يعاني العالم من محن اقتصادية متوالية، وقد جرب مناهج اقتصادية عديدة من أجل الوصول إلى مستقبل إنساني أفضل، ووضع الماديون العديد من القوانين والأعراف الاقتصادية، نظّر فيها الرأسماليون لأساطير الرفاهية الاقتصادية، وتوجت العولمة الاحتكارية قمة الفشل الإنساني في تسيير الاقتصاد بما يخدم البشرية.ولقد انحدرت البشرية إلى مستنقع صار من الصعب الخروج منه؛ لأن الإنسان تصور أنه يمكنه التعامل مع القوانين المادية بمعزل عن الأخلاق. فلم يأخذ بما أوصت به الأديان من طرق للمعاملات الاقتصادية، وقد أرسى الإسلام جملة من القواعد الأخلاقية، وأكد عليها؛ تنظيما للمعاملات المادية. هذه المعاني أكدت عليها الطالبة “أميرة علي غالب اليماني” -وهي سعودية الجنسية- في أطروحتها لنيل درجة العالمية “الدكتوراه” من كلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر، تحت عنوان “منهج القرآن في علاج الفساد الاقتصادي”، والتي نوقشت خلال شهر فبراير 2006م.
وشددت الباحثة على أهمية الأخلاق الإسلامية في الوقاية من الجرائم الاقتصادية، وخاصة خلق الحياء، مذكرة بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان” (رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه).
وأوضحت الباحثة أن الحياء خلق يبعث على ترك القبائح والمعاصي والمخالفات الشرعية، ويكف المسلم عن ارتكاب الجرائم الاقتصادية، فمن عنده خلق الحياء من الله -عز وجل- لا يغش ولا يحتكر ولا يسرق ولا يتاجر بالمحرمات؛ لأنه يعلم أن الله مطلع عليه ويراقبه، ويعرف أحواله وتصرفاته، فلذلك يعتدل في سلوكه وتصرفه.
ودعت الباحثة الدول الإسلامية إلى المسارعة في تطبيق نظام الاقتصاد الإسلامي، وفق أحكام الشريعة الإسلامية المستمدة من كتاب الله، وعدم الجري وراء النظم الاقتصادية الوضعية؛ واعتبرت أن ذلك هو السبيل للقضاء على صور الفساد الاقتصادي الذي استشرى في مجتمعاتنا.
وركزت الباحثة في الفصل السادس من الجزء الثاني من الرسالة على علاج الفساد الاقتصادي في ضوء القرآن الكريم. وأفردت لذلك مبحثين؛ الأول في علاج الفساد الاقتصادي عن طريق الترغيب في ضوء القرآن الكريم، والثاني علاج الفساد الاقتصادي عن طريق الترهيب في ضوء القرآن الكريم والتشريع البديل.
وفي هذا السياق، أوضحت أن المبدأ القرآني جاء شاملا في معالجة الفساد الاقتصادي بالترغيب عن طريق اتصال الشريعة الإسلامية بضمير الإنسان، وجعله رقيبا على نفسه؛ وهو ما يحقق عدة أمور تتمثل في:
1 – تطهير الناس من الآثام، وتخليصهم من سوء المعاملات.
2 – تنمية المال، وتزكيته.
3 – تحقيق الضمان الاجتماعي لكل أفراد المجتمع من خلال سدّ العوز والحاجة، وحمايتهم من مذلة السؤال التي قد يعاني منها الفقراء والمساكين.
الإسلام والجرائم الاقتصادية
وأشارت الباحثة إلى أن الإسلام قد شن حربا لا هوادة فيها على الجرائم الاقتصادية، وقد جاء القرآن صريحا ومباشرا في النهي والتحذير من ارتكابها. فرصدت عددا من الجرائم الاقتصادية، وعرضت وسائل العلاج والتخلص منها، مثل:
- جريمة “أكل أموال الناس بالباطل”؛ إذ اعتبر القرآن هذا الفعل إثماً وتعدياً على حقوق الآخرين، فنهى عنه وحذر منه. قال تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
- جريمة “أكل الربا“، حيث أعلن الإسلام الحرب على المرابين، وتوعدهم الله بعذاب شديد بل واعتبر المرابي محاربا لله ورسوله ما لم ينته. قال تعالى: (يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ*فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ). وقال أيضا: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا).
- جريمة “الاحتكار”، فقد حرم الله الاحتكار لما يجره من إثراء فاحش وكسب غير مشروع دون عمل وجهد. قال ﷺ: “من احتكر فهو خاطئ”، والخاطئ هو العاصي والآثم.
- ويقول الفقهاء: من احتكر سلعة على الوجه الممنوع يجب عليه أن يتوب إلى الله تعالى، ويخرج السلعة إلى السوق ويبيعها لأهل الحاجة إليها بالسعر الذي اشتراها به ولا يزيد عليه شيئا؛ لأنه منع الناس منها بشرائها بغير وجه حق، فيجب أن يمكنهم منها بالسعر الذي كانوا يشترونها به لو لم يتعدَّ عليها.
