احتوت الأعمال الكاملة للشاعر الراحل أمل دنقل على ستة دواوين شعرية كاملة هي: مقتل القمر – البكاء بين يدي زرقاء اليمامة – تعليق على ما حدث – العهد الآتي – أقوال جديدة عن حرب البسوس – أوراق الغرفة (8) – بالإضافة إلى سبع قصائد متفرقة ترجع كتابتها إلى تواريخ مختلفة وهذه القصائد هي: إلى صديقة دمشقية (أيلول 1966) عشاء – البطاقة السوداء “إلى أنور المعداوي” – لا أبكيه (1973) وهي من الشعر العمودي “بحر الرمل” وكتبت في وفاة “طه حسين” – العراف الأعمى (1974) – نجمة السراب – وأخيرًا قصيدة أيدوم النهر؟ (1980).

ومن أحدث الدواوين التي ظهرت قبيل ظهور هذه الطبعة الكاملة لأعمال الشاعر، ديوان “أقوال جديدة عن حرب البسوس” الذي قامت بطبعه مكتبة المستقبل العربي للنشر والتوزيع بالقاهرة، والذي ضم بين دفتيه قصيدتين فقط هما مقتل كليب “الوصايا العشر” التي اشتهرت بـ (لا تصالح) ومراثي اليمامة.

وقد اكتسبت قصيدة مقتل كليب أو “لا تصالح” المكتوبة في نوفمبر “تشرين الثاني 1976م” شهرتها قبل اتفاقيات كامب ديفيد وبعدها، وعلى وجه التحديد بعد توقيع اتفاقيات فضّ الاشتباك بعد حرب العاشر من رمضان – السادس من أكتوبر 1973م – المجيدة.

لذا فإننا نرى أن الفعل “لا تصالح” تكرر عشرين مرة في المقاطع العشرة أو الوصايا العشر لهذه القصيدة.

تكرر هذا الفعل مرتين في كل وصية، عدا الوصية الخامسة التي تكرر فيها ثلاث مرات في السطر الأول، والسطر السابع والسطر السادس عشر؛ لذا فإننا نراه يجيّء مرة واحدة في الوصية السابعة في أول سطر فقط، بينما احتوت الوصية العاشرة أو الأخيرة على هذا الفعل فقط مكررا مرتين.

لا تصالح

لا تصالح

وكأن الشاعر أمل دنقل مع نهاية القصيدة يريد أن يؤكد تأكيدًا نهائيًّا – مع إسدال الستار على وصاياه – على هذا الفعل الذي كان محور القصيدة منذ أول حروفها وحتى نهايتها.

والمتأمل لتكرار هذا الفعل المسبوق بـ “لا” الناهية سيكتشف أن الشاعر استخدمه بكل أبعاد أو طاقات فعل الأمر الموجود في لغتنا العربية، فهو يستخدمه مرة بغرض التوسُّل، ومرة بغرض الأمر الفعلي أو الحقيقي، ومرة بغرض الرجاء أو النصح، ومرة تُحِسُّ أن الشاعر مجرد طفل صغير يتوسل لأخيه الكبير أو لأبيه، أو يستعطفه كي لا يُقْدِم على هذا الأمر الجلل وهو الصلح مع العدو، ومرة تحس بأنه هو الكبير والمدرك للأمور كلها، أو هو الراوي العليم الذي لديه حاسة الرؤية المستقبلية؛ لذا فإنه يملك الأمر والنهي في قوله “لا تصالح”، ومرة تحس بأنه نِدُّ لمن يأمره وبأنه يتساوى معه في الرتبة أو في المقام؛ لذا فإنه يقدم الرأي الواثق، ومرة تحس بأنه رجل عجوز خبر العراك وخبر النفوس البشرية؛ لذا فإنه يقدم نصيحته للطرف الآخر بأن لا يصالح.

والشاعر في استخدامه في كل مرة لهذا الفعل “لا تصالح” يأتي بمبررات عدم الصلح حتى تكون مسألة الإقناع أكثر إفادة وأكثر تأثيرًا على الطرف الآخر.

-1-

في المقطع الأول أو في الوصية الأولى يأتي الشاعر بصورة منطقية يقبلها كل إنسان عاقل، هذه الصورة عبارة عن معادلة رياضية طرفها الأول يقول:

أترى حين أفقأ عينيك

ثم أثبت جوهرتين مكانهما .. ..

