أحد عشر قرنا من الزمان وما زال الالتباس والادعاء يكتنفان واحدة من أهم رحلات الحوار الحضاري في العصور الوسطى عرفت والتي برحلة ابن فضلان . ففي عام 921 ميلادية (309هـ) خرجت من بغداد -عاصمة النور آنذاك- بعثة دينية سياسية بتكليف من الخليفة العباسي “المقتدر بالله” إلى قلب القارة الآسيوية فى مكان عُرف وقتها باسم “أرض الصقالبة”؛ تلبية لطلب ملكهم في التعريف بالدين الإسلامي، عله يجد إجابة للسؤال المثار وقتها “كيف استطاع ذلك الدين الآتي من قلب الصحراء أن يكوِّن تلك الإمبراطورية الضخمة التى لم تضاهها سوى إمبراطورية الإسكندر المقدوني؟ وفي بغداد كان أعضاء البعثة يرتبون أوراقهم بين فقيه ورجل دولة ومؤرخ، وفي مقدمتهم كان الرجل الموسوعي أحمد بن فضلان.
حول الرحالة ورحلته
لم يكن ابن فضلان رجلا موهوبا أو صاحب رؤية سياسية فحسب؛ بل كان قد درب عينيه الثاقبتين على رؤية ما وراء المشاهد المفردة، وشاغل عقله بالتحليل دون الرصد. وحينما عمل لعقد من الزمان الساعد الأيمن للقائد العسكري محمد بن سليمان -الذي قاد في نهاية القرن التاسع وبداية القرن العاشر الميلاديين حملات عسكرية امتدت من مصر في الغرب إلى حدود الصين في الشرق- تعلم ابن فضلان الكثير، وأهلته معارفه المتراكمة وثقافته بالشعوب التي خالطها إلى الوصول إلى بلاط السلطان “المقتدر بالله” كرجل دولة وفقيه عالم.
ويستمر ابن فضلان في الترقي في بلاط السلطان حتى عام 921م، حينما وصلت رسالة قيصر البلغار “ألموش بن يلطوار” طلبا لإرسال سفارة إلى القيصرية البلغارية لشرح مبادئ الإسلام، على أن يرسل الخليفة من يبني للقيصر مسجدا يطل من محرابه على شعبه، وقلعة حصينة لمجابهة الأعداء، فاختاره الخليفة على رأس الرحلة تقديرا لمكانته وقدرته على الحوار (هذا وتنتشر في المعالجة الغربية رواية أن اختيار ابن فضلان جاء تخلصا منه، وطمعا في فتاة كان قد أوشك على الزواج بها!).
ويعترف الغربيون بفضل الرحلة في تدوين اكتشافات حضارية نادرة، ويسطّرون اسم ابن فضلان بحروف بارزة في تاريخ التواصل الحضاري بين الإسلام و”الآخر”، ويؤكدون أنها نقلة نوعية في فن كتابة الرحلة العربية التي كانت غارقة في مفاهيم السرد، فنقلتها إلى مستوى التحليل الإثنوغرافي لشعوب وقبائل لم يكن العرب يعرفون عنها شيئا.. بل لم يكن العالم يعرف عنها شيئا.
فكتاب ابن فضلان قد ارتقى بتحليله الأنثروبولوجي فوق مستوى الكتب التي كانت تقرأ في قاعات السمر العربية بسماع القصص الناعمة لنوادر الشعوب الأخرى وطرائفهم؛ اعتمادا على معلومات بعضها حقيقي وكثيرها خرافي. وبين وقت وآخر يتبرع البعض ليخلط الأزمان بالأمكنة؛ فيرى ابن فضلان وقد ذابت عقيدته، وتاهت ملامحه الحضارية، فسقط في التنوع الحضاري للآخر، وعاد من هناك أقل تشددا وأقل حذرا، وأقل إيمانا بعد أن ذاق الفاكهة المحرمة بمضامينها الحسية والفكرية.
بدأت الرحلة في يوم لطيف بارد من شهر إبريل عام 921م حينما توجهت القافلة الضخمة الآتية من خوارزم عبر أراضي الأغوز التركية لتعبر نهر الأورال؛ وتمكنت بعد مخاض عسير من ملامسة ضفته الشرقية. ومن ربوة عالية على هذه الضفة وقف ابن فضلان يتابع في الأفق الطريق الصحراوي الوعر الذي كان قد خاضه من بغداد إلى خوارزم إلى أغوز في رحلة شاقة، هلك فيها الرفاق والأصدقاء، ولم يبق سوى بعض الخدم والمرافقين.
