ألم .. فسؤال .. فجواب .. وتشخيص .. فعلاج، فتجريب للعلاج، فتقييم وتعديل، ثم في النهاية وصفة علاجية منهجية مفصلة ومبتكرة.. هكذا كانت الرحلة الطويلة لـ “مها شحادة” مع منهاج التفكر خلال رحلة من البحث طالت إلى 10 أعوام، وتوجت ثمراً يانعاً يرعاه “مركز التفكر للتدريب والتطوير التربوي” فتذوق أطايبه ثلاثة وعشرون مؤسسة ما بين مدرسة وروضة ومركز وجمعية تنتشر بين ثمانية من بلدان العالم، وقبلها كانت رحلتها الخاصة مع الإيمان من خلال البحث والتفكر أيضا والتي امتدت عامين.
“التفكر”.. بين رحلتين
ولدت مها سمير جميل شحادة في الكويت في 26 نوفمبر عام 1970 لأسرة أردنية مسيحية ذات أصول فلسطينية من حيفا، وأتمت تعليمها الثانوي في مدرسة للراهبات بعمان، ثم درست علوم الحاسب في الجامعة الأردنية بداية من عام 1988، وهو نفس العام الذي اهتدت فيه إلى الإسلام بعد رحلة للتأمل والتفكر والدراسة الذاتية بدأتها منذ عام 1986، وهي الرحلة التي قالت عنها “تخيّلت ذاتي قد وُلِدتُ في جزيرة نائية لا يوجد فيها من يوجّهني لأيّ ديانة، وتخيّلت أنّي قد كبرت وبدأت أتأمّل في هذا الكون، حينها وجدت أنّ تفكيري سيقودني لحتميّة وجود من خلق هذه الجزيرة بكلّ طبيعتها وبكلّ ما يعتريها من ليل ونهار وطقس، حينها سأستدلّ على أنّ الله واحد من غير أن يحدّثني أحدهم بالإسلام”.
أما رحلتها الأخرى فقد بدأتها “مها” عام 1996، مرت خلالها بعدة مراحل بدأت بالإحساس بالمرض أو شرارة الفكرة التي جاءت وليدة مشاعر الألم من الضعف الذي تمر به الأمة، والمرتبة المتأخرة التي تتذيلها، تلتها مرحلة دراسة الأسباب: حيث بدأت مها رحلتها البحثية في محاولة لدراسة أسباب الضعف التي تعاني منها أمتنا، فوضعت مرض الوهن الذي شخصه الرسول ﷺ قاعدة لهذه الدراسة، والوهن مرض قلبي دواؤه “حب الله تعالى والتعلق به”، فمن هنا كانت أهداف غرس حب الله في نفوس الأطفال أساساً في منهجية هذا البحث، ثم عكفت على تحديد الأسباب الأخرى التي تعوق التطور والنهضة فحددت منها ضعف القدرة على التفكير الإبداعي، وضعف القدرة على الإنجاز، وضعف الوازع الأخلاقي، وضعف الانتماء بتقديم المصلحة الفردية على مصلحة الأمة.
وهنا دخلت “مها” مرحلة العكوف على وضع الحلول لتلك المشكلات مستعينة بالقراءة في دراسات علم النفس والتربية خاصة في مرحلة الطفولة المبكرة، كما حصلت على الدبلوم العالي في التربية من جامعة عمان للدراسات العليا.
وفي عام 1996 بدأت بتجربة الحلول المختارة: حيث بدأت ألفت أول منهاج تجريبي شاركت معها في تطبيقه ثلاثة رياض أطفال في الأردن، ثم قامت بالتعديل عليه وإعادة تأليفه كاملاً ومن ثم تجريبه ثلاث مرات في عدد من المدارس ورياض الأطفال على مدى الأعوام 2000، 2001، 2002.
وخلال ذلك اكتشفت فكرة استخدام “عبادة التفكر” لغرس حب الله تعالى في نفوس الأطفال، ومن ثم دراسة كيفية تحويل هذه العبادة العظيمة إلى نموذج تعليمي في الغرفة الصفية للإفادة من أثرها على نفس وعقل وروح وسلوك الإنسان، حتى توصلت إلى “نموذج التفكر التعليمي المبتكر”، وهو النموذج الذي حصلت عنه على درجة الماجستير في علم النفس التربوي.
وعلى مدى ثلاثة أعوام انطلقت لتطوير برامج تفصيلية من منهاجها الجديد؛ حيث قامت بتطوير وحدات تعليمية من المنهاج وتجريبها على مدى أعوام 2003، 2004، 2005، بهدف دراسة أثر الاستراتيجيات التعليمية المستخدمة على شخصية الطفل، ثم قامت بفحص الاستراتجيات التعليمية المستخدمة في المناهج العالمية الحديثة عن طريق دراسة قرابة ثلاثين منهاجاً عالمياً في بناء القيم وتقدير الذات، وتنمية التفكير والإبداع والذكاء.
ولأنه لا رحلة بلا صعوبات، فقد واجهت “مها” صعوبات كثيرة لعدم وجود مؤلفات سابقة نظرية أو عملية في كيفية غرس حب الله تعالى في نفوس الأطفال، ولحاجتها للبحث والدراسة في علوم متنوعة وكثيرة مع استمرارية التطبيق والتقويم من أجل أن تنضج هذه الفكرة، حيث تنقلت بين علوم القرآن الكريم والتفسير والعقيدة، والفكر الإسلامي وعلم السلوك، وعلم المناهج وأساليب التدريس، وعلم النفس التربوي، والإرشاد النفسي، والدراسات المقارنة.
