يقدر غير الله سبحانه على هذا البيان البلاغي والعلمي الذي يتناول معلومات كانت مجهولة حين نزل القرآن الكريم منذ 14 قرنا في جزيرة صحراوية، وعلى لسان رجل أمي في أمة أمية؟ إنه الله الواحد، العليم الخبير الذي بيده كل الكون، وله كل العلوم، وكل المشيئة .
لقد جعل المفسر “قرامي” هذه الآيات دالة على الإعجاز العلمي؛ لأنها ذكرت تناسقا هرمونيا يستحيل أن يعرف في عصر نزول القرآن، ولكن الذي يبدو لي أنه بين تعليلا علميا للأعراض التي أصابت زكريا عليه السلام في كبره؛ ذلك لأنه هو الذي تكلف بإيجاد هذا التناسق الهرموني، دون أن تدل الآية على ذلك، فقد أرجع كل الأعراض السابقة إلى الخوف والتوتر، علما بأنه ذكر أن هناك علاقة متبادلة بين الخوف والكبر؛ فالخوف يعجل بالكبر كما أن الكبر يزيد من الخوف، ولكن الآية لم تشر إلى أيهما وقع أولا لزكريا عليه السلام حتى يُرْجع كل الأعراض إلى الخوف والتوتر، فلماذا لم يكن الجامع بين هذه الأعراض هو هرمون الشيب أو وهن العظم أو الكبر؟ علما بأن لوهن العظم أسبابا أخرى كما ذكر، ترجع إلى نقص في كفاءة خلايا البناء العظمي، ونقص فيتامين “د” . وفضلا عن ذلك أن الهرمونات متشابكة فيما بينها، وما وضعه الأطباء من تقسيمات لها إنما هو للتبسيط فقط.
عدم مراعاة السياق : ذهب “محمد كامل عبد الصمد” مؤلف كتاب (الإعجاز العلمي في الإسلام.. القرآن الكريم) إلى أن قوله تعالى: (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) [سبأ: 53] يدل على أن القرآن تنبأ بوسائل الاتصال الحديثة، فلقد صار بإمكان الشخص أن يتصل مع غيره من مكان بعيد بواسطة الهاتف، وأن يسمع الإذاعة من دولة بعيدة، وأن يرى عن بعد بواسطة التلفاز، ليصل بذلك إلى أن هذا التنبؤ يعد إعجازا في المقاييس العقلية.
يبدو لي أنه إذا نظرنا إلى سياق الآية نجد أنها معطوفة على ما قبلها وهو قوله تعالى: (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) [سبأ: 53] الذي هو حديث عن الكفار، وتوضح ذلك الآيتان اللتان قبلها.. قال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنا بِهِ وَأَنى لَهُمْ التنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) [سبأ: 51-52] إن الآيات تتحدث عن إعلان الكفار عن إيمانهم يوم الفزع، ولكن لن ينفعهم هذا التعاطي للإيمان؛ لأنهم قد بعدوا عن مكان قبوله منهم، ويأتي بعد ذلك قوله تعالى: (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) [سبأ: 53] فلقد كانوا كافرين في الدنيا ينكرون الأمور الغيبية من جنة ونار وحساب وبعث. (من مكان بعيد) عن الصدق والصواب أو كما قال تعالى: (رجما بالغيب ) [الكهف: 22] أي قولهم في رسول الله مرة شاعر، ومرة مجنون وأخرى كاهن.. وهذا تكلم بالغيب لأنهم لم يشاهدوا منه كذبا ولا سحرا ولا شعرا، فكان اتهامهم له بأمور بعيدة عن حاله.
هذا هو تفسير الآية إذا راعينا سباقها، فضلا عن أن تفسير الآية بالتنبؤ بوسائل الاتصال الحديثة يجعل هذه الأخيرة حكرا على الكفار بمقتضى سباق الآية وسياقها، بينما الواقع خلاف ذلك.
عدم مراعاة المصطلح القرآني :فسر “حسن حامد عطية” قوله تعالى: ( فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِم خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصلْبِ وَالترَائِبِ) [الطارق: 5-7] بتيار الدم المتدفق الذي بتوقفه عن التدفق تتوقف الحياة، وباستمرار تدفقه تستمر الحياة، وهذا الماء (الدم) يخرج من بين الصلب والترائب؛ أي من القلب الموجود بين عظام الظهر وضلوع الصدر، بالإضافة إلى أن كريات الدم الحمراء والبيضاء تتكون في نخاع العظام، وعلى الأخص النخاع الأحمر الذي مصدره فقار الظهر وضلوع الصدر (الصلب والترائب).
إن المتتبع لاستعمال القرآن الكريم للفظ الماء يجد أنه قصد به معنيين: الأول ماء المطر الذي ينزل من السماء ولا يستطيع الإنسان العيش من دونه، كما في قوله تعالى: (وَأَنْزَلَ مِنْ السمَاءِ مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثمَرَاتِ رِزْقا لَكُمْ ) [البقرة:22] وقوله: (وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنْ السمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) [البقرة: 164] وقوله: (وَأَرْسَلْنَا الريَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السمَاءِ مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) [الحجر: 22].
المعنى الثاني: هو النطفة أصل خلق الإنسان، وذلك في الآيات التي يضاف الماء فيها إلى خلق الإنسان، كما في قوله تعالى: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) [المرسلات: 20-21]، وقوله: ( ثُم جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ) [السجدة: 8]، فالمقصود بالمهين الحقير، وبالماء النطفة.
نخلص مما سبق إلى أن بعض التفاسير العلمية عكست الأهداف التي يريد المفسر العلمي تحقيقها؛ من إظهارٍ للصلة بين العلم والقرآن، وأن آيات القرآن دالة على ما يقول به العلم، فكان كل ذلك على حساب النص؛ حيث طغت المادة العلمية التي يريد المفسر أن يربطها بالنص القرآني على تفسيره، فلم يلتفت إلى موضوع الآية ولا إلى سياقها ولا إلى دلالات ألفاظها…، وإنما كان همه أن يجعلها دالة على ما يقول به العلم، هذا الذي أدى إلى تفسيرٍ للظواهر الكونية وليس إلى تفسير آيات القرآن الكريم.