وعاود ابن فضلان النظر إلى الغرب، سائلا نفسه: ما الذي جاء بنا عبر هذا المسار؟ ألم يكن بوسعنا أن نقصد من بغداد وجهتنا إلى البلغار بمحاذاة الساحل الشرقي لبحر الخزر؟ ولكن هيهات! فأولئك اليهود الذين يحكمون مملكة الخزر يقفون للعباسيين بالمرصاد؛ فينهبون قوافلهم، ويقتلون تجّارهم، وما زالوا على قوتهم منذ ثلاثة قرون، يسيطرون على تلك المملكة الفتية الممتدة كمروحة صينية من سواحل بحر الخزر تجاه “كييف” لتقسم آسيا إلى عالمين: الجنوب الإسلامي بأيديولجيته ومدنيته، والشمال بوثنيته وثروته ووحشيته.
ومن بدايتها استمرت الرحلة في جني المخاطر؛ ففشل ابن فضلان في تحصيل الأموال التي أمره الخليفة بجمعها من مدن خوارزم لتلبية طلب قيصر البلغار. وفقد الموكب رجاله بين البرد والمرض، وبدا أن الأجدى العودة إلى بغداد، وهناك سيقع لا محالة العقاب الواجب بأمراء خوارزم وسمرقند وبخارى الذين رفضوا دعم البعثة بالأموال اللازمة. غير أن السير قد قارب على بلوغ منتهاه، والرغبة في الاكتشاف والمعرفة فاقت كل خوف وتردد.
من بغداد إلى روسيا .. محطات الرحلة
انتقلت رحلة الدعوة إلى الإسلام في روسيا عبر فضاءات جغرافية متباينة: من العراق إلى إيران، فأواسط آسيا، فبلاد بلغار الفولجا أو أرض الصقالبة، إلى الأراضي الروسية، فأراضي مملكة الخزر. ثمة من يضيف إلى ذلك حلقة بين الأراضي الروسية ومملكة الخزر، وصل فيها ابن فضلان إلى شبه جزيرة أسكندنافيا على مشارف القطب الشمالي.
من فارس إلى أواسط آسيا
في مستهل الرحلة يعفينا ابن فضلان من التفاصيل؛ فلا يسطر في فارس سوى خط سير الرحلة؛ فيعرفنا في عدة سطور بالمدن الإيرانية التي مر عليها طريقه لتدخل الرحلة إقليم ما بين نهري جيحون وسيحون، ولم يسجل ابن فضلان في هذه البيئة الشاسعة سوى بعض ملاحظات عابرة؛ وهو ما قد يرجع إلى معرفة هذا الطريق ومعالمه من قبل رحالة سابقين، أو ادخار الكتابة بالتفصيل لحين الوصول إلى المقصد الحقيقي للرحلة؛ وهو أرض البلغار وروسيا.
وفي منطقة الانتقال بين خوارزم والترك في أواسط آسيا تصبح الصدقة للسائل والعابر هي السماح بالجلوس إلى النار ليصطلي، فيرصد ابن فضلان ثقافة الملبس؛ فلا تبدو من الرجل بسبب كثافة ملابسه سوى عينيه، وناقش بشكل أولي فكرة التكيف المناخي. وفي المسير يبدأ ابن فضلان في مواجهة أول أسئلة البيئة الوثنية حينما يسأله رجل: “قل لربك ما الذي يريده منا لكي يرفع عنا هذا البرد؟ فيجيبه ابن فضلان: يريدكم أن تقولوا: لا إله إلا الله، فيجيب الرجل: لو علمنا أن ذلك سيجدي لقلناها”، ولا يعلق ابن فضلان على هذا الحوار المقتضب بشيء! ويسأله بعضهم: “ألربنا امرأة؟”، فيستعظم ابن فضلان الأمر، ويستغفر الله ويعظمه، ويردد التركي خلفه الاستغفار والتعظيم. وينتقل ابن فضلان إلى رصد العادات الزواجية في أرض الترك وما يرتبط بها من تقاليد، وكذلك المراسم الجنائزية والوراثية غير المتشابهة مع المبادئ الإسلامية، فضلا عن سيادة السحر.
وبالتوغل نحو الشمال والاقتراب من أراضي البلغار يلاقي ابن فضلان أقوامًا تتعدد لديهم الآلهة، وعنهم يقول: “ورأينا أقوامًا تعبد الحيات، وأقوامًا يعبدون السمك، ومنهم من يزعم أن له اثني عشر ربًّا: للشتاء رب وللصيف رب وللمطر رب… إلخ. والرب الذي في السماء أكبرهم، إلا أنه يجتمع مع هؤلاء باتفاق ويرضي كل واحد منهم.. تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا”.
