أخي الفاضل صاحب السؤال -بل دعني أقول صاحب المعضلة-، يتضح من سؤالك أيها الأخ الكريم أنك قارئ جيد في المجال التربوي، وقد أثَرْت في نفسي -بسؤالك القيم- الحماس للعودة مرة أخرى لمحاولات اجتهادية للبحث، كنت قد بدأتها في موضوع حفظ القرآن، لكني أجلتها مع الأسف لكثرة المشاغل وتزاحم الأولويات. على أية حال سؤالك هذا فرصة ذهبية لأن أبدأ في فتح هذا الملف مرة أخرى، ولن أجيب عن سؤالك بل سأحاول طرح القضية للنقاش والتفكير؛ لأضع إطارا خارجيا للإجابة ثم -وباعتبارك أحد المهتمين بهذا الأمر- يمكننا أن نتعاون للوصول إلى نتائج قابلة للتطبيق.

أولا: ما الهدف من حفظ القرآن من وجهة نظرك؟ وهل الحفظ غاية في حد ذاته؟ أم وسيلة لغاية؟ أم غايات أخرى؟ أم الاثنان معا؟
ومن ناحية أخرى مَن مِن أفراد الأُسر الذين التقيتَ بهم يقترب خلُقُه من خلق القرآن التي وصفت به السيدة عائشة -رضي الله عنها- الرسول --: “كان خُلُقه القرآن”، حتى هؤلاء الذين ألزموا أنفسهم بهذا النهج وسُموا بالملتزمين أو المتدينين؛ فكم منهم يلتزم في معاملته بإنفاذ الوعد، وعدم الغش، وعدم المداهنة، وعدم الغيبة، وعدم الكذب، وصلة الرحم، وحفظ اللسان، والإنصاف والعدل، ولو على أقرب المقربين إليه… إلى آخر هذه الصفات التي نعرفها كلنا ونُحفّظها أولادنا ونخالفها أحيانا.

وكم من أفراد الأسر التي تعرفها تجد القرآن وتلاوته جزءا لا يتجزأ من روتينهم اليومي مهما كانت الظروف، ويرى ذلك ويشب عليه الأبناء؟

وكم من هذه الأسر يثير الأبوان الموضوعات بطريق الحوار القرآني؛ بمعنى أن يتبعا آداب الحوار والجدال في مناقشتهما، وتتأثر لغتهما بلغة القرآن الكريم؟ (اطلع على بحث نُشر في مجلة “العلوم التربوية”، العدد الحادي عشر، يوليو، 1998، بعنوان “الجدل والحوار للتربية في القرآن”، وهي مجلة ربع سنوية، يصدرها معهد الدراسات التربوية بجامعة القاهرة).

وكم من هذه الأسر رأيت الوالدين فيها يتنافسان في حفظ القرآن، وكل منهما يهدي الآخر هدية عندما ينتهي من حفظ جزء معين منه أو يدعوه لتناول الغداء أو العشاء خارج المنزل، ويكون ذلك على مرأى ومسمع من الأبناء؟

وكم من أبوين أقاما مسابقات بينهما للاستدلال بالقرآن في المواقف الحياتية المختلفة؟
وكم منهما حاول أن يتتلمذ على يد شيخ يُحفظه القرآن؟ أو إذا كان أحدهما متخصصا في علوم القرآن وتلاوته فيجلس الطرف الآخر بين يديه ليتلقى عنه العلم؟

إذا كانت إجابتك بأن رأيت هذه النماذج فأنا أطلب منك أن تلاحظ (ملاحظة علمية) أبناء هذه الأسر، وكيف أن هؤلاء الأبناء تأثروا بهذا المناخ، واستطاعوا دون إلحاح حفظ أجزاء غير متتابعة من القرآن الكريم نتيجة لتكرارها أمامهم، كما ورد عن “أم هشام بنت حارثة” -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: “لقد كان تَنُّورُنا وتَنُّورُ النبي -- واحدا سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت “ق والقرآن المجيد” إلا على لسان رسول الله -- كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس”، ثم لاحِظْ لغة هؤلاء الأطفال وطريقتهم في التعبير وثقتهم بأنفسهم تجدْ أن هناك بونا شاسعا بينهم وبين الذين تربوا في بيئة مغايرة.

يا سيدي، خلاصة ما أود قوله: إنه لن يمثل تعليم القرآن وحفظه أهمية لدى أطفالنا، ويكون مفهوما لديهم إلا إذا شبُّوا في مثل هذه البيئة التي حدثتك عنها آنفًا، كما أنه لا يمكن فصل الحفظ عن حياتنا اليومية كما يحدث هذا -مع الأسف- في المقررات الدراسية، أو كما نرى بعض الآباء الذين يجتهدون اجتهادا عظيما في أن يلزموا أبناءهم بالحفظ على يد شيخ أو في وسط مجموعة بالمسجد دون أن يكون هناك مردود تربوي في البيت يؤكد القيم القرآنية التي يرددها الطفل في حلقات التحفيظ.