أسبقية القرآن في الإثبات أم عدم مناقضته لما يثبت : حاول المفسر العلمي أن يستدل بالآية على أن فيها ذكرا للعلوم الحديثة، ولكن هل هذه الدلالة متفق عليها بين جميع من يقول بالتفسير العلمي؟ ومن كان المحدد لهذه الأسبقية: العلم أم النص؟ وهل استطاع المفسر أن يستدل بالآية على أسبقية القرآن في ذكره للعلوم دون أي تكلف وتحميل للآيات ما لا تحتمل؟
إذا كان هناك اتفاق على دلالة بعض الآيات، فإن هناك اختلافا حول دلالة بعضها الآخر، مثال ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخا وَحِجْرا مَحْجُورا) [الفرقان: 53].
يستدل “أحمد مطهر” في هذه الآية على سبق قرآني أثبته العلم الحديث؛ إذ ينطلق من الاكتشافات الحديثة حول موضوع الحاجز، ويتبين له من خلالها:
1- أن هناك منطقة في المصب بين مياه البحر ومياه النهر، تفصل بين النهر والبحر، وهي مزيج من الملوحة والعذوبة، تتحرك بينهما بحسب المد والجزر.
2- يحيط بهذه المنطقة برزخ مائي يحافظ عليها بخصائصها المميزة لها.
3- أن هذا البرزخ يفصل بين ماء النهر وماء البحر على الدوام، فمع وجود عوامل المزج من مد وجزر وأعاصير وفيضانات فإنهما لا يلتقيان مباشرة .
4- “يحصل الامتزاج بصورة بطيئة مع وجود المنطقة الفاصلة والبرزخ المائي المحيط بها”.
5- إن الكائنات الحية لا تستطيع العيش إلا في بيئتها المائية، سواء البحرية أو النهرية أو منطقة المصب، لذا كانت الأخيرة محجورة على معظم الكائنات التي تعيش فيها، ومحظورة على معظم الكائنات التي تعيش في النهر والبحر؛ لأنها تموت إذا دخلت فيها بسبب اختلاف الضغط.
“فهذا النظام الإلهي البديع قد جعله الله لحفظ الكتل المائية متجاورة غير مختلطة. ونحن عاجزون عن رؤية هذا الحاجز بالعين المجردة، لكن الأقمار الصناعية حديثا تزودنا بصور باهرة تبين حدود الكتل المائية الثلاث”.
إذن يعتبر أحمد مطهر أن هذه الظاهرة التي أثبتها العلم الحديث اليوم قد سبق القرآن إلى ذكرها، ولكن ألم تكن معروفة في العصور الأولى؟
بعد أن فسر الطبري البرزخ بأنه الحاجز الذي يمنع كلا منهما -ماء البحر وماء النهر- من إفساد الآخر، ينقل عن ابن جريج قوله: “فلم أجد بحرا عذبا إلا الأنهار العذاب، فإن دجلة تقع في البحر، فأخبرني الخبير أنها تقع في البحر فلا تمور فيه، بينهما مثل الخيط الأبيض، فإذا رجعت لم ترجع في طريقها من البحر”.
أما ابن عاشور فيجعل هذه الظاهرة معروفة عند العرب، فالنهر هو الفرات والبحر بحر العجم المسمى اليوم بالخليج الفارسي. في شاطئ البصرة “والبلاد التي على الشاطئ العربي من الخليج الفارسي تعرف عند العرب ببلاد البحرين”، والبرزخ بين المائين هو الفاصل بينهما، بحيث لا يغير أحدهما طعم الآخر الذي بجواره؛ لأن لكل منهما خصائص تمنع اختلاط الآخر به.
على هذا التفسير يؤول تفسير أحمد مطهر إلى تفسير لهذه الظاهرة علميا وليس بيانا لسبق قرآني.
أما “داود سلمان السعدي” فيبين أن المقصود بالبرزخ عدم طغيان البحار على الأنهار، حتى لا تصير كل الأنهار ملحا أجاجا، فمن رحمة الله تعالى أنه جعل البحار في أرض منخفضة، وجعل الأنهار في أرض مرتفعة .
يبدو لي أن الآية لم تبين كنه هذا الحاجز، وإنما بينت وظيفته في آية أخرى، وهي قوله تعالى: ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ) [الرحمن: 19-20] إذ أشارت إلى أن وظيفة هذا الحاجز هو عدم طغيان أحدهما على الآخر، ولكن بماذا يمكن أن يكون هذا الطغيان؟
إن آية الفرقان حددت صفة البحرين، وهي العذوبة للنهر والملوحة للبحر، لذلك يكون طغيان أحدهما على الآخر بذهاب صفته، فجعل البرزخ لمنع ذلك.
يتأكد هذا المعنى بقوله تعالى: ( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُل تَأْكُلُونَ لَحْما طَرِيا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَة تَلْبَسُونَهَا ) [فاطر: 12] فقد أشارت الآية إلى أبرز صفتين للمياه وهي الملوحة للبحار والعذوبة للأنهار.
بالإضافة إلى ذلك فإن الحاجز بين البحرين لا يمنع كل الكائنات الحية من تجاوزه والعيش فيه، فهناك أنواع من الكائنات الحية تستطيع العيش في كل البيئات مثل سمك السلمون وثعابين البحر.
لذلك يبدو أن تفسير ابن عاشور للآية هو الأرجح؛ لأن المرج هو الخلط في كلام العرب؛ أي أن هناك التقاء بين الماءين، فلا يمكن أن يكون الحاجز هو اليبس من الأرض.
تحديد معنى المصطلح القرآني على ضوء العلم الحديث
يذكر القرآن مراحل التخلق البشري في الآيات التالية (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُم جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُم خَلَقْنَا النطْفَةَ عَلَقَة فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَة فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاما فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْما ثُم أَنشَأْنَاهُ خَلْقا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) [المؤمنون: 12-14].
قسمت الآية مراحل تخلق الجنين الإنساني إلى ثلاث مراحل أساسية، وفصلت بينها بحرف “ثم” الذي يفيد الترتيب مع التراخي؛ “فالمرحلة الأولى هي مرحلة النطفة، والمرحلة الثانية هي مرحلة التخليق، والمرحلة الثالثة هي مرحلة النشأة”.
أما المرحلة الثانية فتتألف من أطوار أربعة هي: “العلقة، المضغة، العظام، اللحم”، وتبدأ هذه المرحلة في الأسبوع الثالث، وتنتهي في آخر الأسبوع الثامن. ولأن العمليات التخلقية للجنين في هذه المرحلة تتلاحق فيها الأحداث بسرعة كبيرة، فقد استعمل القرآن الكريم حرف العطف “الفاء” الذي يدل على الترتيب مع التعقيب.
