قبل معركة بدر قبض الصحابة -رضي الله عنهم جميعًا- على غلام راعٍ لقريش.. سألوه عن عدد الجيش.. فإذا به لا يحسن الإجابة فضربوه، حتى أقبل النبي -- وهو عالم النفس الحقيقي بلا منازع، فإذا به يسأل الغلام: “كم ينحر القوم من الإبل؟” قال الغلام: بين التسعة والعشرة، فقال --: “القوم بين التسعمائة والألف”، فعرف رسول الله -- أن هذا الغلام لا يعرف الألوف، ولكن طاقته العقلية تدرك عدد العشرات.. عشرات أي شيء؟ عشرات الإبل التي يسهل عدها على كل طفل.

أورد هذا المثال الأستاذ “محمد ديماس” في معرض حديثه في كتابه “الإنصات الانعكاسي” عن أن إدراكنا لدرجة نمو عقل الطفل التي وصل إليها يسهِّل علينا حل كثير من مشاكله؛ إذ عندها نعرف متى نخاطبه والكلمات التي نستعملها.. فالطفل كأي كائن له حدود -حسب المرحلة العمرية التي يمر بها- لا يستطيع تجاوزها.. وعقله وفكره ما زال في ريعان النمو والتوسع.

أخي السائل، أودّ بداية أن أشكركم على اهتمامكم الواضح في رعاية أبنائكم والمحافظة عليهم.
من خلال رسالتكم اتضح لي أن عبد الرحمن طفل حاد الذكاء ويمر في مرحلة طبيعية في عمره وهذه المرحلة تعبِّر عن الاستقلال وإثبات الذات التي اسمها أحد علماء النفس “بالمراهقة الأولى”؛ والقضايا التي ذكرتها، مثل: رغبته في الاغتسال، وقضاء الحاجة، والأكل، ولبس الثياب من المفترض أن يقوم الطفل بها بنفسه في هذا العمر، وحتى لو أطال في الغسيل فهو أيضًا طفل ويمارس اللعب معظم وقته، أما ما يخص الألعاب الحربية وحركات العنف فهي أيضًا طبيعية للأطفال في هذا العمر، وربما يختلف طفل عن آخر، فلا مجال للمقارنة مع الطفل الأكبر؛ لأن الظروف البيئية والاجتماعية التي أحاطت تربية كل منهما كانت ولا شك مختلفة.

وحسب الرسالة فقد ذكرت بأنك والأم تقضيان معظم الوقت مع الأطفال، ولكن أين محور الاهتمام؟ فلا بد أن الأم مشغولة بالاعتناء بالطفل الأصغر الذي يأخذ معظم وقتها، ووقتها الآخر موزع بين الجميع، كما أعتقد والجدير بالذكر أن الأطفال منذ نعومة أظفارهم يتعلمون سلوك التحدي والعناد لعدة أسباب، منها:

– جذب الانتباه، وإثبات الذات، والنشاط الزائد، والاستقلال، وتقليد البالغين، وقد يتمادى بعض الأطفال لإظهار القوة والتحدي في هذا الأسلوب، ولكن لا أعتقد أن عبد الرحمن تمادى، والواقع أن الدراسات الحديثة أثبتت أن الأطفال الذي يظهرون عنادًا وميلاً إلى الاستقلالية هم أكثر قدرة من الأطفال الآخرين على مواجهة الحياة والنجاح فيها، بينما أثبتت الدراسات أن الأطفال الأكثر خضوعًا هم من ينقادون بسهولة إلى أصدقاء السوء، ويقعون فريسة سهلة للعصابات والمخدرات والعياذ بالله، فأي الطفلين تبغي أن يكون عبد الرحمن منهما؟