- جريمة “الرشوة“، لقوله تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، إذ تؤدي الرشوة إلى الظلم، وطمس الحقوق، وقلب الوقائع وتقدم الجهلاء، وتأخر الأكفاء، وفساد الأخلاق والأعمال.
- جريمة “القمار والميسر والرهان، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ)، لأنه يؤدي إلى انتشار الأحقاد والتباغض بين الأفراد ويذهب المودة والرحمة فيما بينهم، ويؤدي إلى وضياع الأموال وإنفاقها في غير مصلحة.
- جريمة “أكل أموال اليتامى”، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً).
- جريمة “الغش”، فقد حرم الإسلام الغش بجميع أنواعه، وعلى رأسه الغش التجاري، لأنه من وسائل الكسب غير المشروع، وهو طريق للنار.
- جريمة ” اكتناز الأموال”، وعدم استثمارها والعمل بها، وعدم إخراج الزكاة منها، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ).
- جريمة “التجارة في المحرم” وإنتاج السلع الضارة، كالخمر، لقوله تعالى: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
- جريمة “البغاء”، وهي جريمة شنيعة، وفعلة رديئة، نهانا الله عن ارتكابها، وحذرنا من الوقوع فيها. قال تعالى: (وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
- جريمة “بناء الملاهي والمراقص وبيوت الدعارة”؛ لما فيها من إشاعة للمنكرات، ومدعاة إلى الفاحشة، ومن ثم فالكسب منها محرم، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
- جريمة “السرقة”، حيث حذر الله منها، وجعل قطع يـد السارق عقوبة منه سبحانه لمن يقترفها، قال تعـالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
الإسلام وزيادة الإنتاج
وانتهت الباحثة إلى عدد من النتائج، في مقدمتها ضرورة الالتزام بضوابط الإنتاج التي أكد عليها القرآن الكريم، ومنع الإسراف في استخدام الموارد، والعمل على إزالة الضرر، والأخذ بأولويات الإنتاج، وتجويد وإتقان المنتج. مشيرة إلى أن “القيم الإسلامية لها دور بارز في زيادة الإنتاج نوعا وكما من خلال القضاء على الجرائم الاقتصادية، كالغش والخداع والربا والاحتكار”.
كما أن الحس الأخلاقي هو الذي يجعل الناس يشعرون بالعمل القبيح وينفرون منه، ويشعرون بالعمل الحسن، ويقبلون عليه، وهو المانع لارتكاب الجرائم الاقتصادية التي تؤثر على الفرد والمجتمع، قال الرسول ﷺ: “البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس”.
المادية والفساد
وقد تشكلت لجنة المناقشة من كل من: الدكتور محمد عبد المنعم خرابة -أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالقاهرة- “مشرفا”، والدكتورة مهجة غالب -أستاذة التفسير وعلوم القرآن بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالقاهرة- “مشرفا مشاركا”، والدكتور عبد الفتاح عاشور -أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر- “مناقشا”، والدكتورة عفاف النجار رئيسة قسم التفسير وعلوم القرآن بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالقاهرة- “مناقشا”، وقد أجازت اللجنة الرسالة ومنحت الباحثة درجة الدكتوراه بتقدير “امتياز مع مرتبة الشرف الأولى”.
وحول نظرة لجنة المناقشة لهذه الرسالة باعتبارها محاولة في إدخال النصوص القرآنية حيز التنفيذ العملي في المجال الاقتصادي؛ تشير الدكتورة مهجة إلى أن الرسالة تقرير لمبدأ تناسته بعض المجتمعات، وهو أن القرآن لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا تحدث عنها بما فيه صلاح كافة المجالات.
وقالت د.مهجة: إن الباحثة دعمت شرحها لمنهج القرآن في علاج الفساد الاقتصادي برصد القواعد الأخلاقية التي أرساها الإسلام في التعاملات الاقتصادية، وركزت على جانبي الترغيب والترهيب المذكورين في القرآن؛ وهما أمران يحققان نوعا من العدالة الاقتصادية القائمة على اتباع أوامر الدين.
ومن جهتها، أشارت الدكتورة د.عفاف إلى أن المادية هي سبب رئيسي من أسباب الفساد الاقتصادي الذي يتخذ عدة صور ومظاهر، منها: ضعف الخلق الوظيفي، وفشل التنمية في رفع مستوى المعيشة، وغياب التأديب أو العقاب الحازم للفاسدين، والوساطة والرشوة، وتقديم المصالح الخاصة على العامة، والاحتكار والغش.
واعتبرت الدكتورة عفاف أن استناد الرسالة إلى الآيات القرآنية في علاج قضية كبرى كالفساد الاقتصادي من شأنه تأكيد أن الاقتصاد عمل ديني ودنيوي وأخلاقي، خاصة أن الأخلاق هي أساس المعاملة والاقتصاد، ومن ثم كان للرسالة أهميتها لتأكيد البعد الإيماني في مجال زاد فيه خراب الذمم.