وتتناول مجلة الإعجاز طورَي العلقة والمضغة في عددها الثاني بالدراسة:
أ- طور العلقة: تبدأ بالفهم اللغوي للفظ العلقة من كتب اللغة، فتذكر أنها مشتقة من عَلَق “وهو الالتصاق والتعلق بشيء ما”، والعلقة: دودة في الماء تمتص الدم، وتتغذى على دماء الحيوانات التي تلتصق بها، وتطلق على الدم الجامد وعلى الدم الرطب. ولقد جاءت في القرآن الكريم مطلقة لتشمل جميع المعاني التي ذكرت.
ثم تُبين مجلة الإعجاز التحقيق العلمي للنص؛ إذ تلتصق المتكيسة الجرثومية (النطفة تامة التكوين) بجدار الرحم في بداية طور الحرث (الانغراس) من اليوم السادس، وتستغرق هذه العملية حتى تنزرع تماما أكثر من أسبوع لتلتصق النطفة بالمشيمة البدائية بواسطة الحبل السري (ساق موصلة)، وفي أثناء هذه العملية تأخذ العلقة شكلا جديدا، وتفقد النطفة شكلها الذي كانت عليه قبل عملية الحرث، وهذا يتفق مع الوصف القرآني للعلقة؛ إذ إن أحد مدلولاتها “التعلق بالشيء”.
“أما إذا أخذنا المعنى الحرفي للعلقة (دودة عالقة) فإننا نجد أن الجنين يفقد شكله المستدير، ويستطيل حتى يأخذ شكل الدودة”، ويتغذى من دماء الأم، كما تتغذى الدودة العالقة من دماء الكائنات الأخرى. وكما تحاط الدودة بالماء، يحاط الجنين بمائع مخاطي ، “ويبين اللفظ القرآني (علقة) هذا المعنى بوضوح، طبقا لمظهر وملامح الجنين في هذه المرحلة”، وأن المظهر الخارجي للجنين يتشابه مع الدم الجامد الغليظ وهو أحد معاني لفظ (العلقة)؛ لأن مجموعة الأوعية الدموية القلبية وكيس المشيمة والقلب الأولي تظهر في هذه المرحلة ولا يبدأ الدم المحبوس في الأوعية الدموية بالدوران إلا في نهاية الأسبوع الثالث، “وبهذا يأخذ الجنين مظهر الدم الجامد أو الغليظ مع كونه دما رطبا”.
هذه الملامح تندرج تحت معاني لفظ (العلقة) من (دم جامد) أو (دم رطب)، “أما الفترة الزمنية التي يستغرقها التحول من نطفة إلى علقة: فإن الجنين خلال مرحلة الانغراس أو الحرث يتحول من مرحلة النطفة ببطء؛ إذ يستغرق نحو أسبوع منذ بداية الحرث (اليوم السادس) إلى مرحلة العلقة حتى يبدأ في التعلق (اليوم الرابع عشر والخامس عشر)، ويستغرق بدء نمو الحبل الظهري حوالي عشرة أيام (اليوم السادس عشر) حتى يتخذ الجنين مظهر العلقة” ، وقد استخدم القرآن الكريم حرف العطف “ثم” في الدلالة على التحول البطيء من النطفة إلى العلقة.
“وهكذا فإن التعبير القرآني (علقة) يعتبر وصفا متكاملا دقيقا عن الطور الأول من المرحلة الثانية لنمو الجنين، ويشتمل على الملامح الأساسية والخارجية والداخلية. ويتسع اسم (علقة) فيشمل وصف الهيئة العامة للجنين كدودة عالقة، كما يشمل الأحداث الداخلية كتكون الدماغ والأوعية المقفلة، كما يدل لفظ العلقة على تعلق الجنين بالمشيمة”.
ب- طور المضغة: يتحول الجنين في اليومين بشكل سريع جدا، ويستخدم القرآن في وصف ذلك حرف العطف “الفاء” الذي يدل على التتابع السريع.
أما المضغة في اللغة فهي متعددة المعاني؛ فتأتي بمعنى (شيء لاكته الأسنان)، وبمعنى صغار الأمور، ويمكن إدراك تطابق لفظ مضغة بوصف العمليات الجارية في هذا الطور في النقاط التالية:
ظهور الفلقات (الكتل البدنية) في هذا الطور تجعل الجنين يبدو كأنه مادة ممضوغة عليها طبع الأسنان، وهي تتغير باستمرار مثل “تغير آثار طبع الأسنان في شكل مادة تمضغ حين لوكها”، وذلك للتغيرات السريعة التي تطرأ على شكل الجنين، ولكن آثار الطبع تبقى ملازمة. “وكما أن المادة التي تلوكها الأسنان يحدث بها تغضن وانتفاخات وتثنيات فإن ذلك يحدث للجنين تماما”.
نتيجة تحولات في مركز ثقل الجنين تتغير أوضاعه مع حدوث أنسجة جديدة، وذلك يشبه تغير وضع المادة وشكلها حينما تلوكها الأسنان.
ظهر الجنين ينحني ويصبح شبه مستدير مثل حرف (c)، وكذلك المادة الممضوغة تستدير قبل بلعها.
في نهاية هذه المرحلة يكون طول الجنين 1 سم، وجميع أجهزته تتخلق في صورة برعم، وهذا مطابق لأحد معاني (المضغة)، وهو (الشيء الصغير من المادة).
أما ما ذكره بعض المفسرين من أن المضغة (في حجم ما يمكن مضغه) فهو ينطبق على حجم الجنين؛ إذ يكون طوله في نهاية هذا الطور 1 سم.
“وإذا تأمل الإنسان الأطوار السابقة يجد أن مراحلها قصيرة جدا، ولا يمكن الحصول على الأجنة خلالها إلا بوسائل علمية دقيقة كان من المستحيل تيسرها في وقت نزول القرآن الكريم، وما كان يخرج منها [في] حالات الإجهاض على هيئة سقط مبكر يخرج في كمية الدماء، وقد تمزق إلى أجزاء دقيقة لا تعطي مظهرا يمكن دراسته، فضلا عن أن تلك الأجيال لم يكن في إمكانها أن تعلم أن هذه الدماء تحمل سقطا من جنين… وهكذا تعتبر هذه الأوصاف القرآنية دلالات واضحة على أن هذه الحقائق العلمية جاءت للرسول محمد -ﷺ- من الله سبحانه وتعالى” .