وطرفها الثاني يقول:            هل ترى ؟؟؟؟

وهو لا يذكر لنا النتيجة المترتبة على هذه المعادلة أو إجابة هذا السؤال – ولكننا نعرفها من خلال خبرتنا بالحياة، ومن خلال تعاملنا مع البشر ومع الأحياء، ومن خلال ملاحظاتنا لما حولنا، تلك النتيجة – أو الإجابة – التي ستكون بالنفي قطعًا – لأن الجوهرة التي ستثبت مكان العين لن تعطينا الرؤية على الإطلاق رغم قيمتها المادية الكبيرة.

إنه بهذه المعادلة التي ترك لنا مهمة استخراج نتيجتها، يضع الطرف الآخر الذي يقول له “لا تصالح” أمام حالة منطقية عقلانية بحتة لعله يعي ما سوف يترتب من آثار على هذا الصلح.

وكأن الشاعر يعرف أن الطرف الآخر لن يستجيب له أو لن يعي نتيجة المعادلة أو إجابة السؤال الذي طرحه على هيئة معادلة؛ لذا فإنه يلجأ إلى وسيلة أخرى للتأثير وهي الرجوع إلى الوراء (فلاش باك) حيث الذكريات، إنه يذكر الطرف الآخر بأيام الطفولة.

ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك

حسُّكما – فجأة – بالرجولة،

هذا الحياء الذي يكبت الشوق .. حين تعانقه

الصمت .. – مبتسمين – لتأنيب أمكما ..

وكأنكما

ما تزالان طفلين !

لعل هذا الطرف يتذكر أحلى أيام العمر، أيام الطفولة والنقاء والطهارة والصدق، لعله يتذكر ويتراجع عن قراره الذي اتخذه بشأن الصلح مع العدو، وحينما يحس أيضًا أن ليست هناك استجابة من قِبَلِ هذا الطرف، يلجأ إلى استخدام طريقة أخرى للتأثير وهي طريقة ربما تكون أيضًا عقلانية، ولكنها تمس وترًا من نوع آخر وهي الاستهانة بهذا الطرف الذي يعتقد أنه وصي على الأبناء:

إنك إن مت:

للبيت رب

وللطفل أب

ثم يلجأ لوسيلة أخرى، هي استثارة النخوة العربية عن طريق توظيف الأمثلة العربية أو الشعبية في هذا التساؤل الاستنكاري أيضًا:

أتنسى ردائي الملطخ .. ..

تلبس – فوق دمائي – ثيابًا مطرزة بالقصب ؟؟

ثم ينهي الشاعر أمل دنقل هذه الوصية الأولى بسطور أشبه ما تكون بالتحذير لهذا الطرف أو لهذا “الآخر” الذي لا يريد أن ينصت إليه رغم كل التوسلات، ورغم كل الأساليب التي لجأ إليها في السطور السابقة بهدف التأثير:

إنها الحرب !

قد تثقل القلبَ .. ..

لكن خلفك عار العرب

لا تصالح .. ..

ولا تتوخَّ الهرب !

ويتضح منذ البداية أن الشاعر يستخدم تفعيلة بحر المتدارك “فاعلن” الخماسية، وأحيانًا يستخدم مخبونها فَعِلُن (بتحريك العين) وهي التفعيلة التي أكثر الشاعر أمل دنقل من استخدامها في مراحله الشعرية الأخيرة، وديوانه أوراق الغرفة (8) خير شاهد على ذلك.