لدى بلغار الفولجا
ويصل ابن فضلان إلى البلغار ويستقبلهم ملكهم بترحاب، ويقول في ذلك: “فلما صرنا منه (ملك البلغار) على بعد فرسخين تلقانا هو بنفسه؛ فلما رآنا نزل فخر ساجدًا شكرًا لله جل وعز، وكان في كمه دراهم فنثرها علينا، ونصب لنا قبابًا فنزلناها. وقرأت عليهم كتاب أمير المؤمنين، والترجمان يترجم حرفًا حرفًا، فلما انتهيت كبروا جميعًا تكبيرة ارتجت لها الأرض”. ويحتفي ملك الصقالبة بالبعثة العباسية في فنون مختلفة من الطعام ومراسم الاحتفال بالوفد المهيب. وسمّى ملك الصقالبة نفسه باسم “جعفر” تيمنًا باسم أمير المؤمنين الخليفة العباسي، وغيّر اسم أبيه إلى “عبد الله”؛ فصار يُنادى على المنبر “جعفر بن عبد الله، أمير البلغار”، بدلاً من “ألموش بن يلطوار”.
وبعد ثلاثة أيام وقعت أزمة بين وفد ابن فضلان وأمير البلغار، حينما قرأ الأخير نص الرسالة الآتية من أمير المؤمنين إليه، وفيها حديث عن أربعة آلاف دينار أرسلت له لبناء مسجد وقلعة حصينة. وشرح ابن فضلان للملك الغاضب أن عمال خوارزم أعاقوا تحصيل الأموال وسيقع بهم العقاب، ولم يكن أمامهم إلا إكمال الرحلة لبلوغ الهدف الأسمى، غير أن سوءا من الفهم قد وقع، ودام لعدة أيام بين أمير البلغار وابن فضلان.
ويفسر لنا المؤرخ الروسي رافيل بخارييف في كتابه القيّم “الإسلام فى روسيا.. الفصول الأربعة” أن الغضب الذي وقع لملك البلغار ليس طمعًا في المال؛ إذ إن مملكة البلغار كانت في رغد من العيش، كما أن الأربعة آلاف درهم ليست مطمعًا لملك بمكانة يلطوار، وإنما كان المقصود هو التبرك بهذه الأموال. ويستند بخارييف في ذلك إلى نص رسالة ابن فضلان نفسه التي جاء فيها قول ملك البلغار لابن فضلان: “تعلم أن الخليفة أطال الله بقاءه لو بعث إلي جيشًا أكان يقدر عليّ؟ قلت: لا، قال : فأمير خراسان؟ قلت: لا، قال: أليس لبعد المسافة وما بيننا من قبائل الكفار؟ قلت: بلى، قال: فوالله إني لبمكاني البعيد الذي تراني فيه أخاف أن يبلغه عني شيء يكرهه فيدعو عليّ فأهلك بمكاني وهو في مملكته”!
ومن النقاط المهمة في محطة ابن فضلان في أرض البلغار هي أن الإسلام كان معروفًا لديهم من مصادر فارسية وتركية. وكما يشير رافيل بخارييف أنه عند وقوع الخلاف على الأموال التي لم يجلبها ابن فضلان كان ملك البلغار ينادي ابن فضلان تهكمًا بـ”أبو بكر الصديق”؛ فهمًا منه أن معنى الصديق يعني “الصدق”؛ وهو ما كان مداعبة ثقيلة لابن فضلان (الذي لم يأتِ بأموال الخليفة)، ولكنه يؤكد على أن أحوال صحابة الرسول –ﷺ- وسيرتهم كانت معروفة للبلغار قبل قدوم بعثة ابن فضلان.
في روسيا
استحوذت مشاهدات ابن فضلان للشعب الروسي على الضفة الغربية لنهر الفولجا على أكبر اهتمام من المستشرقين والباحثين الأوربيين. وكان اهتمام عديد من الكتاب الأسكندنافيين بالرحلة لدعم نظرية الأصل الأسكندنافي للجنس الروسي، ومساندة فكرة أن القبائل الروسية التي شكلت نواة الدولة الروسية في العصور الوسطى هي من شبه جزيرة أسكندنافيا ومن أصول لقبائل الفيكينج، وإن كان هناك خلاف تفصيلي في استبيان إلى أي فرع من فروع الفيكينج ينتمي الروس.. هل لفيكينج الدانمارك أم للنرويج أم للسويد؟ وقد صاغ هؤلاء الباحثون الأدلة على أصل الروس الأسكندنافي بناء على مشاهدات ابن فضلان مثل:
1- بناء البيوت الخشبية وعبادة الأصنام الخشبية، وهو تقليد يميز قبائل الفيكينج عمن سواها.