يبدو لي أن في تفسير العلقة بما سبق عدة ملاحظات، أهمها:
أن أصل معنى العلق في اللغة ينصرف إلى الدم الغليظ أو الشديد الحمرة ، ومنه قيل “لهذه الدابة التي تكون في الماء علقة لأنها حمراء كالدم”، ونتساءل هنا: هل استعمال القرآن الكريم للفظ العلقة للدلالة على لونها أم لصفات أخرى؟ يمكن أن تكون الإجابة في الملاحظة الثانية.
إن “كيث مور” في كتابه (التطور عند الإنسان مع نظرة سريرية جنينية) يذكر أنه إذا تم الإجهاض في مرحلة العلقة عفويا فإنه يشبه العلقة الدموية؛ أي بمعنى الخثرة الدموية، وهو المعنى الذي أعطي من قبل الناس القدماء لهذا الطور من خلال المظهر الخارجي للجنين المجهض. هذا الذي يؤكد خلاف ما ذكرته مجلة الإعجاز سابقا من أنهم لم يدركوا في العصور السابقة أن المرأة في هذا الطور هي حامل.
دقة التعبير القرآني أم أسبقيته؟
تنطلق الدكتورة هند شلبي في بحثها عن دور الجبال في طبيعة الأرض، من القرآن الكريم دون الاعتماد في هذا على فهم المفسرين السابقين، لأنها لا تعدو أن تكون سوى اجتهادات، لتقارن ذلك مع ما يقوله العلم عن دور الجبال في طبيعة الأرض .
أما عن دور الجبال في طبيعة الأرض في القرآن، فقد عبر القرآن عن الجبال بألفاظ عدة هي: الجبل – الجبال – الرواسي – الطود – الأعلام، وكذلك وصفها بالشامخات وشبهها بالأوتاد.
إن التعبير القرآني عن الجبال بالرواسي كما في قوله تعالى: ( وَهُوَ الذِي مَد الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ) [الرعد: 3] وقوله تعالى: (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) [الغاشية: 32] يدل على أن هناك جذورا عميقة للجبال ذاهبة في الأرض قدر ارتفاعها عن سطح الأرض ؛ لأن مادة رسا تفيد “معنى الثبوت والرسوخ في الأرض، ولا يتم ذلك إلا إذا ذهب أصل الشيء بعيدا فيها”.
وإن في وصف القرآن للجبال بالشموخ ( وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ) [المرسلات: 27] أي العاليات، وتعبيره عن كيفية إقامتها ورفعها على سطح الأرض بفعل نصب ( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ) [الغاشية: 17-19].
ولفت القرآن النظر إلى الاعتبار بطول الجبال لإبراز ضعف الإنسان، قال تعالى: (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحا إِنكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا) [الإسراء: 37].
كل ذلك يدل على أن المقصود من الجبال هي الضخمة منها، وبين القرآن أن وظيفة الجبال الطبيعية أنها تمنع ميدان الأرض، وقد تكرر ذلك في عدة آيات هي:
( وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) [النحل: 15]
( وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) [الأنبياء: 31]
( وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) (56) [لقمان: 10]
“والمعنى اللغوي لفعل ماد: التحرك والميلان. وهو المعنى الذي استقر عليه المفسرون”.
وقد أدرك الصحابة الصلة بين الجبال وسكون الأرض فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “لما خلق الله الأرض قمصت ومالت وقالت: أي رب أتجعل علي من يعمل بالمعاصي والخطايا، ويلقي علي الجيف والنتن! فأرسى الله تعالى فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون”.
ثم تبين “هند شلبي” دور الجبال في طبيعة الأرض من الناحية العملية، فتذكر أن القشرة تتكون من طبقتين: الأولى السيال، والثانية السيما، أما الطبقة الأولى فهي أخف من الثانية، ومنها تتكون القارات والمرتفعات، وأما الطبقة الثانية فهي تحت المحيطات، وباعتبار أن الجاذبية تحت المحيطات أقوى من التي على القارات، أدى ذلك إلى حدوث خلل في التوازن بين جاذبية الطبقتين، بسبب أن كثافة الكتل تحت المحيطات أشد من كثافة الكتل فوق القارات، وحتى تظهر حالة التوازن وجدت الجبال على سطح الأرض، وكذلك وجدت الجبال من أجل عوامل أخرى تسبب عدم التوازن على القشرة الأرضية كالتعرية والترسب… فوجدت الجبال من أجل تثبيت القشرة الأرضية، وبعد هذا تقول: “وهكذا تبينا في هذه المسألة أيضا مدى دقة عبارة القرآن حول دور الجبال في تثبيت الأرض انطلاقا من تخير اللفظ المؤدي للمعنى، ذلك المعنى الذي لم يتم إدراكه على حقيقته إلا بعد أن قطع الفكر البشري المراحل الضرورية التي جعلته قادرا على الوقوف بنفسه على مراده”.
يبدو أن تصور دور الجبال في تثبيت الأرض كان موجودا في العصور السابقة، ويظهر ذلك في الرواية السابقة عن علي رضي الله عنه وفي رواية عن الحسن قال: “لما خلقت الأرض كانت تميد، فقالوا: ما هذه بمقرة على ظهرها من أحد، فأصبحوا وقد خلقت الجبال، فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال”.
ولكن الذي اختلف في العصر الحديث هو أن هناك تفسيرا علميا لهذه الظاهرة، بينما كانت تعليلاتهم في العصور السابقة مرتبطة بأمور غيبية.
وقد تبين في هذا العصر -كما ذكرت هند شلبي- دقة عبارة القرآن حول هذه المسألة. علما بأن القرآن لم يذكر التعليل العلمي لها، وإنما اقتصر على بيان هذا الدور الذي أثبته العلم ولم يناقضه، فضلا عن أن القرآن لم يذكر التعليلات التي كانت سائدة والتي ذكرت في الروايات السابقة، فهذا وذاك هما الدالان على السبق القرآني.
التوفيق بين دلالة اللفظ وبين ما يقول به العلم:
ترى الدكتورة هند شلبي في قوله تعالى: ( وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) [النازعات: 30] إشارة إلى حركة الأرض وكرويتها، وتنطلق لبيان ذلك من تحليل لغوي للفعل دحا، فدحا “يدحو دحوا إذا دحا به على وجه الأرض” يعني رمى به إضافة إلى معنى البسط “دحا المطر عن وجه الأرض دحوا نزعه”. “دحا البطن: عظم واسترسل إلى أسفل”، ومن اشتقاقات هذا الفعل: “الأدحِي: الموضع الذي يبيض فيه النعام. الأدحِية: الحفرة. المداحي: وهي أحجار أمثال القرصة. كانوا يحفرون حفرة ويدحون فيها بتلك الأحجار، واشتق لهذه اللعبة اسم فسميت المدحاة”.