ويلاحظ على المقطع الأول – أو الوصية الأولى – أن الشاعر أمل دنقل تحلل في كثير من الأحيان من التقفية، ومن المعروف أن أمل دنقل من أكثر الشعراء المعاصرين (المحدثين) لعبًا بالقافية التي كثيرًا ما يجيد استخدامها في الشعر التفعيلي، إلا أنه بقليل من التدقيق سنجد أنه في السطور الأخيرة يستخدم قافية الباء الساكنة مع فتح الحرفين السابقين لها (القصب -­ العرب – الهرب)، وقد كانت هناك إرهاصة لهذه القافية في السطر الثاني من القصيدة في كلمة الذهب في قوله (ولو منحوك الذهب)، ويطلق على هذا النوع من القافية اسم (المتدارك)، أيضًا يلاحظ أن هذه القافية تكررت في السطر الثامن عشر في قول الشاعر (وللطفل أب)، مما يدل على أن الشاعر أمل دنقل حاول أن يقيم هذا البناء الموسيقي الخارجي في بعض سطور هذه الوصية ونجح في ذلك خمس مرات، بالإضافة إلى تنويعه الداخلي لهذا النوع من الموسيقى مثل (هل ترى – لا تشترى) و(كأنكما – بينكما)، وربما هذه الموسيقى تستخدم كنوع من التأثير على الطرف الآخر، بالإضافة إلى الوسائل الأخرى التي ذكرناها من قبل.

-2-

أما المقطع الثاني أو الوصية الثانية فقد وقعت في عشرين سطرًا استخدم فيها الشاعر أمل دنقل الفعل “لا تصالح”، كما ذكرنا من قبل مرتين في السطرين الأول والثاني فقط:

لا تصالح على الدم.. حتى بدم !

لا تصالح ولو قيل رأس برأس،

وهنا يلجأ الشاعر إلى صيغة السؤال، تلك الصيغة التي استخدمها أربع مرات تمثلت في السطور:

أقلب الغريب كقلب أخيك ؟؟؟

أعيناه عينا أخيك ؟؟!

وهل تتساوى يد.. سيفها كان لك

بِيَدٍ سيفها أَثْكَلك ؟؟؟

وصيغة السؤال هنا – أيضا – تفيد الاستنكار، خاصة أن ثلاثة أسئلة من الأسئلة الأربعة بدأت بالهمزة.

إن السؤال هنا يحمل في طياته إجابته، ويحس بأن مثل هذه الأسئلة السابقة تلقي بظلال من التوبيخ فضلاً عن الاستنكار.

وإذا كان الشاعر أمل دنقل في وصيته الأولى استخدم ذكريات الطفولة – عن طريق التركيز على الماضي كنوع من أنواع التأثير – فإنه في وصيته الثانية يستخدم الصيغة المستقبلية عن طريق تكرار “سيقولون” مرتين.

سيقولون:

جئناك كي تحقن الدم

جئناكْ .. كن – يا أمير – الحكم

سيقولون:

ها نحن أبناء عم

وهذا نوع جديد من التأثير، أي إنه يقول للآخر: إنه أعلم منه بالعدو وبخباياه النفسية وبطواياه وبطرائقه في التعامل وبمنطقه في الإقناع، فلا يغرنك هذا كله، لأنه ما هو إلا أساليب وحيل مكشوفة ومعروفة ومفهومة.

وهنا يبرز فعلاً أمران جديدان غير “لا تصالح” وهما: قل لهم – اغرس، في قوله:

قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك

واغرس السيف في جبهة الصحراء ..

إلى أن يجيب العدم

وبقدر ما تفيد أفعال الأمر في النصح والإرشاد، بقدر ما تدلنا على أن الشاعر أمل دنقل كان أكثر حكمة وأكثر إدراكًا وأكثر فهمًا لما يجري من حولنا ويتعلق بمصيرنا، إنه يقدم نصحه وإرشاده  للآخر الذي يوجه إليه الأمر منذ مطلع القصيدة، والذي يوجه إليه الفعل المسبوق ب “لا تصالح” خلال القصيدة ككل.

ونلاحظ في هذه الوصية الثانية أن الشاعر أمل دنقل يعزف على نوعين من القافية، الأولى رويها الميم الساكنة في (بدم – الحكم – عم – العدم) والثانية رويها الكاف الساكنة في (كان لك – أثكلك – فيمن هلك – كنت لك – وملك) مع ملاحظة أن الكاف الساكنة تغلبت – في العدد – على الميم الساكنة.

ومن الصور الشعرية البارزة جدًا في هذا المقطع قول الشاعر:

واغرس السيفَ في جبهة الصحراء

إلى أن يجيب العدم

وهي من الصور الشعرية التي من الممكن أن يقال عنها إنها “مستحيلة” لأن العدم من المستحيل أن يجيب، ومن هنا يظل السيف مغروسًا في جبهة الصحراء استعدادًا للنزال والحرب التي ستظل إلى أن يجيب العدم.

