الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان جهازا (جهاز الاختيار)، يختار ما يشاء دون إجبارٍ من الله تعالى، والسبب في منح الإنسان هذه الخاصية هو عدالة الله في محاسبة الإنسان على أعماله، ولو كان الإنسان مجبوراً على أعماله وليس له خيارٌ في الضلال أو الهداية، لما كان هناك عدلٌ في الحساب، حاشا لله تعالى أن يفعل ذلك وهو أحكم الأحكمين.
وانطلاقاً من هذه المسلَّمة فإنَّ الله تعالى يرى العبد الذي يختار، فإن اختار طريق الحقِّ بمحض إرادته أعانه وزاده هدى، كما قال تعالى: “والذين اهتدَوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم”، أمَّا من يختار الضلال بمحض إرادته فإنَّ الله تعالى يزيده ضلالا، كما قال تعالى: “قل من كان في الضلالة فلْيمدُدْ له الرحمن مدّا…”.
فالله تعالى يعرض الحقَّ للجميع دون تفرقة، والإنسان هو الذي يقرِّر أيَّ الفريقين يختار.
وتنقسم الهداية إلى قسمين:
1 – هداية التوفيق، أي تثبيت الحقِّ في القلوب، وهذه لا يملكها إلا الله عزَّ وجلّ.
2 – هداية الدلالة، أي عرض الهداية للجميع عن طريق الرسل والدعاة والكتب السماويَّة، وهذه يشترك البشر مع الله تعالى فيها.
فإذا اختار الإنسان عن طريق جهاز الاختيار طريق الصلاح؛ هداه الله هداية التوفيق وثبَّت قلبه على دينه.
أما أدلَّة عرض الله الحقَّ للجميع، واختيار الإنسان بمحض إرادته أحد الطريقين فقوله تعالى في سورة فصِّلَت: “وأمَّا ثمود فهديناهم فاستحبُّوا العَمَى على الهدى فأخذتهم صاعقةُ العذاب الهُونِ بما كانوا يكسبون”، أي أنَّ الله عرض عليهم الحقَّ (هداية الدلالة)، فاختاروا العَمَى أي الضلال فعذَّبهم الله، وقوله تعالى: “إنَّا هديناه السبيل إمَّا شاكراً وإمَّا كَفُورا”،
وقوله تعالى: “ونفسٍ وما سوَّاها، فألهمها فجورها وتقواها”، أي أنَّها قادرةٌ على اختيار الحقِّ أو الباطل.
أمَّا عن الرجلين فهذان ليسا من أمَّة محمَّدٍ ﷺ، بل من الرسل الذين سبقوا رسولنا ﷺ، وإذا كنت تتَّبع الحقَّ وتثبت عليه وتدعو له دون الالتفات إلى المعاصي فالله يثبِّتك عليه إن شاء الله حتى النهاية، أمَّا إذا ضعفت واخترت طريق الغواية، فأنت الذي اخترت عدم رعاية وتثبيت الله لك.. هذا هو المعيار،
وهداية الله وتيسيره لا تأتي إلا بعد قيام “جهاز الاختيار” في نفسك باختيار طريقه تعالى، فالإقبال على الله تعالى له شقَّين متتابعين:
الأوَّل يبدأ من المسلم نفسه ومن “جهاز اختياره”، ويليه هداية الحقِّ من الله تعالى.
ونطرح هذا السؤال : لماذا سيضلُّ الله سبحانه من اختار طريق هدايته؟
قال تعالى { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليما }، إنَّ العكس هو الصحيح، والشواهد كثيرة.
يقول تعالى في آيات سورة النمل الرائعات: { أمن يجيب المضطَّرَّ إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإلهٌ مع الله قليلاً ما تذكَّرون، أمَّن يهديكم في ظلمات البرِّ والبحر ومن يرسل الرياح بُشْراً بين يدَي رحمته أإلهٌ مع الله تعالى الله عمَّا يشركون، أمَّن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإلهٌ مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} ، وفي الحديث: “أحبُّوا الله لما يغذوكم به”رواه الترمذيُّ والحاكم، وقال: هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
فإلهٌ يمنحنا كلَّ هذا، يضلُّنا إذا أردنا التقرُّب منه؟؟ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرا.
وفي الحديث القدسيِّ يقول الله تعالى:”…ومن تقرَّب منِّي شبراً تقرَّبتُ منه ذراعا، ومن تقرَّب مني ذراعاً تقرَّبت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقِراب الأرض خطيئةً لا يشرك بي شيئاً لقيتُه بمثلها مغفرة”رواه البخاريُّ ومسلم.
فإلهٌ يسعى إلينا وهو الغنيُّ عنَّا، يضلُّنا إذا أردنا التقرُّب منه؟؟ نحمد ربنا ما أرحمه بعباده.
وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم: “لله أشدُّ فرحاً بتوبة عبده، حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيِس منها، فأتى شجرةً فاضطَّجع في ظلِّها، قد أيِس من راحلته، فبينَّا هو كذلك إذا هو بها قائمةٌ عنده، فأخذ بخطامها، ثمَّ قال من شدَّة الفرح: اللهمَّ أنت عبدي وأنا ربُّك، أخطأ من شدَّة الفرح.
فإلهٌ يفرح بتوبتنا إلى هذه الدرجة، يضلُّنا إذا أردنا التقرُّب منه؟؟ قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون.
والأمثلة أكثر من أن تُحصَى، وحسبنا من الاستدلال الإثبات، و”الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثمَّ الذين كفروا بربِّهم يعدلون”.
الشيخ عبد الحميد البلالي5>