واشتق منه أيضا فعل تدحى فيقال: “تدحت الإبل إذا تفحصت في مباركها السهلة حتى تدع فيها قراميص أمثال الجفار”
ثم تستنتج من هذه الاستعمالات المختلفة لمادة الدحو معنيين هما:
1- الحركة في قولهم: دحى به يعني رمى به.
2- “الشكل الذي فيه استدارة، وهو ما يدرك من دحو المطر للحجارة، وفي الحجارة استدارة، وكذلك من تدحي الإبل، ويلتحق به أُدْحِي النعامة والحفرة، ويتأكد بالمداحي وهي كما رأينا حجارة فيها استدارة، وأخيرا بدحو البطن”.
أما صورة المطر وهي تدحو الحجارة، وصورة لعبة المداحي، فجامعتان للمعنيين؛ الحركة إلى جانب الشكل.
وهذان المعنيان دل عليهما قوله تعالى: ( وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) [النازعات:30] إذ يفهم منها:
1- “تكوير الأرض.
2- دفعها في حركة تشبه حركة الحجر الذي يرمي به السيل ويقلبه على نفسه كلما دفع به إلى الأمام”.
وهذا تشخيص دقيق لما هي عليه الأرض في الواقع، من دورانها الدائب حول نفسها وحول الشمس، وهذا ما أثبته علم الفلك اليوم بآلاته الدقيقة .
يظهر لي أن أصل دلالة لفظ “دحا في كلام العرب هو البسط والمد، فمنه قول أمية بن أبي الصلت:
دار دحاها ثم أعمرَنَا بها وأقام بالأخرى التي هي أمْحَدُ.
فدحا يدحو: “بسط ووسع”، أما الأدحي والإدحي والأدحية فهو “مبيض النعام” في الرمل؛ لأن “النعامة تدحو برجلها ثم تبيض فيه، وليس للنعامة عش. “وكان ابن منظور قد بين أن الدحو هو البسط والوسع، فيكون معنى قوله: “تدحو برجلها” أي تبسط وتوسع، فالمقصود من هذا الاستعمال هو أنها تبسط وتوسع المكان الذي ستضع البيض فيه، وليس لأن ما تقوم به فيه شكل استدارة. أما استعمال لفظ المداحي تعبيرا عن الحجارة، فهل هذا الاستعمال لأن في الحجارة استدارة أم لأمر آخر؟ يقول ابن منظور: إن المداحي “أحجار أمثال القِرَصَة”، “والقرص: من الخبز وما أشبهه، ويقال للمرأة: قرصي العجين أي سويه قِرَصة. وقرص العجين: قطعه ليبسطه قرْصة قرصة”، وتسمى عين الشمس قرْصة عند غيبوبتها. “والقرص: عين الشمس على التشبيه، وقد تسمى به عامة الشمس”.
فاستعمال لفظ “القرصة” في الأصل لمعنى البسط فيها، واستعمل هذا اللفظ للتعبير عن المداحي -أي الحجارة- لنفس المعنى، فيكون استعمال لفظ المداحي للتعبير عن الحجارة المستديرة لمعنى البسط؛ لأنها منبسطة أو لأنه برميها تدحو الأرض. هذا الذي يؤيده معنى المدحاة، “والمدحاة: خشبة يدحَى بها الصبي فتمر على وجه الأرض لا تأتي على شيء إلا اجتحفته”.
ومن معاني الدحو الرمي والنزع، يقول أوس بن حجر في نعت غيث:
ينفي الحصى عن جديد الأرض أجشٌ مبتركٌ ** كأنه فاحص أو لاعبٌ داحي
“يدحو بالحجر بيده أي يرمي به ويدفعه”، “دحا المطر الحصا عن وجه الأرض دحوا نزعه”، مع ملاحظة أن الحصا لا يشترط فيه أن يكون مستديرا، هذا الذي يدل على أن المرمي بلفظ “دحا” لا يشترط أن يكون مستديرا، فيقال دحا الفرس دحوا: رمى بيديه رميا لا يرفع سنبكه عن الأرض كثيرا، ونام فلان فتدحى أي اضطجع في سعة من الأرض.
إذن لا يشترط فيما يستعمل له لفظ الدحو أن يكون مستديرا، وأيضا لا مانع من أن يستعمل له، ولكن من الذي سيحدد لنا أن الشيء الذي استخدم له لفظ الدحو هو بشكل مستدير؟.
إذا رجعنا إلى لاحق الآية وهي قوله تعالى: ( أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) [النازعات: 31] يدل على أنه يفسر الدحو في الآية السابقة لها ( وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) [النازعات: 30].
هذا الذي يثير التساؤل التالي وهو: ما الصلة بين دحو الأرض وإخراج الماء والمرعى منها؟.
فإذا اعتبرنا أن معنى دحو الأرض هو البسط، فهل هناك تفسير علمي يبين لنا هذه الصلة؟ وإذا اعتبرنا أن دحو الأرض هو حركتها وشكلها، فما وجه الصلة علميا بين ذلك وبين إخراج الماء والمرعى من الأرض؟.
إنما أردت أن أقول: إن التفسير العلمي لبعض الآيات سيكون منعكسا على تفسير الآيات الأخرى، هذا الذي سيتطلب المزيد من التفاسير العلمية والبحث في كل ذلك عما يقول به العلم.
نخلص إلى أن ما سماه المفسر العلمي سبقا للقرآن الكريم في ذكر العلوم الحديثة -عدا ما هو متكلف به- يرجع إلى أمرين هما:
الأول: وصف المفسر الظاهرة التي ذكرها القرآن الكريم على ضوء ما كشف عنه العلم الحديث، والذي ساعده على ذلك دقة الوصف القرآني لهذه الظاهرة التي كانت معروفة في عصر النزول، بالإضافة إلى عدم ذكر القرآن للتعليلات التي كانت سائدة في ذلك العصر.