وأعتقد أن سر بروز هذه الصورة في هذا المقطع، أنه جاء مفرغًا من أية صورة شعرية عدا هذه الصورة الجميلة المستحيلة.

-3-

أما الوصية الثالثة فقد وقعت في تسعة وعشرين سطرًا رجع الشاعر أمل دنقل خلالها مرتين إلى استدعاء صور وذكريات للطفولة عله يستطيع التأثير بهذه الطريقة على الآخر وذلك في قوله:

وتذكرْ .. .. .. .. ..

(إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن

الذين تخاصمهم الابتسامة)

أن بنت أخيك “اليمامة”

زهرة تتسربل – في سنوات الصبا –

بثياب الحداد

كنت، إن عدتُ:

تعدو على درج القصر،

تمسك ساقيَّ عند نزولي .. ..

فأرفعها – وهي ضاحكة – ..

فوق ظهر الجواد

ها هي الآن صامتة

حرمتها يد الغدر:

من كلمات أبيها،

ارتداء الثياب الجديدة

من أن يكون لها – ذات يوم – أخ

من أب يتبسَّم في عرسها

وتعود إليه إذا الزوج أغضبها

وإذا زارها .. يتسابق أحفاده نحو أحضانه،

لينالوا الهدايا .. ..

ويلهوا بلحيته (وهو مستسلم)

ويشدُّوا العمامة

إلا أننا نقول:  إن الشاعر أمل دنقل استخدم أسلوب النصح في مطلع هذه الوصية في قوله:

لا تصالح .. .. ..

ولو حرمتك الرقاد

صرخات الندامة

ولأول مرة يستخدم الشاعر فعل الأمر (تذكر) صراحة في القصيدة والمعطوف على الفعل لا تصالح.. وهنا نلاحظ أن الشاعر أمل دنقل يستخدم (إذا) التي تفيد عدم التأكد من وقوع هذا الأمر، وأنه ما زال في شك من أمر الآخر.

يلاحظ في هذا المقطع أن الشاعر  أمل دنقل يعتمد في موسيقاه على نوعين من القافية مثلما لاحظنا في المقطع السابق، النوع الأول رويه الدال الساكنة في قوله: (الرقاد – السواد – الحداد – الجواد – الرماد)، أما النوع الثاني الميم المفتوحة فالهاء الساكنة في قوله: (الندامة – ابتسامة – اليمامة – العمامة – اليمامة “مرة أخرى”).

ويلاحظ أن عدد كل من القافيتين جاء متساويًا في هذه الوصية.

-4-

وفي الوصية الرابعة يعود الشاعر أمل دنقل مرة أخرى لاستخدام صيغة السؤال ثلاث مرات، في هذا المقطع الذي وقع في سبعة عشر سطرًا، حيث يقول الشاعر:

كيف تخطو على جثة ابن أبيك ؟

وكيف تصير المليك .. .. ..

على أوجه البهجة المستعارة ؟

كيف تنظر في يد من صافحوك .. ..

فلا تبصر الدم .. .. ..

في كل كف .. .. ؟

إن هذه الأسئلة تفيد الاستنكار وتؤكد على استحالة أن يحدث مثل هذا، وبمثل هذه الكيفية، التي جاء ذكرها في الأسئلة؛ لذا نرى الشاعر يبدأ أسئلته الثلاثة بـ “كيف”.

في هذه الوصية يلاحظ كثرة استخدام القافية، وكثرة تنوعها:

1- (الأمارة – المستعارة – شارة – الأمارة “مرة أخرى”).

2- (أبيك – المليك – صافحوك).

3- (كل كف – من الخلف – ألف خلف).

4- (سيف – زيف).

5- (الشرف – الترف).

وكما لوحظ فإن النوع الأول من القافية كان أكثر انتشارًا وأكثر توزيعًا بين سطور هذه الوصية، حيث انتشرت هذه القافية في أواخر السطور (الثاني – الخامس – الحادي عشر – الثالث عشر).

-5-

في الوصية الخامسة – كما سبق أن أوضحنا – يستخدم الشاعر “لا تصالح” ثلاث مرات في السطر الأول – السطر السابع – السطر السادس عشر، في حين أن هذه الوصية تكونت من واحد وعشرين سطرًا.