والطفل بشكل عام ينتقل من مرحلة العناد والتحدي إلى مرحلة الاستقرار النفسي والأخذ والعطاء في الفترة ما بين الرابعة والسادسة، وكلما كان الوالدان على درجة معقولة من الصبر، والعون، والتفاهم لنفسية الطفل ساعداه على اجتياز هذه المرحلة، والعكس صحيح.
وفيما يخص ضرب عبد الرحمن الآخرين برجله فلا أجد تفسيرًا لهذا السبب، ولكن قد يرجع إلى خبرة إيجابية بالنسبة له، فربما يقوم شخص يحبه عبد الرحمن باللعب معه بهذه الطريقة، وعقله الصغير فسَّرها على أنها أمر جيد وإلا فلِمَ قام هذا الآخر باللعب معه بهذه الطريقة؟ أقول ربما.. أو أنها محاولة منه للفت الانتباه، أو لإظهار مدى قوته، أو أنه كان يتجاوب مع من يلاعبه وهو أصغر من ذلك بهذه الطريقة وكانت تلاقي استحسانًا.

أما أهم النصائح التي قد تفيدكم مع عبد الرحمن:
– غضّ البصر عن أنواع العناد الخفيف الذي لا يضر بالطفل ويساعده في التنفيس عن طاقته الزائدة، مثل: اللعب بالماء، وكما يقولون تخير ميدان المعركة.

– الصبر والتعاون، ومحاولة فهم نفسية الطفل، ومعرفة سبب العناد، وعلاج أصل المشكلة بدلاً من النتائج حتى نحاول تقليصها قدر الإمكان؛ فإن هذا من شأنه استثمار إيجابيات هذا السلوك، وهو التدريب على الاستقلالية والإعداد لمواجهة الحياة والنجاح، وسنورد لك في نهاية الاستشارة استشارات معينة في كيفية التعامل مع سلوك العناد وتوجيهه الوجهة السليمة.

– وبالتالي لا بد من استغلال العناد إيجابيًّا لمصلحة الطفل عن طريق توجيهه إلى هوايات أخرى تشغله، وتساعد على استنفاد طاقته الجسمية الزائدة التي تشبع حبه للسيطرة وإثبات الذات، مثل: اللعب في الأماكن المفتوحة، أو ألعاب الكومبيوتر المعتمدة، وفي هذا الجانب لابد من اختيار الألعاب التي تتناسب مع عمره وقدراته، وتحمل مضمونًا تربويًّا وقيميًّا.

– توفير الجو الأسري المستقر، وتوزيع الحنان والحب على جميع الأعضاء وقت الحاجة، وعدم اللجوء إلى القوة لتغيير الموقف، وهو ما قد يزيد الأمر سوءاً بحيث تزيد حدة العناد والتحدي، ويضع الأب نفسه موضع منافس بدلاً من موضع مربٍّ، وهذا قد يدفع الطفل إلى زيادة العناد والتحدي، وأنه الأسلوب الأمثل لمواجهة تلك المواقف، وستجد تفصيلاً لهذا في استشارتي: علاج العند بقوانين الكرة، وحتى لا يخبو ذكاء الأطفال- وسنوردهم لك في نهاية الاستشارة-.

ومن الأفضل تقديم الخيارات بدلاً من إجباره، فعلى سبيل المثال: هل تود ارتداء القميص الأبيض أو القميص الأبيض الآخر.. المهم أن الاختيارين اللذين تقدمهما يتوافقان معك، ولكن تعطيه فرصة لإثبات ذاته وإشعاره بأنه هو من قام بالاختيار.
أسأل الله العلي القدير أن يعيننا وإياكم على تربية أبنائنا إنه القادر عليه.

من فضلك انقر هنا لمطالعة الاستشارات التي أشرنا إليها:
علاج العند بقوانين الكرة
حتى لا يتحول الذكاء إلى نقمة
العند.. الحل السحري في القصص
العدوانية بين الضرورة ورد الفعل
الخروج عن الطوق.. بالعناد

د. طلال  إبراهيم  المسعد