الثاني: يرجع هذا السبق إلى احتمال اللفظ لإحدى الدلالات التي اختارها المفسر لتوافق ما يقول به العلم، ولكن هذه الدلالة رغم احتمالية اللفظ لها فإن السؤال المطروح هو: هل هذه الدلالة التي اختيرت كانت مستخدمة في عصر نزول القرآن أم أنها اصطلاح حادث؟ هذا بالإضافة إلى أن ما يسميه المفسر العلمي سبقا قرآنيا لا يعد سبقا بالنسبة لنا؛ لأن هذه الدلالة لم تفهم إلا بعد كشف العلم لها، ولا يصح أن يقال: إنها سبق قرآني لأهل عصر نزول الوحي؛ لأنهم ما كانوا يفهمون منه هذه العلوم، فالسؤال هو: هذا السبق بالنسبة لمن؟.
المنطلق في تحديد المراد: العلم أم معطيات النص؟
حاول المفسر العلمي أن يتتبع الاستعمال القرآني لبعض المفردات القرآنية ليحدد لها مفهوما يتفق ودلالتها اللغوية مع العلم الحديث، فمثلا تتبع استعمال القرآن الكريم للفظ “السماء” ولفظ “السموات” منطلقا مما توصلت إليه العلوم الحديثة من معرفة بأغوار المجرات.
فابن عاشور يجعل معنى السماء عند إطلاقها كما في قوله تعالى: (والسماء بناء) ينصرف إلى معناها العرفي عند العرب. وهو ما يبدو للناظر كالقبة الزرقاء، أي الكرة الهوائية المحيطة بالأرض، كما في قوله تعالى: (أو كصيب من السماء) .
وفي موضع آخر من تفسيره يجعل إطلاقها مفردة يدل على الجو المرتفع فوقنا الذي يبدو كأنه قبة، وهو الفضاء الذي تسبح فيه الكواكب، وذلك يراد في قوله تعالى: ( وَلَقَدْ زَينا السمَاءَ الدنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوما لِلشيَاطِينِ) [الملك: 5] وقوله: (إِنا زَينا السمَاءَ الدنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) [الصافات: 6] وقوله: (وَأَنْزَلَ مِنَ السمَاءِ مَاء) (البقرة: 22). أما إذا جاءت جمعا فالمراد بها كواكب المجموعة الشمسية؛ لأنها إذا جمعت فالمراد بها أجرام عظيمة لها نظامها الخاص.
أما “سلمان السعدي” فيحاول أن يجعل تحديد معنى لفظ السماء منسجما مع سياق الآية التي وردت فيها على ضوء العلم الحديث؛ لذا يجعل لها عدة معان هي:
الأول: غلاف الأرض الجوي، وذلك هو المراد من قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنْ السمَاءِ مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُل زَوْجٍ كَرِيمٍ) [لقمان: 10] والذي يشير إلى هذا المعنى ذكر الهواء أو الرياح أو السحاب أو المطر أو الطيران ، كما في قوله تعالى: (اللهُ الذِي يُرْسِلُ الريَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابا فَيَبْسُطُهُ فِي السمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ) [الروم: 48] وقوله: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطيْرِ مُسَخرَاتٍ فِي جَو السمَاءِ مَا يُمْسِكُهُن إِلا اللهُ إِن فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل: 79] فعلميا الطيور لا تعيش إلا في القسم السفلي من الغلاف الهوائي، بل في جزئه اللصيق جدا بالأرض، وقوله تعالى: (وَالسحَابِ الْمُسَخرِ بَيْنَ السمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة:164] إذ إن السحاب يقع في أدنى طبقة من طبقات الغلاف الهوائي .
ويلاحظ أن المحدد للفظ السماء في هذه الآيات هو ما توصل إليه العلم الحديث من نتائج تتعلق بالغلاف الجوي.
الثاني: المنظومة الشمسية، وهذا هو المراد من قوله تعالى: ( يَوْمَ نَطْوِي السمَاءَ كَطَي السجِل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَولَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدا عَلَيْنَا إِنا كُنا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 104] وباعتبار أن الله تعالى قال: (أَوَلَمْ يَرَ الذِينَ كَفَرُوا أَن السمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُل شَيْءٍ حَي ) [الأنبياء: 30] فإذا كان أول الخلق فتقا، فإن إعادة الخلق بالطريقة نفسها (كَمَا بَدَأْنَا أَولَ خَلْقٍ نعِيدُهُ) لا بد أن يكون رتقا، أي جمعا لما قد تفرق من السموات والأرض (الكواكب السيارة) وعندها يتضح مقصود قوله تعالى: ( يَوْمَ نَطْوِي السمَاءَ كَطَي السجِل لِلْكُتُبِ ) من أنه جمع للسماوات والأرض إلى بعضها مثل جمع السجل. فالمقصود إذن من السماء في هذه الآية هو المنظومة الشمسية، أو السديم المكون لها، كما في قوله تعالى: (ثُم اسْتَوَى إِلَى السمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعا أَوْ كَرْها قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11] فقد وصفها مع الأرض.
الثالث: مجرة درب التبانة، وهو المراد من قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السمَاءِ بُرُوجا وَزَيناهَا لِلناظِرِينَ) [الحجر: 16] والذي يشير إلى هذا المعنى هو وصفها بالزينة، بالإضافة إلى أنها مرئية لنا، قال تعالى: (وزيناها للناظرين) وأيضا يدل على ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ زَينا السمَاءَ الدنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوما لِلشيَاطِينِ) [الملك: 5]، فالسماء الدنيا هي المزينة بالنجوم، وبالتالي فهي مجرتنا لا غير.
الرابع: الكون ما بعد المجرة أو المجرات الأخرى: وهو المراد بقوله تعالى: (وَالسمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات: 47] والذي يدل على هذا المعنى هو ما عرفه العلماء في القرن العشرين من توسع مستمر للكون؛ إذ تتباعد المجرات عن بعضها بسرعة كبيرة.
كذلك لفظ “السماوات العلى” في قوله تعالى: (تَنزِيلا مِمنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسمَاوَاتِ الْعُلا) [طه: 4] والذي يدل على هذا المعنى في هذه الآية تقديم ذكر الأرض على السماوات، وذلك على خلاف الآيات الأخرى.
ويعلل “السعدي” علميا سبب هذا التقديم والتأخير، بأنه يمكن رؤية معظم الكواكب السيارة حول الشمس بالعين المجردة؛ حيث تبدو للناظر كالنجوم، بينما لا يمكن رؤية الأرض ككرة أرضية كاملة بهذه الصفة، ثم إن الكواكب السبعة عديدة، بينما الأرض واحدة، أما السماوات العلى (المجرات الأخرى) فهي لا ترى بالعين المجردة إطلاقا، وهي بعيدة جدا عنا.