وهو يستخدم الصيغة (ولو قال – ولو قيل) مرتين في هذا المقطع في قوله:

لا تصالح

ولو قال من مال عند الصدام

“.. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام ..”

لا تصالح

ولو قيل ما قيل من كلمات السلام

إن الغائب يصبح حاضرًا في هذا الجزء من الوصية؛ لأننا سنعرف – أو أننا نعرف بالفعل – من هو الذي يمكن أن يقول ما بنا طاقة لامتشاق الحسام، ومن الذي يداعبنا بكلمات عن السلام أو بكلمات من السلام.

إن القافية في هذا الجزء تتراوح بين الميم الساكنة المسبوقة بألف المد والسين الساكنة، وذلك في قوله (الصدام – الحسام – السلام – الغرام – ينام – الطعام – الفطام) و (تتنفس – بخرس – المدنس – منكس – المقدس).

كما يلاحظ أن الشاعر يعود إلى استخدام صيغة التساؤل في هذه الوصية بالإضافة إلى صيغة الأمر، فعلى حين تجد أن الشاعر يستخدم التساؤل خمس مرات في قوله:

1- كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنس ؟

2- كيف تنظر في عيني امرأة أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها ؟

3- كيف تصبح فارسها في الغرام ؟

4- كيف ترجو غدًا .. لوليد ينام ؟

5- كيف تحلم أو تتغنى بمستقبل لغلام وهو يكبر بين يديك – بقلب منكس ؟

نجد أنه يستخدم النهي في: لا تقتسم، والأمر في: ارو (تكررت ثلاث مرات) خلافًا للنهي في: لا تصالح الذي تكرر ثلاث مرات أيضًا، أي أن الشاعر استخدم صيغة الأمر سبع مرات في هذه الوصية.

وربما يكون هذا الجزء هو أكثر الأجزاء استخدامًا لصيغة التساؤل وفعل الأمر معًا، إن التساؤلات السابقة التي تفيد الاستنكار والتعجب تفيد أيضًا معرفة الشاعر لخصوصية الشخصية التي يخاطبها، بل معرفة الخصائص النفسية، وهنا يلاحظ على هذه التساؤلات:

إن الشاعر يستخدم الصيغة التي تبدأ بـ “كيف” التي ربما تفيد التعجب، ولكن طرحها خمس مرات على هذا النحو يدل على أن الشاعر يريد الوصول إلى الكيفية التي يفكر بها هذا الآخر الذي يخاطبه أو يوجه إليه التساؤلات، إنه يريد أن يتخطى الطريقة التي يفكر بها الآخر نظريًّا إلى الطريقة العملية، عن طريق تكرار هذه الصيغة التي بدأت بـ “كيف”، وربما أنه يستنكر على هذا الآخر أن يفعل مثل هذه الأفعال، فإنه بطريقة غير مباشرة يقول لنا إنه عرف أو يعرف خصائص شخصيته، بل إنه في التساؤل:

كيف تنظر في عين امرأة

أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها ؟

يضع الآخر في مواجهة مع النفس، وتكون المواجهة عنيفة جدًا أو أعنف ما يكون؛ لأنه يطعنه في رجولته، ويطعنه فيما يتعارف عليه الرجل الشرقي من حمايته للضعيف، خاصة إذا كان هذا التساؤل على هذا النحو، إنه يأتي كصفعة قوية لعلَّ الآخر يفيق من غفوته ويعمل بنصيحة الشاعر في قوله “لا تصالح” التي هي سر كتابة هذه الوصايا، أيضًا يأتي التساؤل الثاني:

كيف تصبح فارسها في الغرام ؟؟؟

مؤكدًا على هذا المعنى.

وإذا كان الشاعر قد لجأ إلى ما أسميناه بالصورة الشعرية المستحيلة في قوله:

واغرس السيف في جبهة الصحراء

إلى أن يجيب العدم

وذلك في الوصية الثانية، فإنه يلجأ مرة أخرى إلى مثل هذه الصورة الشعرية المستحيلة في هذه الوصية الخامسة في قوله – في نهايتها:

واروِ قلبك بالدم .. ..

واروِ التراب المقدس .. ..

واروِ أسلافك الراقدين .. ..

إلى أن ترد عليك العظام !