وكما يمكننا، وفي مثل البيئة السالف ذكرها إكسابه مهارات وسلوكا تعليميا بصورة أعمق، هذا على مستوى المؤسسة التربوية الاجتماعية الأولى في حياة أطفالنا وهى البيت، ثم لنستكمل هذا الانسجام والتناسق على يد معلم القرآن بالمدرسة أو بحلقات تحفيظ القرآن؛ فهو ذلك المعلم الذي يهيئ البيئة التعليمية ليكتسب الأطفال مهارة التعلم الذاتي، وهو ذلك الشخص الذي يقيم التنافس بين تلاميذه، ويضع أمامهم التحديات.

فالمرء يكون أكثر إقبالا على التعلم إذا وجد ما يتحداه، وهو أيضا ذلك الشخص الذي يتبع أحدث الطرق التعليمية في الحفظ؛ فيمكنه مثلا ربط القرآن بالأحداث الجارية أو بموضوعات تهم التلاميذ أنفسهم (قصص الحضارات والأمم الغابرة، علاقة الإسلام بالأديان الأخرى، السماحة والجهاد في الإسلام، العبادات والمعاملات في الإسلام… إلخ).
وهنا لا ينبغي على المعلم أن يلزم الأبناء بالحفظ التتابعي لسور القرآن، لكن يقوم الأمر على مبدأ الاختيار، وهذا رأي الدكتورة “نعمات أحمد فؤاد” (المناهج التعليمية.. رؤية موضوعية، ورقة مقدمة في مؤتمر “المناهج التربوية والتعليمية في ظل الفلسفة الإسلامية والفلسفة الحديثة”، القاهرة، 29-31 يوليو 1990)، ويشارك الدكتورة نعمات أحمد فؤاد العديد من التربويين. وفي هذه الحالة يلجأ للطرق الحديثة في التدريس مثل طريقة المشروعات والعمل الجماعي أو طريقة الاستكشاف أو حل المشكلات أو طريقة المناقشة أو التعلم الفردي… إلخ. ويرجع اختيار الطريقة لعدة اعتبارات، منها: البيئة التعليمية، والبيئة الاقتصادية الاجتماعية للتلاميذ وأعمارهم وقدراتهم على الحفظ، والمهارات السابقة المطلوبة… إلخ، (يمكنك الاطلاع على كتب مهارات التدريس بصفة عامة وطرق تدريس التربية الإسلامية بصفة خاصة لكثير من المتخصصين في هذا المجال، منهم على سبيل المثال لا الحصر أستاذنا الدكتور جابر عبد الحميد جابر وكتابه “مهارات التدريس”، دار النهضة العربية، مصر، وكتب أخرى متخصصة في التربية الإسلامية لكل من: د/ مصطفى رسلان، منها:”طرق تدريس التربية الإسلامية”، دار الكتاب اللبناني، بيروت ، د/ علي مدكور:”تدريس فنون اللغة العربية” ، دار الشواف، الرياض)، وغيرهم الكثيرون. والمكتبة العربية زاخرة بمثل هذه الكتب تنتظر من يحول النظري إلى التطبيقي.

وأما كيفية اختيار الموضوعات فيكون الأمر متناوبا بين المعلم وتلاميذه، واختيار المعلم لا يكون بطريقة عشوائية أو يختار الموضوعات التي تستهويه هو أو يحبذها أو يرى أنها الأَولى بالبحث؛ بل يخضع اختيار المعلم إلى معرفة جيدة بخصائص المرحلة العمرية التي يقوم بتعليمها، مع مراعاة الفروق الفردية (يمكنك الاطلاع على أي كتاب من كتب علم نفس النمو، وأرشح كتاب “علم نفس النمو” للدكتور حامد زهران)، ويستعين المعلم أيضا بتكنولوجيا التعلم، ولا أقصد الوسائل والأدوات الحديثة من:
(Computers , overhead projector, Slides projector, video,… etc)فقط؛ بل أعني في طريقة الإعداد والتفكير، وأيضا يمكن الاستعانة بكتب تكنولوجيا التعليم وأرشح (كتاب الدكتور حسين الطوبجي “تكنولوجيا التعليم”).

كما ترى -أخي الفاضل- أننا كمعلمين وكمربين نستسهل، ونستخدم أيسر الطرق لدينا، مثل عملية التلقين التي ورثناها جيلا بعد جيل.

ومن خلال رسالتك هذه أستثمر هذه الفرصة لنجعلها دعوة لكل المخلصين المهتمين بتنشئة أولادنا على النهج القرآني أن يسارعوا باقتراحات ودراسات علمية عملية في هذا الأمر، والأمر جد خطير. ولنجعل تقابلنا على صفحات هذا الموقع لنناقش آخر ما توصلنا إليه، ونتبادل الخبرات لعل الأمر يؤتي ثماره، ويصبح الجيل القادم جيلا قرآنيا حفظا وعملا.
أدعو الله أن يمنحنا شرف المشاركة في هذا العمل القيم الذي ندعو الله أن يكون شفيعا لنا يوم القيامة.

ملاحظة: يمكن الاطلاع على موضوعات لها صلة بموضوع حفظ القرآن، نُشرت في هذا الموقع:
مدارس تحفيظ القرآن: الواقع.. الدور.. وكنز الأمَّة
برنامج لتحفيظ القرآن: تكنولوجيّ.. وغير تقليديّ
تبادل الخبرات…..دعوة معلم
تبادل الخبرات…..دعوة معلم-مشاركة
المنهج السليم لتحفيظ القرآن الكريم
“برنامج لتحفيظ القرآن”: من التنظير إلى الواقع.. مشاركة