أما “حجازي” في تفسيره فيخالف تلك التفاسير لمعاني السماء؛ لأنه يجد أن ظاهر نصوص القرآن يفيد بأن السماء جرم على عكس ما تقول به نظرية العلم، من أنه ليس هناك جرم محسوس ملموس يطلق عليه اسم السماء، بل هي الفضاء اللانهائي الذي لا يعلمه إلا الله، ويحتوي على النجوم والكواكب التي ترتبط مع بعضها في أفلاك ومدارات، هي في طبقات بعضها فوق بعض. لذلك على المسلم أن يقف عند نصوص القرآن “فإن أراد البحث العلمي الدقيق فليبحث، وفي النهاية سيلتقي مع نظرية القرآن”.
يظهر واضحا مما سبق أن اعتماد المفسر العلمي على التفسير بالقرآن الكريم، أنه لم يكن مفصولا عن أفقه المعرفي وثقافته العلمية، بل كان ذلك دافعا إلى أن يبحث في الآيات القرآنية عن إجابات لتساؤلات أثارها العلم. فالعلم هو المنطلق وهو الأساس، والقرآن هو القابل للتشكل حسب نتائج العلم، ولكن هذا ليس مطلقا، فهناك تفاسير كان منطلق المفسر فيها من النص وثقافة العصر.
كذلك تحلل “هند شلبي” معنى لفظة البنان المذكورة في قوله تعالى: ( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَويَ بَنَانَهُ ) [القيامة: 3-4] فالبنان في اللغة “جمع مفردة بنانة، ولهذه اللفظة مدلول قد يضيق وقد يتسع، فهي تعني الأصابع، كما يراد بها الأيدي والأرجل، أي جميع أعضاء البدن” . وتختار من هذه المعاني معنى “الأصابع”، باعتبار أن جل المفسرين جعلوا المقصود من البنان في الآية الأصابع . ومن ثم تبين أن الإعجاز في هذه الآية يرجع إلى اختصاص البنان بالذكر دون غيره، فتعلل سبب هذا الاختيار تعليلا علميا تشريحيا، “يشير إلى خصائص خِلْقية توجد في البنان ولا توجد في غيرها من أجزاء الجسم الإنساني” .
واضح أن التحليل اللغوي للفظ في المثالين السابقين، استفيد منه في عملية التوفيق بين الآية ومكتشفات العلم التجريبي، مع العلم أنه لا توجد دلالة مباشرة للفظ تشير إلى هذا الاكتشاف العلمي، وإنما كان استنباطا في المثال الأول من إشارة النص لكروية الأرض، فالقرآن لم يذكر ذلك صراحة، فالذي أسهم في هذا الفهم هو ثقافة المفسر، لأننا نجد أن السابقين لم يفهموا هذا الفهم، وإنما كان على حسب ما يشاهدونه؛ فالآية عندهم تشير “إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار”، وكلا الفهمين لا يعارضان دلالة ألفاظ الآية ولا سياقها ولا مقصدها، وإنما الذي حدد هذا الفهم أو ذاك هو ثقافة المفسر وتنوع العلوم في كل عصر.
وكذلك في المثال الثاني لفظ البنان لا يدل على البصمات، وإنما التعليل العلمي لاختيار هذا اللفظ دون غيره هو الذي ربطه بعلم البصمات، على حين نجد أن تعليل السابقين لذكر البنان في الآية هو لأن بالأصابع “صلاح الأحوال التي يمكن للإنسان أن يبني بها”.
من خلال ما سبق يظهر أن المفسر العلمي استند في تفسيره على عدة ركائز أساسية أسهمت في وجود هذا النوع من التفسير، يمكن حصرها في ثلاثة أمور هي: استشهاد القرآن بأمور واقعية خاضعة للحس، وطبيعة اللغة، وثقافة العصر، فهل يمكن لهذه الأمور أن تكون دالة على العلوم الحديثة في هذا العصر دون أي إشكاليات؟
أما استشهاد القرآن بأمور واقعية خاضعة للحس، مما لا يمكن أن يتناقض مع المكتشفات العلمية: فهذا مما لا يماري فيه أحد، لكن أن تجلى على أساس أن معانيها كانت مجهولة من قبل المخاطبين في عصر التنزيل فهو مما لا يتفق وخصائص المنهج القرآني.
القرآن الكريم ذكر هذه النواميس لمقاصد كبرى وربطها بخالقها، فوجد المفسر العلمي في هذا صلة بين الماضي والحاضر، ووسيلة للتوفيق بين ما ذكره القرآن وبين ما هو مجال العلوم الحديثة اليوم.
فمثلا استطاع المفسر العلمي أن يسهب علميا خدمة لمقصد الآية، وذلك بأن يذكر التعليل العلمي للظاهرة التي ذكرها، أو أن يستدل بالآية على أسبقية القرآن في ذكره لهذه العلوم، وهذا ارتكز على ذكر القرآن للظاهرة نفسها وعلى طبيعة اللغة، ولكن ألا ينبغي أن نتساءل لماذا خص القرآن ذكر هذه الظواهر دون غيرها؟ هل لارتباطها بعصر نزول القرآن أم لأنها ضرورية وأساسية لحياة الإنسان؟.
أما عن دور اللغة وثقافة العصر فقد حرص المفسر العلمي على أن يجعل القرآن الكريم مميزا عن غيره من كلام البشر بإثباته سبقا علميا له من خلال استدلاله بالآية، لكن أفلا يمكن أن نستنبط ذلك من أي نص آخر؟.
ينقل ابن القيم [ت:751م] عمن رفض القول بأن القرآن معجز بما يحويه من العلوم التي لم يسبق إليها أحد من البشر قبل نزول القرآن، بأنه قد وجد في السنة وفي كلام العرب مثل هذا ولم يعد معجزة.
يستشف من هذا أن حمل العلوم على بعض النصوص ممكن، ولكن ما هو السبب في ذلك؟.
إن المتأمل في أدوات المفسر العلمي المستدل بها يجد أن أهمها يرتكز على طبيعة اللغة، وأكتفي هنا ببيان دور دلالات الألفاظ التي تتفرع إلى دلالات مختلفة بحسب الزاوية التي ينظر منها.