وتكمن الاستحالة في هذه الصورة في السطر الأخير “إلى أن ترد عليك العظام”، وكما قلنا إنه من المستحيل أن يجيب العدم في الوصية الثانية، فإننا نؤكد أيضًا على استحالة أن ترد العظام، ومن هنا يظل الآخر عاكفًا على إرواء قلبه بالدم وعاكفًا على إرواء التراب المقدس من هذا الدم، وعاكفًا على إرواء الأسلاف الراقدين إلى أن ترد عليه العظام، أي إلى أن تحدث معجزة وترد العظام أو إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

-6-

الوصية السادسة تتكون من خمسة وعشرين سطرًا، وهنا نلاحظ أن الشاعر يلجأ إلى الحكمة في قوله:

إنه الثأر

تبهت شعلته في الضلوع .. ..

إذا ما توالت عليه الفصول

وتأتي الحكمة من نفس بيئة القصيدة، ومن نفس البناء المعماري والبناء النفسي الذي اعتمدت عليه القصيدة كلها.

ويلاحظ أيضًا أن صيغ التساؤل التي تكررت في الوصايا السابقة تنعدم في هذه الوصية، وأن فعل الأمر الذي تعودنا على أن نراه في الوصايا السابقة ينخفض عدده ليصبح فعلاً واحدًا هو “خذ” في قوله:

فخذ – الآن – ما تستطيع

هذا خلافًا للفعل “لا تصالح” الذي تكرر مرتين في السطر الأول، والسطر التاسع عشر، ويلاحظ على هذا الجزء السادس أن الشاعر يلجأ إلى نوعين من القافية تراوحت بين اللام فالهاء الساكنة في قوله: (القبيلة – الجليلة – القليلة – حيلة – الذليلة)، وقافية الواو أو الياء فاللام الساكنة في قوله: (القبول – يطول – جيل – المستحيل – الفصول).

-7-

أما في الوصية السابعة فإن الشاعر يستخدم الفعل “لا تصالح” مرة واحدة فقط في السطر الأول من الوصية، وهنا يلجأ الشاعر مرة أخرى إلى أسلوب النصيحة في قوله:

لا تصالح، ولو حذَّرتك النجوم

ويلاحظ استخدامه لصورة من حياة الأقدمين في قراءاتهم للنجوم واستشارتهم للكهان، وهذه الوصية تتكون من 23 سطرًا، كما يلاحظ أيضًا على هذه الوصية أن عنصر الحكي أو القص واضح فيها، بالرغم من أنها بدأت بالفعل “لا تصالح”:

لم يصح قاتلي انتبه

كان يمشي معي

ثم صافحني

ثم سار قليلاً

ولكنه في الغصون اختبأ

فجأة

ثقبتني قشعريرة بين ضلعين ..

واهتز قلبي كفقاعة – وانْفَثَأ !

وتحاملت حتى احتملت على ساعدي

فرأيت: ابن عمي الزنيم

واقفًا يتشفى بوجهٍ لئيم

لم يكن في يدي حربة

أو سلاح قديم

لم يكن غير غيظي الذي يشتكي الظمأ !

ويلاحظ في هذه الوصية أن الفعل الماضي نسبته قد ارتفعت كثيرًا؛ لأن هذا الفعل يتناسب مع عملية الحكي أو القص أو السرد، ومن هذه الأفعال الماضية التي لاحظنا وجودها (حذرتك – رمى – صافحني – سار –­ اختبأ –ثقبتني – اهتز – انفثأ – تحاملت – احتملت – رأيت)، هذا بالإضافة إلى الصيغ أو التعبيرات المركبة التي تدل على الزمن الماضي مثل: (لم أمد – لم يصح –كان يمشي – لم أكن).

أما عن القافية فقد تراوحت بين استخدام الهمزة الساكنة مع فتح ما قبلها والتي تكررت ست مرات (النبأ – الخطأ – لم أطأ – اختبأ – انفثأ – الظمأ) واستخدام الياء أو الواو فالميم الساكنة، والتي تكررت أيضًا ست مرات في قوله: (النجوم – التخوم – الكروم – الزنيم – لئيم – قديم).