ملامح منهاج التفكر التعليمي
و”نموذج التفكر التعليمي” هو نموذج يهدف إلى تحويل عبادة التفكر إلى نشاط إجرائي في الغرفة الصفية، يرتكز النموذج على آلية التفكر وأدواته، ويعمل على بناء الإيمان وغرس حب الله في نفوس الأطفال، كما ينمي قدرات التفكير الإبداعي والتفكير الناقد وجملة من الذكاءات المتعددة في الوقت ذاته، ويساعد في تطوير السلوك الأخلاقي.
وبذلك فإن هذا النموذج يعمل على تنمية الطفل تنمية متكاملة، للإفادة من أثر هذه العبادة العظيمة على نفس وعقل وروح وسلوك الإنسان، وعلى تحصين الجيل القادم بحب الله والإيمان اليقيني الذي ينتج عنه السلوك الأخلاقي الذي ترقى به أمتنا.
ويقوم البناء التنظيمي للمنهج الذي يحقق تلك الأهداف على نظام الوحدات التي تحقق كلاً منها بناءاً تراكمياً للأهداف والمفاهيم، مع التركيز على ثلاثية بناء (الإيمان والقيم الأخلاقية وتقدير الذات) باستخدام نموذج تعليمي مبتكر يستند إلى التفكر من أجل بناء الإيمان وتطوير السلوك الأخلاقي.
ويتركز النموذج التعليمي حول دور الطالب، مع توظيفه لمبادئ أبحاث الدماغ في تصميم دروس المنهاج، واستناده إلى نظرية الذكاءات المتعددة، واستراتيجيات التفكير الناقد والإبداع، مع مراعاة خصائص النمو في مرحلة الطفولة، مستخدمة شخصية “أنوس” نموذجاً، مع استخدام القصص التي تغرس الحب، والأحاديث والأدعية، والأناشيد، والألعاب، والمشاريع التي يقوم بها الطفل في كل وحدة تعليمية، واستخدام استراتيجيات حل المشكلات والتخيل الموجه، وبناءاً على ذلك ينقسم المنهج إلى ثمانية مستويات، تبدأ من سن الرابعة وتنتهي في سن الثانية عشرة.
من المنهاج إلى المؤسسة
لم تكتف “مها” ببناء المنهج والنموذج ووضعه في بناء تراكمي وتجريبه، بل إنها أنشأت مؤسسة “مركز التفكر للتدريب والتطوير التربوي” والذي يشرف على تأهيل مدرب التفكر المعتمد، ومساعدة المؤسسات التعليمية على النهوض بكوادرها من خلال برامج تعليم التفكير وتنمية الإبداع والذكاء.
كما يقوم المركز بإعداد مناهج ترتكز على نموذج التفكر التعليمي، والعمل على إحياء عبادة التفكر وتقديمها عالمياً عن طريق هذا النموذج، والقيام بالبحوث العلمية التي تساعد في تطوير البرامج التربوية، كذلك يشرف المركز على إقامة علاقات مهنية مع المؤسسات التعليمية والتربوية العربية والإسلامية.
ومن أجل القيام بتلك المهام يقوم المركز بطباعة ونشر وتوزيع منهاج التفكر محلياً وعربياً وإسلامياً، وعقد دورات تدريبية داخل الأردن وخارجه لإعداد الكوادر التعليمية، وعقد ندوات ومؤتمرات لمناقشة المنهاج، وإجراء البحوث والدراسات لتطوير المناهج الدراسية لدمج مهارات التفكير والإبداع والذكاء فيها، ومن أجل ذلك ينقسم المركز إلى أقسام: التدريب والتطوير، والطباعة والنشر، والبحوث والدراسات، وتنظيم الندوات والمؤتمرات، وقسم الترجمة.
ملتقى تربوي
المتأمل لتجربة مها شحادة ومنهاج التفكر يستطيع أن يخرج بعدد من الدروس والملاحظات؛ أولها أن الإنسان حر الإرادة القادر على التفكير المنطقي والمنهجي والمبدع في آن واحد هو البضاعة أو الصناعة التي يجب أن تتوجه إليها جهود الأمة لتغيير حالها اليوم وغداً.
وثاني هذه الدروس أننا نحتاج إلى بذل الكثير من الجهد لتحويل القيم والمعاني القرآنية المجردة التي خوطبنا بها منذ ما يزيد عن 14 قرناً إلى مناهج وبرامج لتحويلها إلى أناسي من لحم ودم يمشون على الأرض، وأن أمامنا الكثير لكي نفعل ذلك، ولما نفعله بعد.
وثالثها؛ أن هناك الكثير من الجهود التعليمية والتربوية التي حاولت في الماضي القريب، والتي تحاول في الحاضر المشاهد أن تسير في نفس طريق “المنهاج”، ويبدو أننا نحتاج الكثير حتى يحدث التعارف، وتبادل الخبرات والمعارف وتراكمها في هذا المجال منعاً للتكرار وبداية كل تجربة من الصفر، ولعل شيئاً مثل تنظيم ملتقى دائم لأصحاب تلك الخبرات والتجارب والمهتمين بها يكون حلا مثالياً لهذا الأمر.
تبقى في النهاية رحلة “مها شحادة” سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى العملي العام نموذجاً في الإرادة والإبداع لا يصعب تكرارها بتوفيق الله، وهو الدرس الذي أشارت إليه صاحبته، والذي علينا أن نستصحبه دائما في سعينا: “ربما كانت التحديات كثيرة ولكن تيسيرات الله ورحمته لم تفارق هذا البحث”، وهي بالتأكيد لن تفارق كل ساعٍ للنفع والمصلحة العامة ابتغاء مرضاة الله.