2- ما ذكره ابن فضلان من ولع التجار الروس بالدنانير والدراهم الفضية العربية؛ وهو ما دعمته الأبحاث الأركيولوجية التي وجدت شيوعًا بالغًا للعملات العربية في شرق أسكندنافيا ومنطقة بحر البلطيق.
3- ما سجلته مشاهد ابن فضلان للمراسم الجنائزية الروسية، وبصفة خاصة حرق الجثث في مراكب؛ وهو التقليد المتبع لدى الأسكندنافيين منذ القرن السادس الميلادي. وكذلك اتخاذ البشر قربانًا للآلهة عند موت أحد كبار القوم، فتحرق جاريته معه، وهو مستوى راقٍ من مستويات التضحية للآلهة لدى الفيكينج.
وفي المقابل يفند كثير من الباحثين الروس هذه الاحتمالات تحت فكرة تداخل العادات والتقاليد الدينية والاختلاط الفكري؛ بسبب حركة التجارة بين الثقافات المختلفة وقت رحلة ابن فضلان ما بين ثقافة بلغارية وخزرية وسلافية.
وعلى الرغم من ذلك لا يمكننا الاستمرار في قراءة النص في الجزء الخاص بالمشاهدات الروسية دون أن يداخلنا شعور بأن كثيرًا مما رواه ابن فضلان عن الشعب الروسي ربما سمعه دون أن يراه! حيث تخلو المعلومات من المصادر المباشرة؛ فيحل السرد محل الديالوج، ويختفي سؤال الترجمان في كثير من المعلومات.
كما تغيب المشاهد الحركية عن محتوى السرد؛ فتختفي مفردات مثل “ركبنا، وسرنا، وقابلنا” في مقابل مفردات تقريرية مبهمة المصدر مثل “وعندهم، وهم يفعلون… إلخ”. فلا يتبين هل يرصد ابن فضلان ما يشاهد أم يعيد كتابة قصص سمعها من مصدر آخر؟ كما تتداخل السمات الأنثروبولوجية بين السلافيين والأسكندنافيين؛ فيختلط الأمر على القارئ عمن يتحدث ابن فضلان، وبالأحرى أين هو المكان الذي يسجل منه مشاهداته؟ هل على نهر الفولجا في قلب روسيا الحالية أم على بحيرة لادوجا على حدود أسكندنافيا؟ وستظل مشاهدته الأنثروبولوجية للشعب الروسي محل إعادة قراءة وتفسير لفترة قادمة من الزمن.
أما الجزء المتبقي من رسالة ابن فضلان عن مشاهداته في مملكة الخزر فلا يزيد عن نحو 5% من إجمالي ما دوّنه في رسالته عن شعوب رحلته. ولا تشتمل هذه النسبة إلا على ذكر ملك الخزر دون شعبه، ملقيًا الضوء على اسمه، وكنيته، وملبسه، وطرائق تنزهه، وجواريه وهيئتهن، وكذلك المراسم الجنائزية لموته. وهنا أيضًا لا نتبين ما إذا كان ابن فضلان ما زال واقفا على نهر الفولجا في أرض البلغار يعيد كتابة ما روي له من معلومات لمصادر ثانوية وليست أصيلة أم أنه توغل في أرض الخزر ويكتب من مشاهداته؟
وفي النهاية لا يخلو إدراكنا للرحلة من بعض المفارقات؛ أهمها:
– أن الرحلة لم تكن أول من قدم الإسلام إلى بلغار الفولغا؛ فمن شأن ذلك أن يبخس حقوق التجار الذين قدموا -بسلاسة متناهية- المبادئ العامة للإسلام، وأهمها تلك القائمة على التوحيد وحسن المعاملة، وقد خط هؤلاء التجار الطريق الطويل بين بغداد وممالك آسيا الوسطى من ناحية وبلاد البلغار والقبائل الروسية من ناحية ثانية. وفضل الرحلة ماثل في الأساس في توقيع “الاتفاق الرسمي” بين ملك البلغار والخليفة العباسي في نقل الأفكار الإسلامية إلى النخبة الحاكمة في بلاد البلغار.
ومع اعتناق هذه النخبة للإسلام مارس البلغار الشعائر الإسلامية مخلوطة بالأعراف والتقاليد والعادات لعقود طويلة تالية، إلى أن تسللت برشاقة الأفكار الجديدة الآتية من مدرسة بخارى (المركز المنير في قلب آسيا) لتصلح كثيرا من الأعطاب في الفهم.