-8-

الوصية الثامنة تتكون من 23 سطرًا، أيضًا استخدم الشاعر فيها الفعل “لا تصالح” مرتين كعادته، كما أتى بكلمة “الصلح” مرة واحدة منفردة في قوله:

فما الصلح إلا معاهدة بين ندين

وهو في هذه الوصية ينصح الآخر بأن لا يصالح حتى تستقيم الأشياء وتستقر ويعود كل شيء إلى موضعه الطبيعي، ذلك أن كل شيء تحطم في لحظة عابرة، كل شيء تحطم في نزوة فاجرة:

لا تصالح

إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة

النجوم .. .. .. .. . لميقاتها

والطيور .. .. .. .. لأصواتها

والرمال .. .. .. .. لذراتها

والقتيل لطفلته الناظرة

كل شيء تحطم في لحظة عابرة

إن الأشياء التي تحطمت في لحظة عابرة وفي نزوة فاجرة هي:

1- الصبا

2- بهجة الأهل

3- صوت الحصان

4- التعرف بالضيف

5- همهمة القلب حين يرى برعمًا في الحديقة يذوي

6- الصلاة لكي ينزل المطر الموسمي

7- مراوغة القلب حين يرى طائر الموت وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة.

إنه عالم من الطفولة والبهجة والأصالة والكرم والحب والنقاء والطهر قد افتقدناه، فكيف تأتي عملية المصالحة وكل هذه الأشياء غائبة عنا؟ إن الموجود حاليًا في عالمنا هو نقيض هذه الأشياء، الموجود هو (الشيخوخة – الحزن – الخديعة والمكر والقشور – الشح والتقتير – الكراهية والنجاسة – والبغضاء والشَّحناء ..).

كيف تأتي مسألة الصلح والطرف الآخر (العدو) الذي سأتصالح معه ليس أنبل وليس أمهر مني، بل إنه محض لص، كيف يسرقني ويسلبني وأذهب إليه وأتفاوض معه من أجل الصلح؟

لا تصالح

فما الصلح إلا معاهدة بين ندين ..

(في شرف القلب)

لا تنتقص

والذي اغتالني محض لص

سرق الأرض من بين عيني

والصمت يطلق ضحكته الساخرة !

أما عن استعمال الشاعر للقافية فقد تكررت الراء فالهاء الساكنة سبع مرات في قوله: (الدائرة – الناظرة – عابرة – الكاسرة – الماكرة – فاجرة – الساخرة)، مع إدخال بعض القوافي الأخرى لكسر رتابة هذه القافية مثل التاء فالهاء الممدودة (ميقاتها – أصواتها – ذراتها)، والتاء فالهاء المكسورة (بمشيئتهِ – بسكينتهِ)، والصاد الساكنة (لا تنتقص – محض لص).

-9-

تتكون الوصية التاسعة من 11 سطرًا استخدم الشاعر فيها الفعل “لا تصالح” مرتين في السطر الأول والسطر الثامن، وهنا يستخدم هذا الفعل بغرض التحذير:

لا تصالح

ولو وقفت ضد سيفك كلُّ الشيوخ

والرجال التي ملأتها الشروخ

إنه يحذره من أبناء قبيلته فربما يجد هذا التصالح هوى في نفوسهم؛ لذا فإن الشاعر يكشف له الحقيقة في هذه الوصية لأن مثل هؤلاء ما هم إلا رجال ملأتهم الشروخ:

هؤلاء الذين يحبون طعم الثريد

وامتطاء العبيد

هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم

وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ

إن الشاعر يلجأ إلى أسلوب جديد في هذه الوصية يعزف عليه، وهو أسلوب الترغيب والمدح، فربما يستطيع بواسطة هذا الطريق التأثير على الآخر، إنه يقول له:

لا تصالح

أنت فارس هذا الزمان الوحيد

وسواك .. .. .. المسوخ

إنها المرة الأولى التي يستخدم فيها الشاعر هذا الأسلوب في الإقناع والتأثير وربما يكون قد لجأ إليه لإحساسه بأنه استنفد كل وسائله من النصح والإرشاد والأمر والاستعطاف والرجاء والتوسل … إلخ؛ لذا فإنه يلجأ أخيرًا إلى أسلوب المدح فربما يستطيع الوصول إلى منطقة نفسية لم يطرقها من قبل عن طريق المدح والثناء على غرار ما كان يفعل شعراؤنا الأقدمون.