فللفظ في اللغة العربية دلالات متنوعة تبدأ بالدلالة الوضعية مرورا بدلالة منطوقه ودرجة شموله إلى مجازه.
لقد وجد المفسر العلمي في دلالات الألفاظ مجالا رحبا لتفسيره العلمي، فدلالة اللفظ على الشمول، سواء المطلق منه أو العام، سمح له بأن يجعل ما يكشف عنه العلم الحديث داخلا في هذا الشمول، بل إن دلالة اللفظ على العموم أو الإطلاق هي الدالة على ما كشف عنه العلم الحديث، وقل مثل ذلك في دلالة المنطوق بما فيها من دلالة الالتزام أو المطابقة أو التضمين أو الإشارة … وأيضا المجاز.
إن اللفظ الذي كان يدل على أشياء معينة في الماضي كشف العلم الحديث عن حقائق هذه الأشياء، فصار اللفظ يحمل ذيولا من المعاني تدل على هذه الحقائق المكتشفة، ولعل هذا يرجع إلى أن “الكون تنتظمه شبكة من الظواهر، وأن علاقة الإنسان بتلك الظواهر تنبني على التبصر فالإدراك، ومن هذه العلاقة ينشأ مبدأ الدلالة” التي تصنف في الكون إلى الدلالة الطبيعية التي يستدل فيها العقل بحقيقة ظاهرة على حقيقة غائبة بسبب أن العلاقة بينهما هي علاقة السبب الطبيعي بنتيجته، والدلالة المنطقية هي التي يتحول فيها الفكر بواسطة المسالك العقلية من الحقائق الحاضرة إلى حقيقة غائبة، أما الصنف الثالث من هذه الدلالات هو الدلالة العرفية التي تنشأ باصطلاح الإنسان “إما بإعمال الروية أو باتفاق السلوك”.
إن المقصد من عرض هذا التصنيف هو بيان أثر معارف الإنسان في إحداث الدلالات التي ستساهم بشكل أو بآخر في التطور الدلالي للكلمة وتحميلها ذيولا من المعاني لم تكن تدل عليها في أصلها، فالنماذج السابقة للظاهرة الدلالية “تتوازى مع بنية الظواهر في الوجود، ذلك أن نظام الدلالة مندرج ضمن خاصيات الوجود البشري في علاقاته الفردية والجماعية”، ولكن هل الإنسان هو المحدد لهذه الدلالات الحادثة أم أنها تفرض عليه من الخارج؟.
يرجع تولد الدلالات إلى طواعية الألفاظ على عبور المجالات الدلالية، وطواعية المدلولات على ارتداء الألفاظ بعضها مكان بعض، لكن الدور الرئيسي في هذا للإنسان، فهو الذي يستحدث المركبات الدلالية بابتكار المدلول الذي لم يكن “ثم صناعةُ دال له، فيلتحمان، ومن التحامهما يتكون مثلث دلالي جديد”.
التساؤل الذي يرد هنا إذا كان الإنسان هو الذي يولد دلالات جديدة للألفاظ، فهل يصح أن نحمل هذه الدلالات التي هي من وضع إنساني للقرآن الكريم الذي هو كلام إلهي؟ وخاصة إذا كنا نجهل التطور الدلالي لكل لفظ من الألفاظ، ألا ينبغي أن نفهم دلالات ألفاظه على نحو فهم العرب في عصر نزول القرآن؟.
إني لا أقصد من هذا الكلام أن يكون فهمنا للقرآن الكريم منغلقا، ففهمنا لدلالات ألفاظه على حسب ما فُهمت عليه في عصر نزول القرآن لا يمنع استمرار مواكبته لكل عصر ومكان، وإنما قد يكون ذلك حدا مانعا من أن يصبح القرآن الكريم مادة هلامية يشكلها قارئه كما يريد.
كذلك لا يمكن فصل دور اللغة عن ثقافة العصر عند المفسر العلمي، فثقافة العصر لدى المفسر هي التي سوغت اختيار أحد الدلالات للفظ دون غيرها، وهي التي سوغت حمل اللفظ على المجاز.
فالمفسر العلمي في تعامله مع النص القرآني:
إما أن يكون منطلقا من النص محاولا جذبه إلى علوم العصر، وهو في هذا حريص على الاستدلال به، وعلى أن يكون المعنى الجديد منسجما مع السياق والسباق، وتميز بذلك المفسرون المختصون بالعلوم الشرعية.
وإما أن يكون منطلقا من ثقافة العصر محاولا إسقاطها على النص القرآني، وهو في استدلاله غير متكامل، فإن استدل باللفظ لم ينظر إلى السياق… هذه الطريقة ظهرت في الغالب عند غير المختصين بالعلوم الشرعية كالأطباء وعلماء الجيولوجيا وغيرهم، وجل هذه التفاسير يمكن اعتبارها انطباعات شخصية أكثر من كونها تفسيرا.
لعل وجود هذا النوع من التفاسير يعود إلى أمرين اثنين، هما:
الأول: أن تفسير القرآن أصبح كالكلأ المباح يرتاده من يريد، مع العلم بأن ما يفتخر به عصرنا هو أن العلوم أصبحت أكثر دقة بوجود المختصين بكل فرع منها.
الثاني: عدم وجود مرجعية علمية في العالم العربي والإسلامي تكون مرجعا لغير المختصين في تفسيرهم للقرآن.
ختاما: إن القول بالسبق القرآني في ذكر العلوم قبل اكتشافها حسب ما قدمته من تطبيقات، يعتبر مستندا ومسوغا للقراءات المعاصرة التي تسعى إلى جعل النص القرآني مادة هلامية يشكلها قارئه كما يريد، وخاصة أنها تتجاوز معهود الخاطبين في عصر التنزيل في استعمالاتهم اللغوية والبلاغية التي تعتبر شرطا أساسيا في التفسير؛ لذا علينا أن نكون موضوعيين أولا، ومنسجمين مع أنفسنا ثانيا؛ وفاء لقدسية القرآن الكريم؛ وإبرازا لفاعليته البعيدة عن القراءة الإسقاطية، مما يعكس المبادئ والقيم والمقاصد التي جاء بها ولأجلها، دون أن نلجأ إلى مثل هذه القراءات التي كان من أبرز أسباب وجودها ردة الفعل تجاه التقدم العلمي في الغرب.
* علي أسعد
* ملخص بحث من أطروحة جامعية عن الإعجاز العلمي للقرآن الكريم بكلية الشريعة في جامعة دمشق