– أن الرحلة لم تقدم الإسلام إلى روسيا؛ ففي ذلك التعبير المجازي مغالطة جغرافية؛ لأن ابن فضلان قدم رسالة الإسلام إلى شعب البلغار. وينتمي البلغار إلى أتراك آسيا الوسطى، ومنها تحركوا نحو نهر الفولغا واستعمروا ضفافه. وآخر حدود لروسيا في ذلك الزمان عند جبال الأورال. وبالتالي كانت روسيا مجرد مملكة مجاورة لمملكة بلغار الفولغا. واستمرت العلاقة ندية بين بلغار الفولغا والروس الذين طمعوا في ثرواتهم وأرضهم، وظلوا يتحينون الفرصة من بداية القرن العاشر إلى منتصف القرن السادس عشر (أكثر من 650 سنة)، إلى أن تمكن القيصر الروسي إيفان الرهيب من إخضاع مسلمي الفولجا؛ فأسقط عاصمتهم كازان في 1552م. بل إن بعض الباحثين يرون في اعتناق روسيا للمسيحية (988م) مجرد ردة فعل لاعتناق البلغار للإسلام كنوع من التميز الديني أمام الأعداء المسلمين.
وهكذا فإن الحديث عن تقديم رحلة ابن فضلان إلى روسيا يتخطى 650 سنة من الاستقلال السياسي والحضاري لمسلمي روسيا. ويهضم جزءا مهما من اعتزاز مسلمي روسيا على ضفاف الفولغا بفصل مهم من تميزهم الديني قبل الضم القسري لأراضيهم تحت السيطرة الروسية.
– في الوقت الذي ينقل إلينا الجزء المدون من رحلة ابن فضلان إشارات مباشرة بالتفوق الحضاري للمنبع الذي أتى منه ابن فضلان تؤدي رواية كريشتون الدور العكسي. وفي ذلك يلاحظ بعض النقاد (محمد الشوكاني 2001) أن القارئ العربي سيقف متسائلا عن مدى براءة هذا الرحلة -أو بالأحرى ترقيع الرحلة- من الشيغونية الغربية. فالحوار في العمل الروائي حوار تثقيفي يقوم فيه ابن فضلان بانتمائه الأيدلوجي والعرقي المختلف بدور الشاهد على نبل الإنسان الغربي الساعي إلى الخير والحرية.
وبدلا من أن يكون إكمال النص عربيا ليتحقق أدب ما بعد الكولونيالية فإن هذا النوع من الكتابة -الذي يعاد فيه الاعتبار إلى تاريخ وثقافة الشعوب التي ظلمها الاستعمار- أعاد الحياة إلى ملحمة بيولف Beowulf الأنجلوساكسونية بمزجها مع رحلة ابن فضلان بشكل قد يعتبرها البعض محاولة جادة للحوار الحضاري، ويعتبرها البعض الآخر تأكيدا لتفوق العالم الغربي على الإسلامي في العصور الوسطى التي طالما قال التاريخ بأنها كانت عصور ظلام أوربية.
وتبقى الأسئلة كثيرة: كيف وأين فقدت باقي أجزاء رحلة ابن فضلان؟ وهل امتدت يد ما لتحذف النصف الثاني من الرحلة لما فيه من أفكار نظرت إلى “الآخر” المختلف عقائديا نظرة تعاطف وتفاهم حسبما يدعي البعض؟! ولماذا لم يقدم عمل أدبي وفني بلسان عربي يسمح بتخيل الجزء المفقود نقدم فيه رؤيتنا للعالم؟
الثابت أن الرحلة حصلت على كمية معتبرة من الاهتمام الغربي؛ وهو ما جعلنا نرجع إليها، فنعيد قراءتها برؤية مختلفة نبهنا إليها “الآخر”، وعلينا أن نشكره على ذلك!
د.عاطف معتمد عبد الحميد -( نشرت في 2004/02/08)5>
هوامش ومصادر:
1- ابن فضلان، رسالة ابن فضلان، تحقيق شاكر لعيبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
2- عبد الله أحمد (2002) عوالم متداخلة، عوالم متجاورة.. الالتباسات الثقافية بين الأنا والآخر في رحلة ابن فضلان إلى بلاد الشمال، جريدة الرياض بتاريخ 4/7/2002.
3- محمد ناصر الشوكاني (2001)، من ضبابية الرؤية إلى رسم الأصوات. جريدة الرياض بتاريخ 25/1/2001.
4- James E. Montgomery (2000) Ibn Fadlan and the Russiyyah. Journal of Arabic and Islamic Studies 3 (2000).
5- Ravil Bukharaev ( 2000) Islam in Russia , the four seasons . Curzon. London