ويلاحظ على هذا المقطع أن الشاعر استخدم قافية الواو فالخاء الساكنة في قوله: (الشيوخ – الشروخ – الشموخ – المسوخ)، وأيضًا استخدم قافية الياء فالدال الساكنة في قوله: (الثريد – العبيد – أن تريد – الوحيد).

-10-

أما في الوصية الأخيرة فإن الشاعر مع إسدال الستار على كل وصاياه لا يملك إلا أن يكرر الفعل “لا تصالح” مرتين:

لا تصالح

لا تصالح

ليؤكد على أهمية هذا الفعل المحوري الذي جاءت من أجله كل القصيدة، إنه لا يملك إلا ترديد لا تصالح مرتين بكل ما في هذا الفعل من طاقة وتأثير وإيحاء ومقدرة على الفعل سبق للشاعر أن نثرها في كل الوصايا السابقة؛ لذا فإنه لا يستطيع أن يقول في النهاية شيئًا أكثر من:

لا تصالح

لا تصالح

*****

* الوثبة الفنية في قصيدة “لا تصالح”:

يقول د. مصطفى سويف في مقال له بعنوان “النقد الأدبي ماذا يمكن أن يفيد في العلوم النفسية الحديثة” – (مجلة فصول – المجلد الرابع – العدد الأول – أكتوبر/ نوفمبر/ ديسمبر 1983م): “لقد كشفت النتائج التي أمكن الوصول إليها من دراسة العمليات النفسية في إبداع الشعر عن أن الوحدة الأولية للقصيدة هي “الوثبة”، وهذا بناء مغاير للوحدة الفنية المعتادة التي هي البيت، والوثبة مجموعة من الأبيات تليها دفقة واحدة من دفقات النشاط الفكري الإنتاجي، وبالتالي فإن التفكير الإبداعي في الشعر يتقدم في خطوات تتخذ شكل وثبات، أي أن فكر الشاعر لا يتقدم من بيت إلى بيت ولكن من وثبة إلى وثبة، وليس للوثبة طول ثابت، فقد تكون ثلاثة أبيات وقد تكون سبعة أو أكثر أو أقل ….”.

ونحن إذا قمنا بتطبيق هذا المفهوم النقدي النظري على القصيدة التي نحن بصدد دراستها فسنجد أن هذه القصيدة تحتوي على عدد هائل من “الوثبات”، وعلى سبيل المثال سنجد أن الوصية الأولى التي تكونت من 26 سطرًا قد احتوت على تسع وثبات يمكننا طرحها على النحو التالي بغرض تقريب هذا المفهوم النقدي من الأذهان:

1- لا تصالح !

ولو منحوك الذهب

2ـ أترى حين أفقأ عينيك،

ثم أثبت جوهرتين مكانهما ..

هل ترى .. .. ؟

3ـ هي أشياء لا تشترى

4ـ ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،

حسكما – فجأة – بالرجولة،

هذا الحياء الذي يكبت الشوقَ ,, حين تعانقه،

الصمت – مبتسمين – لتأنيب أمكما ..

وكأنكما

ما تزالان طفلين !

تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:

أن سيفان سيفك ..

صوتان صوتك

5ـ أنك إن مت:

للبيت رب

وللطفل أب

6- هل يصير دمي – بين عينيك – ماء ؟؟؟

7- أتنسى ردائي الملطخ .. ..

تلبس – فوق – دمائي – ثيابًا مطرزة بالقصب ؟؟؟

8- إنها الحرب !

قد تثقل القلب .. ..

لكن خلفك عار العرب

9- لا تصالح .. .. ..

ولا تتوخَّ الهرب !

وبهذا المفهوم التطبيقي سيتضح أن كل وصية تحتوي على عدد من الوثبات، وقد رأينا بالفعل أنه ليس للوثبة طول ثابت فقد تكون سطرًا أو أكثر.

وما من شك في أن هذا المفهوم النقدي الجديد نحن في حاجة إليه، وفي حاجة إلى مفاهيم نقدية مماثلة تمكننا من الاقتراب أكثر من مفاهيم وجماليات الشعر العربي المعاصر، وهذا لن يتأتَّى إلا بمعانقة المفهوم النظري للمفهوم التطبيقي للشعر بعامة.

الإسكندرية-أحمد فضل شبلول